"في الوقت الذي يؤخّر تقليص موازنتنا الدفاعية التفوّق التّكنولوجي الأمريكي، فإن الصين وغيرها من الدول تسعى إلى تحقيق توازن عسكري مع الولاياتالمتحدة، ويبدو في بعض الأحوال أنها تتقدّم علينا." رئيس لجنة القوات المسلّحة في مجلس النواب الأمريكي، باك ماكيون، Buck McKeon. أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، صباح الإثنين الماضي، أن وحدة من الجيش الأمريكي مُختصّة في أنظمة الصواريخ التي تعمل بالموجات فوق الصوتية، hypersonic، قد اضطرّت إلى تدمير سلاح، بعد أربع ثوان فقط من إطلاقه، في مجمع كودياك، Kodiak Launch Complex، لإطلاق الصواريخ بآلاسكا، وذلك عقب اكتشاف مراقبي التجربة مشكلة في النظام. فشل التجربة أكّدته المتحدّثة بإسم وزارة الدفاع الأمريكية، مورين شومان، Maureen Schumann، التي صرّحت بمرارة: "اضطررنا لتدميره...إنفجر السلاح عند إطلاقه وسقط مرة أخرى في نطاق المجمع"، موضحة أنّ "المهمة أُحبطت حفاظا على سلامة العامة وأنّ أحدا لم يُصب خلال التجربة التي أجريت". تسبّب الحادث في مقدار من الأضرار لحقت بمرافق مجمع الإطلاق لكن المعلومات الشحيحة التي رشحت، لم تحُدّد بعد طبيعتها. كلا ليس هذا الإختبار الأول الذي تجريه الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما ليست برامج الأسلحة خارقة السرعة، أو ما يُعرفAdvanced Hypersonic Weapons وليدة اليوم. إذ يمكن ربطها بما كان يُعرف ب"مبادرة الدفاع الإستراتيجي" أيام رئاسة رونالد ريغان، والتي تمّ إحياؤها سنة 2003، ضمن برنامج جديد، تحت مُسمّى فالكون: "Force Application and Launch from Continental United States" FALCON، بغية "تصميم منظومات أسلحة فائقة السرعة تطلق من الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها لتهاجم أهدافا في أي مكان في العالم في ساعة أو نصف ساعة فقط" !فالولاياتالمتحدة تُعدّل إستراتيجياتها العسكرية وفق مقاربات تستأنس بالتحوّلات الجيوسياسية الجديدة والطارئة، وهي التي أضحت تراهن على جيوش وعتاد أكثر ملائمة لما تسمّيه "الحروب الذكية، Smart Wars"! فكان أن عهدت «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة، the Defense Advanced Research Projects Agency, or DARPA » التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، إلى شركات صناعية عملاقة، خصّصت لها الموارد والمنح، لتقوم بدراسات غايتها إنتاج صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت تُدعى "الواسطة الجوالة فوق الصوتية، أو "hypersonic cruise vehicle (HCV)"، ضمن إستراتيجية عسكرية تسعى إلى ضرب أهداف عسكرية بعيدة وخطرة، يمكن إصابتها في وقت أقصر ممّا تستغرقه الصواريخ الحالية، البطيئة نسبيا، ودون اللّجوء إلى إستخدام قواعد عسكرية داخل دول أجنبية. برنامج مُعقّد، ومُكلف وغير مأمون العواقب، إذ يؤكّد الخبراء أنه لا يخلو من تحدّيات تقنية ومخاطر جسام، حيث "أنّ اختراق الأجواء بسرعة فوق صوتية يستوجب مواد تقاوم الحرارة العالية الناتجة عن الاحتكاك بالهواء، أما المرور في الفضاء، أي فوق طبقات الجو، فيتطلّب استحداث نوع جديد من الصواريخ تكون مزيجا بين الصاروخ والطائرة". لعلّ هذا ما حدا بمديرة مركز معلومات الدفاع في واشنطن، تيريزا هتشنز، Theresa Hitchens ، إلى قرع ناقوس الخطر قائلة: "ليس الصراع الحربيّ في الفضاء حتميا، لكن التَحَوّلَ الذي جرى منذ عهد قريب في سياسة الولاياتالمتحدة وأعمال الصين الاستفزازية، أبرزا حقيقةَ اقتراب العالَم من مفترق طرق. لذا توجّب على البلدان الدفاع عن مصالحها الذاتية، وذلك بالتصدي لاختبار واستعمال الأسلحة المدارية...يجب على أمم الأرض أن تبتّ على عجل في مسألة ضرورة الحفاظ على الطابع السلمي لاستكشافات البشر للفضاء." ألم تنفق أكثر من 200 مليون دولار، فقط خلال العام 2013، على ثلاث مشروعات مختلفة تهدف إلى تطوير هذه النوعية من المركبات التي تخترق سرعة الصوت، قادرة على تدمير أهداف في أي مكان، في غضون ساعة من وصول البيانات وأمر الاطلاق، لتوفّر للولايات المتحدة تفوقا عسكريا نوعيا، لم يعد مضمونا في ظلّ المنافسة المحمومة؟! ما يؤكّده الخبراء الأمريكيون أنّ هذا النوع من الصواريخ يُراد به "ضرب الأهداف التي يتمّ تحديدها من قبل الأقمار الصناعية على بٌعد آلاف الأميال أو تدمير أسلحة دمار شامل قد يتمّ نقلها في أماكن مكشوفة"، ما يجعل أمن بقية الأمم مُستباحا! يأتي فشل الإختبار الأمريكي، بعد أشهر فقط، من تمكّن الصين، في التاسع من جانفي الماضي، تحديدا، من إطلاق نظام صواريخ أسرع من الصوت، ويمكنها حمل رؤوس نووية بسرعة أكبر من 12359 كيلومترا في الساعة! حوالى ضعف ما فشل فيه البنتاغون. الصاروخ الصيني المُسمّى "وو-14 ، WU-14" ينفصل عن الصاروخ الباليستي على ارتفاع 100 كيلومتر، ويستمرّ في تحليقه صوب الهدف بسرعة تفوق 10 أضعاف سرعة الصوت، 10 Mach، ما يجعله قادرا على اختراق الدرع الصاروخية الأمريكية، The Pentagon Shield program، الذي أهدرت من أجله وزارة الدفاع الأمريكية أرقاما فلكية. قلق الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تبدّده رسائل إدارة المعلومات في وزارة الدفاع الصينية التطمينية، التي تُصرّ أنّ "البحوث العملية والتجارب التي تجريها الصين لا تستهدف أية دولة ولا أي هدف في العالم." إذا كان باراك أوباما يمنّي النفس ب"صعود سلمي" للصين ويأمل في قيام "علاقة تعاونية قوية" بين الشعبين في إطار "نموذج جديد للتعاون" مع بكين، رغم ملفات و"مجالات التوتّر" العالقة، فإنّ نظيره الصيني، شي جين بينغ، يذهب أبعد ليعلن رغبة صينية ملحّة في صياغة "نموذج جديد في العلاقات بين البلدين الكبيرين". نموذج جديد، يختزل ملامحه شعار ابتدعه الرئيس شي جينبينغ نفسه هو: الحلم الصيني في موازاة أو تضادد مع الحلم الأمريكي! أما عن الحلم الصيني فخير من يفكّك تفاسيره، العقيد المتقاعد، ليو مينغفو، Liu Mingfu، صاحب كتاب يحمل عنوانا، عميق الدلالات، هو: "الحلم الصيني: تفكير القوى العظمى والتموضع الإستراتيجي في حقبة أفول القوة الأمريكية، The China Dream: Great Power Thinking and Strategic Posture in the Post-America Era."، والذي أعرب فيه عن الرغبة في تحويل الصين إلى "القوة المهيمنة في العالم". ليو مينغفو يقول بوضوح: "منذ القرن التاسع عشر كبت الصين على المسرح الدولي، ولكن الرئيس شي يحلم ببناء أمة قوية وجيش جبار." فهل يتعايش حلمان؟ وهل هو قدر الولاياتالمتحدة المحتوم؟ أم أنّ ما يجري سيكون فاتحة عصر جديد ينبثق فيه صراع حربي في الفضاء؟ القفزة النوعية التي تشهدها الصين، التي تحاول تعويض خلل موازين القوى العسكرية بما يقلّص أو يردم الهوة بينها والولاياتالمتحدة، لا تأتي من فراغ. فقد سعت في السنوات الأخيرة إلى الإسراع بتحديث جيشها وترسانتها وأسطولها، بكل الأشكال بما في ذلك القرصنة والسطو السيبيري، الذي طال مفخرة الصناعة والتقانة العسكرية الأمريكية، ما جعل أحد المسؤولين العسكريين الذي رفض الكشف عن إسمه يعلّق يومها للواشنطن بوست قائلا: "هذا الإختراق يعني توفير ملايين من الدولارات كانت ستصرفها الصين لتأمين تفوّقا وأفضلية عسكرية في حال نشوب حرب...لقد وفّر الصينيون على أنفسهم جهد ووقت 25 سنة من البحث والتطوير! إنها معضلة كبرى! " الصين التي أدركت، كما يقول الخبير الأمريكي في شؤون البرنامج العسكري الصيني لاري ورتزل، Larry Wortzel، أن تفوّق أمريكا في مجال الاتصالات والاستخبارات والمراقبة يعتمد على ما تملكه في الفضاء، ما أقنع مخططيها الاستراتيجيين بأن قوة أمريكا يمكن أن تصبح نقطة ضعفها، ضاعفت في موازنات دفاعها المخصّصة لبرامجها العسكرية، ما سرّع بشكل مطّرد وتيرة تعزيز قدرات جيشها ومكّن مصانعها العسكرية من إجراء اختبارات بنسق محموم من 2007 إلى 2010 ف2013 لتتمكّن في 2014 من إنجاز ما تعجز عنه بقية الأمم، بشهادة رجالات البنتاغون أنفسهم، الذين اكتفوا بالإقرار "لدينا علم بالتجارب التي تجريها الصين على مركبات تفوق سرعتها سرعة الصوت، لكنّنا لا نستطيع التعليق على ذلك الآن". وسط أجواء الاحتقان والتوتر المتصاعد بين الصين و"حلفاء" الولاياتالمتحدة فى المحيط الآسيوى، بسبب إنعطافة أمريكا واستحقاقات استراتيجيات قرنها الباسيفيكي من جهة، والخلافات والنزاعات الحدودية والسيادية الدائرة بين الصين وجيرانها، لا سيما اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام، من جهة أخرى، فضلا عن أعمال القرصنة الإلكترونية المتبادلة بين واشنطنوبكين، يبدو أن فتح الطريق نحو مزيد من عَسْكرة الفضاء، كما سباق برنامج "الأسلحة المتقدّمة فائقة السرعة، Advanced Hypersonic Weapons Program، التصعيدي، قد يعصف بما يسمّيه بعض الخبراء الإستراتجيين ودبابات الفكر، think-tanks، ب"الحذر الإستراتيجي المتبادل، Mutual Strategic Suspicion "، القائم حاليا، ويُعجّل بمُواجهة مُؤجّلة! يختزل جاف بادر، Jeff Bader، أحد مستشاري أوباما للأمن القومي، مستقبل ملامح النظام الدولي القادم، كأبلغ ما يكون بتصريحه: "بين قوة قائمة وقوة صاعدة نادرا ما تنتهي العلاقات بشكل ودّي!" نجاح الإختبار الصيني في مقابل فشل نظيره الأمريكي، لا يُربك الولاياتالمتحدة ودول الجوار الآسيوى، فحسب، بل يُعيد ترتيب أوراق دفة الريادة العالمية ويسرّع في صياغة نظام عالمي جديد، قد لا يُسمح فيه حتى بمجرّد القيادة من الخلف، Leading From Behind! فما بالك بمن يسمّيهم مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي، في "عصر ما بعد أمريكا" ب"الأنواع المنقرضة" ممّن يرهنون مصيرهم وأمنهم بالحماية الامريكية !