فن الانصات ، بهجة الالقاء ، فتنة القص ، هو ما يميز التقاليد الاصيلة لنخبة من الحكائين و الحكاءات بداوا يشقون طريقهم الى اسماع الصغار و الكبار بل الى قلوبهم في حالة من العشق الشفيف للكتاب و للقراءة و للمطالعة . هي – حقا تجربة اصيلة و مبتكرة خلقتها المكتبة العمومية بصفاقس باشراف مباشر من مديرها النشيط وحيد الهنتاتي و كان مدار هذه التجربة في كيفية اعادة الالفة بين الناس و خاصة الاطفال و بين الكتاب ، هذه الالفة التي خلنا انها انقطعت او تراخت بفعل الهيمنة الكاسحة للوسائط الحديثة . و لما كان عشق النص هو مدار هذه التجربة الفريدة في التواصل الانساني ، فان للاطفال مكانة اثيلة . انهم المستمعون ، انهم المنصتون ، انهم الراؤون ، انهم المستقبلون لهذه الحكايات التي ينهض بها حكاؤون و حكاءات جلسوا متربعين ، كما كان الحكاء القديم يفعل في الايام الخالية ، و يضع يديه على ركبتيه ثم ينطلق في الحكي و نبرات صوته تعلو و تنزل ، تنخفض و تشتد بحسب قوة المشهد موضوع الحكي . عمله بمثابة عمل مسرحي و لكنه لا يفتن عيون الاطفال بذاته او بملابسه – على اهميتها – و انما بالحكي ، و بالقص و بهذا الولوج الى العالم الساحر ، عالم القص و عالم التخييل الابدي الذي خلق للاطفال في سبيل استثارة انتباههم و فضولهم الى التقاليد السامية ، تقاليد الانصات . الافواه مفتوحة ، و العيون تتوجس الخوف مما سياتي على لسان الحكاء ... قلوبهم خافقة من مشهد الرعب ، صدورهم منشرحة من النهاية السعيدة و من الجزاء الذي ناله الشرير الآثم . انهم لا يخفون الاحساس بالغرابة من لباس الحكاء و لا من الاشياء التي ياتي بها و لا من تلك الحركات التي يقوم بها بيديه او براسه او بجسده و لكن المهم ايضا انك تقرا في عيونهم الحالمة الشوق الى الانصات بحيث تتسلل القصصو الحكايات الى نفوسهم و اسماعهم كما يتسلل الهواء الى صدورهم . و على مدى ربع ساعة الذي هو زمن الحكي ، فان احساسا بالديمومة هو الذي يستشعره الاطفال . لقد شهدوا امدا مديدا و هم يتابعون الحكاية و يستمتعون بمتعة الانصات . في فعل الحكي عنصر تقليدي و تراثي من الضروري الاشارة اليه و الترحيب به . يبدا بطريقة الجلوس و التي هي نابعة من طريقة تعاملنا مع جسدنا في حضارتنا .فالجلوس متربعين يضفي على الحكاء مهابة و اجلالا و رونقا و يضاعف ذلك من الاهتمام به . لا يمكن ان نطلب من الحكاء الهولاندي او الفرنسي ان يجلس جلستنا نحن ، متربعا ،فقد لا يشعر بالراحة ، و لكننا نحن في جلستنا تلك ، تتولد الحميمية و التلقائية ما بين الحكاء و ما بين المحيطين به اطفالا كانوا ام من اجيال اخرى ، و اضافة الى ذلك فان للباس التقليدي او التراثي يثير انتباه السامع فهو في الغالب لباس فضفاض موشى بخطوط ذهبية من الخطالعربي الكوفي او ما شابه . اذن الاذن و العين هما الحواس التي يشتغل عليهما الحكاء ليستقبلا متعة النصات و لذة المشاهدة . لا وسائط بين الطرفين (الحكاء/ الاطفال ) و حسبنا وسائط في مجالات اخرى او فضاءات مختلفة . اما في هذه اللحظات المبهجة فان العلاقة تكون مباشرة ، شفافة ، على السجية و الطبيعة ، فلا نتخيل حكاء في قرص مضغوط او بينه و بين جمهور الاطفال حاجز ما فالتواصل الانساني هو سر بهجة مثل هذه الانشطة التربوية و هو مقياس نجاحها و لنتخيل لبرهة ما معنى ان يغنم الاطفال بحكاية كل يوم او بحكايات كل اسبوع فالمؤكد ان علاقة حميمية ستنشا بينهم و بين لذة السمع الى القص و الى الرواية و الى السرد ثم الى الكتاب .ففي وقت من الاوقات انتابنا شعور بان هناك غربة ازاء الكتاب و ازاء القص و الحكي امام الاكتساح المرعب للشاشات الفضاء العام و الخاص .اصبح الكتاب يتيما و هجر الناس – الا قلة منهم – المكتبات و اشتكى المختصون من قلة تسويق الكتاب . مع هذه المبادرة التي نهضت بها مكتبة صفاقس العمومية نرى ان العودة الى الكتاب تبقى املا ممكنا فالحكاية تقرب الطفل الى الكتاب و تجعل له موقعا راسخا في خياله و احلامه و واقعه . و من خلال الموقع الالكتروني لهذا النشاط لاحظنا ان هناك رغبة في تعميم فوائد الحكي في مناطق قصية من الجمهورية التونسية ، في دوز على سبيل المثال ، و في خارج تونس مثلما افادنا السيد وحيد الهنتاتي مدير المكتبة العمومية بصفاقس حيث سافرت وفود من تونس للتعريف بهذا النشاط التربوي المهم الذي له اتباعه و مريدوه في كل انحاء العالم تقريبا. ة يبدو ان هذا النشاط قد بدا فعلا بعيد انتصار الثورة التونسية المجيدة التي – فيما يبدو – قد اطلقت المبادرات من عقالها فكانت المشاركة في ” ايام الخرافة في دوز ” في مارس 2011 اول بواكير هذا النشاط الخلاق و كان الهاجس لدى كل الاعضاء و لدى ادارة المكتبة ان يكون عمل الحكائين قائما على تكوين نظري في فنون القص و السرد و في فن الحكاية و في لبقص الشعبي فضلا عن معرفة بعلم نفس الطفل و بيداغوجيا التلقي . و من هنا كان العمل بمثابة الورشة الفنية التي تظافرت فيها جهود عدة من اجل انضاج هذه التجربة الرائدة و اخراجها الاخراج الفني و الجمالي اللائق بها . الهاجس الثاني الذي بدا لنا و نحن نتابع الفعاليات الحكائية التي اقيمت او تلك التي هي في طور الاعداد هو الهاجس الجمالي /الفرجوي .فنحن ازاء طقوس من الانصات و الفرجة على خلفية من الحميمية و من الدفق الشعوري المنساب في اعطاف الحكي و بين الاطفال و الحكاء فالدهشة مرسومة على الوجوه و الانتظار لما سيحدث فيما بعد يضاعف دهشتهم .و لكنه من المؤكد ان هناك عناصر اخرى تصنع الفرجة مثل الالوان الزاهية و الاشكال المتنوعة و المشخصات و المجسمات ... كلها تستثير العين مثلما تستثير طرافة الحكاية الاذن .ان ذلك يضفي على الحكاية بعدها الخامس ، البعد المسرحي ، البعد الفرجوي بحيث تتسرب رسالة الحكاية (التي من بينها تعويد الاطفال على الاستماع الى القص بالتركيز المطلوب )بطريقة لا ينفر منها الطفل و انما تقربه اكثر فاكثر الى كل ما يخاطب سمعه و بصره في آن . ان الطفل لا يحتاج الى فحسب الى الحليب و الحنان و انما ايضا الى الحكاية .هذا ما قالته خبيرة الطفولة الفرنسية الشهيرة فلا شئء ياخذ مكان شئء اخر و للحكي موقع مهم في نحت شخصية الطفل و توجيه هواياته في المستقبل بما يفيد و ينفع بحيث تكون لمنزلة القراءة في حياته حضور مهم . ان هذه المبادرة التي يشرف عليها السيد وحيد الهنتاتي تبدو طموحة الى ابعد الحدود و هي في ذاتها مثال حي يمكن ان يقتدي به الاخرون و نعتقد ان اشعاع مكتبة صفاقس سيتضاعف على محيطها التربوي و الاجتماعي بما يخدم الكتاب و عشاق الكتاب . عبدالرزاق القلسي