بات معلوما أنّ ليبيا الجارة قد استوطنها الإسلام الجهاديّ و صارت محجّا لكلّ المجاميع التكفيريّة و العصابات الإرهابيّة .. و لا مندوحة من الاعتراف بحجم التهديد الاستراتيجي للاستقرار في منطقة المغرب العربي بعد أن تجاوز مسلحو "داعش" مرحلة تركيز نواتات العمل المسلّح إلى مرحلة التمدّد و بسط السيطرة مستفيدين من حالة الارتخاء العام في المنطقة و من حالة الانتظارية في دول الجوار إذا استثنينا بشكل نسبيّ الجزائر التي لا تألو جهدا في الاستعداد لمرحلة متعددة المخاطر عنوانها الأوّل فوضى السلاح ،،و لكنّه عنوان لا يكاد يُخفي المشروع الأهمّ ، نعني إعادة صياغة المشهد السياسي و الإقليمي في علاقة بمجريات الأحداث في المشرق و في العالم. لقد ظلت القوى الإقليمية لأشهر طويلة تتفرج في حال من الشلل المطلق على تأسيس المجاميع الإرهابية قواعد ارتكازيّة و بخاصّة في درنة و مصراتة ،،و تابع المراقبون في جمود قاتل الكرّ و الفرّ في بنغازي و اتجاه الأوضاع نهائيّا إلى تفتّت الحكم المركزيّ و تحويل ليبيا إلى كانتونات تحت مسميات عديدة سمتها الرئيسية غياب رؤية استراتيجية تضمن وحدة التراب الليبي و تُؤمّن بناء دولة تولد من الخواء الذي خلفه سقوط نظام القهر الدكتاتوري ..إنّ غياب مشروع وطني و طليعة سياسية في بلد أنهكته الدكتاتورية عقودا يجثم على ثروات باطنية و مخزونات خيالية من البترول و الغاز الطبيعي أسال لعاب القوى العظمى التي اشتركت في الإجهاز على النظام السابق و في الإيهام بأنّ ربيع ليبيا قادم ،،هذا الغياب سمح للاعبين الدوليين بيسر أن يتحوّلوا إلى مالكين لخيوط اللعبة و حولوا سريعا كل الفاعلين إلى خدم لهذا المشروع أو ذاك، و حرموا ليبيا لعقود أخرى ربّما من التفدم خطوات في فك الارتباط بالمركز الاستعماري و بقوى الهيمنة على القرار الوطني و الثروات القطرية. و الملاحظ أن الدول المجاورة المنهكة أصلا بأوضاعها الداخلية المأزومة و خاصة مصر و تونس ،قد تأخرت كثيرا في استيعاب خصوصيّات المرحلة و في التوقّي من التداعيات المحتملة لا على اقتصاديّاتها فقط ، بل على استقرارها أيضا . إنّ الشلل الذي عانت منه هذه الدول ، والخوف الذي وسم سياساتها الخارجية و الارتهان لقوى إقليمية عربية تُموّل هذه العصابات ،و التردّد في الإقدام على اتخاذ مواقف واضحة جعل مصر و تونس تحصدان ما حصدتا من العبث بأمنهما الداخلي الذي تعززت فيه الجرائم الإرهابية دون أن تتمّ قراءة المشهد في كلّيته . إنّ النظرة الاستشرافية العجلة تقود بلا شك إلى النتائج التالية: الخطوة الصحيحة الأولى هي إدراك أن مواجهة التحدي الإرهابي يمرّ حتما بفك الارتباط سياسيا مع الدول الداعمة للإرهاب و التمايز عن سياساتها التي تجعلها تشارك في الحلف الدولي ضد داعش في السماء ، و تموّله بالرجال و السلاح في الأرض . إدراك الدور المحوري الذي يلعبه في هذا المنعطف التاريخي حلف بكينموسكوطهراندمشقبيروت في مواجهة مشروع التفتيت و إعادة رسم الخرائط سياسيا و اقتصاديا ،،أي الإقدام بوضوح على إقامة تنسيق أمني تونسي جزائري مصري سوري .. الخطوة الأولى الضرورية هي إعادة العلاقات مع سوريّة التي تملك بنك معلومات و تجربة فريدة في العالم في التصدي للمجاميع الإرهابية و تطوير القدرات برفع مستوى التعاون الأمني مع طهران . كف السلطات التونسية عن العبث بالأمن القومي الذي يعدّ غيابُ تمثيل الدولة الدبلوماسي في ليبيا عنوانه الأوّل .ففي مثل هذه الظروف يُفترض تعزيز القدرة على المتابعة و مدّ الجسور مع الفاعلين في الساحة الليبية الداخلية دون أن يعني ذلك قبول الابتزاز و لعلّ قضية المخطوفين منذ أشهر في ليبيا خير دليل على هذا الفشل الذريع و العمى الاستراتيجي الذي وسم السياسة الخارجية . الاستعداد لمواجهة آلاف اللاجئين من ليبيا بعد أيام قليلة ،بمجرّد تحولها إلى ساحة جديدة (مثل العراق و سورية) لتحالف دولي قد تقوده إيطاليا و الاتحاد الأوربي و تشارك فيه بالأساس مصر يعمل على تحويل ليبيا إلى ساحة قتال يومية ضدّ داعش التي ستسارع في تقديرنا إلى محاولة وضع اليد على طرابلس ،،و هو ليس أمرا مستحيلا إذا قرأنا خريطة التوازنات العسكرية و السياسية في ليبيا . إعداد العدة بشكل جدي يقطع مع سياسة النعامة لمواجهة رجال داعش الفارين من الجحيم الليبي القادم الذين يرون في تونس الخاصرة الرخوة التي يمكنهم تطويعها و الاستفادة من الخلايا النائمة فيها التي يديرها أبو عياض و أشباهه من ليبيا . المبادرة إلى تكوين خلايا تدير الأزمة في الجنوب بالتعاون مع النشطاء السياسيين و الجمعيات المدنية و المسارعة بتنقية المناخ في المناطق الحدودية و خاصة ولايتيْ مدنين و تطاوين التين قد يقع العبء الأكبر عليهما في الأسابيع اللاحقة و هذا يعني نزع فتيل أيّ احتقان لأنه بالنهاية تهاون بالأمن العام . إدراك الأخطار المحدقة بالجنوب يعني التوجه بلا إبطاء إلى خلق مناخ تعاون ضروري و حاسم بين الجيش و الأمن و المجتمع السياسي و المدني بعيدا عن المناكفات وصولا إلى حسن تقدير الموقف و تعبئة كل الطاقات لمواجهة داعش الذي يطرق الأبواب .