د. فتحي بن معمّر يحدث للإنسان أن يقرأ نصّا راقصا. كما يمكن أن يلاحق معنى يتناثر بين الخطوات وأن يحاول فكّ شيفرة رّمز تلتبس ملامحه بتداخل الإشارات والعلامات وتدافعها وما أكثرها. كما يحدث للإنسان أن يقف مشدوها لوهلة باحثا عن مفاتيحه وعتاده ليلج عالما لم تعهده الذائقة الجمعية التونسية، فيستنفر ما ترسّب عنده من معارف ليشارك أهل الرّكح وأصحاب التصّور أرضيّة تقلّ بكثير عن جلد ثور عليسة ولكنّها تكفي لمتابعة القراءة وملاحقة المعنى واستكناه الرّمز. ذلك وأكثر حصل وسيحصل لمن ولّى وجهه ركحا يغري ب"هزّ الشّراع" والرّحيل بعيدا في الزّمان والمكان والأفكار والعوالم والظّروف والمعالم والسّياقات المظلمة تُستعاد في سياق الحرية ليترسّخ مفهومها ويشتدّ عودها. ولقد كان العرض الأوّل لأوبيريت "هزّ الشّراع" بالمسرح البلدي بالعاصمة مساء الاثنين 31 ماي 2021 فرصة لتحقيق كلّ ما أسلفنا والتحقّق من صحّته. والأوبيريت لمؤلّفها ومخرجها أحمد الصويعي مصباح ومساعِدته د. أنديرا راضي والملحّن عبد اللطيف النّجار والشّاعر هشام الخلفاوي، وقام بأداء أدوار البطولة فيها تمثيلا وغناءً الممثلة القديرة حليمة داود والمبدع عروسي الزبيدي والفنّانة سارة النويوي وعمر بوثوري والنجم الشّاب آدم النجّار وثلّة من المغنين والعازفين. ارتبط فعل الهزّ على الرّكح غالبا بمقامات "هزّ يا وز" حتّى كدنا ننسى معاني الرّفع والحلحلة والنّشر وهي المعاني التي يبدو أنّ أوبيريت "هزّ الشّراع" تسعى إلى تحقيقها من خلال العنوان أوّلا بإضافة لفظ "الهزّ" إلى "الشّراع" بمعنى يعطي ممكنات شاسعة للقراءة والتأويل من قبيل الانطلاق والسّفر والانعتاق والإصرار على الحرّية وإن كان في طلبها أكثر من مغامرة ومجازفة. غير أنّ فيها أيضا معنى الإصرار والتّحدّي. وهذا ما تنتهي إليه أو تُقفل به الأوبيريت حين تُختتم بأغنية "ثاير يا شعبي ثاير" من ألحان المتميّز عبد اللطيف النّجّار. كما تسعى إلى تحقيقها من خلال البناء الدّرامي للأوبيريت ومن خلال البرامج السّردية التي وضعها شيطان المؤّلف وشيصبان الشاعر وتابعة الملحّن وزابعة الموزّع الموسيقي. هذه البرامج السّردية التي يتقاسمها خمسة بشكل أساسي وهم: - "جمعة" الذي اضطرته ظروف الملاحقة والمتابعة والاستبداد وضيق العيش إلى الرّحيل من أجل يوم أجمل من يوم البلاد وغد أفضل من يومه الرّاهن. - الأمّ "حليمة" ملتاعة من فراق فلذة الكبد من ناحيّة ومن خذلان الوطن من ناحيّة أخرى ولذلك فهي تصرخ بصوت عميق متألّم لكنّه مفعم بالتحدّي: "يا صيد أصبر عالدْرَكْ والعَلّة لا تخونْ وطْنَكْ وإيّاك اتبيعهْ من أجل بطنك" - الأخت وهي تلك التي عايشته وافتقدته فكانت لوعة الفراق عاتية - الحبيبة العاشقة التي تركها "معلّقة، لا مْعرسة ولا مْطلقة" تنتظر أوبة غير مضمومة ولا مقيّدة بأجل كمنتظر السّراب ولكنّها تنتظر ملتاعة حالمة فيلتاع معها الجمهور وينتظر وقد أغراه مخرج العمل بذلك بخبث فنّي عجيب. - الشّعب في جلّ ردهات الأوبيريت وفي شوارع تمتد بين الألحان والأوتار وتتسردب في أعماق آلات الإيقاع والطّبل يعيش الضّنك ويُسام سوء العذاب وقد عاين الجمهور من عذابه نماذج تمّ اختيارها بدقّة متناهية (الفتى المهاجر قسرا، والأمّ الملتاعة جورا، والأخت المشتاقة ظلما، والحبيبة المحرومة التّوّاقة عسفا). وكي يلج المشاهدُ المتواطئ ضمنيّا مع المؤلّف والشّاعر والملحّن والمخرج والممثّلين إلى عمق الأوبيريت ويعيش أحداثها ويعايش حيثياتها ويراقص ألحانها ويشدو بأغانيها ويستكنه قصّتها ويستسيغها ويفكّك رموزها، اعتمد مخرج العمل بذكاء على: - مشهديّة متأنّية في غير رتابة تمكّن المشاهد من تتبّع الأحداث والتمعّن فيما يُقال وما يُغنّى وما يُرى من حركات وإشارات وتعبيرات تقاسيم الوجه التي أبدع فيها كلّ من الممثّلة القديرة حليمة داود والممثّل القوّال العروسي الزبيدي فكان الفعل الرّكحي الممسرح رشيقا يذكّرنا بقول الشّاعر: "كأنّ مشيتها من بيت جارتها ** مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل" ويغري بمتابعة الفرجة والتّركيز رغم المرور من الموسيقى إلى القول المجلجل للرّاوي إلى نبرة الالتياع فإلى نبرة التّحدّي التي سرعان ما تنقلب إلى مشروع تصدٍّ لكلّ الأخطار المحدقة بالوطن وقد قرّ قرار الشّعب على الثّورة بعد أن استنهضته الأوبيريت ب "ثاير يا شعبي ثاير" وبعد أن تردّد صوت حليمة في أرجاء المسرح "ثور على الظالم والدكتاتور". - راوٍ قوّالٌ جوّالٌ ذو صوت جهوري و"بسطة في العلم والجسم" لا أحسب أنّ المخرج وهو يختار ممثّليه قد غفل عنها. ولا أحسب أنّه إلاّ لذات السّبب قد اختار أن يكون دخوله على طريقة "بريشت" من وسط الجمهور في بداية العرض وفي وسطه لينطلق في حركاته الرّشيقة المراوحة بين السّرعة والبطء والتوّقف الفجئي ووضع الخمود أحيانا وهو يصلصل بصوته الذي يرحل بين المقامات رحيلا سلسا فيحقّق المبتغى ويأسر فيؤثّر فيضمن الانشداد ويجعل الجمهور ملك يمين المخرج والممثلين حتّى نهاية العرض ويتسلّط على فكرهم وتفكيرهم لساعات وربّما لأيّام بعده. ولقد كانت حركات الرّاوي المدروسة بدقّة على الرّكح بديعة رشيقة تحاكي نشر شراع وبسطه ليقلع حين يفرد ذراعيه ما وسعه الإفراد كما تستحضر حفيف نسيم بحريّ يرّف له الشّراع فتندفع المركبة على وجه الماء في لحن أوبيرالي لا يكاد يستقرّ على صخب كما لا يطمئن للخفوت والهدوء وذاك شأن البحر والأشرعة والمغامرات كما لا يطمئن من يطمح لاستكمال مسار الحريّة والثّورة. فكان "هزّ الشّراع" دعوة لسفر معلوم المقصد رغم حجم التحدّيات وهول المغامرات ونزق المؤامرات. الممثلة حليمة داود - الأبطال الرئيسيون إن صحّت العبارة (الأم والابن والحبيبة) تستدعيهم الأحداث التي يرويها القوّال دون أيّة دعوة قولية واضحة أو إشارة إليهم، فذكر الحدث أو وصف الحالة أو الإشارة إلى موقف أو محاورة بين طرفين منهم أو أكثر هو الذي يجعلهم يلجون الرّكح ويعمّرون المشهد بما حُمِّلوا من أوصاب أو أفراح وبما أوحي لهم من قول أو شدو وبما وُضِع على ملامحهم من مساحيق التّعبير الدّرامي الطّبيعية وتلك نقطة تُحسب للمخرج ولمساعِدَتِه. فكانت بذلك الحركة على الرّكح محسوبة دقيقة تكاد تكون مُقسّمة ببراكير ومساطر، فلا فوضى ولا انخرام إذ الكلّ يتحرّك في المربّعات المرسومة له في سيناريو الأوبيريت وينتقل بينها ببراعة وسلاسة. وهذا أيضا ما يجعل المشاهد ينبهر بهذا الانسجام الكبير بين المقاطع الغنائية وبهذا التّكامل بين ما يؤدّيه آدم النجّار ببراعة وما تشدو به سارة النويوي بإحساس عال جدّا حتى ليخال السّامع المتفرّج أنّها فعلا عاشقة ولهى لحبيب مفارق. - كوكبة من العازفين والمغنّين (المجموعة الصّوتية) الذين يخرجهم صاحب العمل من جلباب الجوقة بمفهومها القديم ليصبحوا أهمّ أوتاد خيمة العرض وأرقى أسباب شعره وأعتى نوتات لحنه. ولا أدلّ على ذلك من أنّه جعل الأغنية القفلة في الأوبيريت أعدل الاشياء قسمة بينهم إذ أدّى كلّ واحد منهم مقطعا من مقاطها بحرفية عالية وحماس ألهب تفاعل الجمهور الذي أوقعه المخرج في أحابيل الفرجة وقيّده إلى ما بعد العرض مهنئا معبّرا عن إعجابه. - إطار عامّ تدور فيه أحداث الأوبيريت اتّسم بملامح بدوية تقليدية عميقة أصيلة أصالة هذا الشّعب. إذ حضرت مجسّمات لما يعتاش به النّاس وبه يشتغلون في أعماق تونس الحبيبة وكأنّما في ذلك تأكيد على أنّ تلك الأعماق هي أيضا تونس التي تؤمن بالحرية والثّورة حقيقة وليس هؤلاء الذين نراهم يرتعون هنا وهناك تحت الأضواء فقط. وعلى هذا فقد كانت ملابس الممثّلين أيضا متناسقة مع هذه الأجواء ومع الدّيكور الجنوبي من أعماق الصّحراء والواحات رغم أنّ "هزّ الشّراع" دعوة لركوب البحر. ولكن يبدو أنّه بحر الحضارة والفعل الوطني الذي يؤسّس لغدٍ رغم صعوبة المرحلة لتبقى البلاد درّة حرّة كما ورد في الأوبيريت. وقد كان كلّ ذلك متناسقا مع اللهجة التي اختارها المؤلّف وسايرها الشّاعر وتناغم معها اللحّن. فاللّهجة جنوبية أصيلة والشّعر متجذّر في روح الشّعب ونابع منه أمّا الألحان التي وزّعت موسيقاها بطريقة بديعة فهي ألحان ترود في مساحات عميقة من المقامات التونسيةالأصيلة حتّى لكأنّنا ونحن نرى ونسمع النويوي تشدو نرى أو نسمع إحدى فنّانات تونس الخالدات التي ارتبطت المقامات التونسية بأدائهن لوقت طويل. ورغم حجم الألم الذي جثم على أغلب ردهات الأوبيريت إلاّ أنّها قد خرجت بنا من البكائية، إلى الغنائية، إلى الشّعرية. ثمّ عرجت بنا إلى مصاف الفنّ وهذا أعتى ما يفعله الإبداع حين يسفع الذائقة غير المتعوّدة على هذا النّمط من المسرح الغنائي ويجعله يستسيغه ويستزيد منه ويخرج منه وهو عازم على العمل بإحدى أهمّ الوصايا الواردة في الأوبيريت "طِيرْ ومَا أَتْضَيَّعْشْ الجرّة".