كان أصدقائي يحدثونني عن التوافق، ويجب على الفرقاء السياسيين أن تجمعهم كلمة سواء لكنّني كنت متأكدا أنّ المرحلة مرحلة صراع وإثبات وجود لا مرحلة توافق، وهذا اليقين الذي كنت أحمله كان وليد الواقع الذي نعيشه أولا ثم من خلال طبيعة المرحلة وخاصة بعد رجّة وصدمة " الثورة الفجئية" هذا الصراع طبيعي ومفهوم فبعد كبت للحريات وإستعباد للنّاس لن يكون حال من كانوا بالأمس صفا واحدا ضد الدكتاتور كحالهم بعد نيل الحريّة وإنحصار صراع السلطة بينهم ، لن يتشاركوا أبدا في البناء لأن صراع المرجعيات والهويّات هو الذي طغى…!! لقد ترك التجمع "ورثة" والكل غازل أصحاب "الورثة" الجميع كانت لديهم حساباتهم وموازين قوى يعوّلون عليها وأجندات داخلية وخارجية يتبعونها ويعطونها كل الولاء، لكن من كان لديه السند الشعبي وكانت لديه فرصة التجييش والتحشيد في الشارع للمحاسبة والدفع إلى الأمام لتحقيق أهداف "ربع الثورة"، هذا الأخير أخطأ التقدير وفضّل الإنفراد بالبناء وإصلاح النظام من الداخل وهذا يتطلب وقتا وجهدا وتحملا لتبعات هذا الإختيار لأن تفكيك الدولة العميقة ومحاولة إستمالة المتحكمين في أجهزة الدولة في مرحلة أولى ثم محاسبتهم في مرحلة ثانية أمر صعب جدا ومن الممكن أن يجهض "ربع الثورة" التي أنجزها ربع شعب…لقد ظنت حركة النهضة أنها تستطيع الحكم وحدها، ولكنها أخطأت التقدير، نعم من ينظر إلى شكل الحكومة سيجدها حكومة ثلاثية تتكون من 3 أحزاب مختلفة المرجعيات والتوجهات، مّما يوحي بأنّ البناء سيكون مشتركا وأننا نسير نحو عملية إصلاحية شاملة متعددة الأطراف والوسائل كتعدد الأحزاب التي تحكم. لكن للأسف من ينظر في التعيينات سيرى أن للحزب الأغلبي النصيب الكبير في التعيينات وفرضه رؤيته في البناء والإصلاح، إنّ التوافق المطروح ليس جديا بقدر ما هو ومضة إشهارية لترويج بضاعة سياسية وإستمالة وإرضاء وإسكات الحلفاء والمنافسين. من أكبر أخطاء النخب السياسية وعلى رأسهم النهضة أنهم لم يستمعوا إلى نبض الشارع في رغبة الشرفاء في المحاسبة والقطع مع الماضي،بل والأدهى والأمر هو عدم مصارحة الشعب بما حصل وما يحصل!!! وكأن الشعب قاصر أو أنّ ما دار وما يدور في قرطاج والقصبة عصي على الفهم…كانت انتظارات الشعب بعد انتخابات 23 أكتوبر كبيرة جدا، خلنا بأننا سنبدأ بوضع المسمار تلو الآخر في نعش النظام والدولة العميقة لكن يوم بعد يوم ندرك أنّ النظام يزداد قوة وبدأ في ابتلاع أصحاب القرار السياسي الجدد… كانت انتظارات الشارع كبيرة وكبيرة جدا، سواء الإسلاميين أو الثوريين الوطنيين، كلهم وقفوا مع الحكومة وساندوها وكانوا ينتظرون في انجازات، في محاسبة، في مصارحة، لكن إرادة التكتّم والهدنة مع النظام وعدم وجود إرادة للمحاسبة من قبل حكومة ما بعد 23 اكتوبر جعلت الناس ينفضّون شيئا فشيئا من حول هاته الحكومة والأحزاب المكوّنة لها. أرادت حركة النهضة الحفاظ على الدولة فأجّلت المعركة، لم تصغي لحلفائها وإلى نبض الشارع، وكان ذلك سببا في إضعافها وإضعاف حلفائها وخاصة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، لقد تبنّت النهضة النموذج التركي في الإصلاح ومحاربة الدولة العميقة، لكن حال ووضع تركيا أبعد ما يكون عن حال بلادنا… مثلما كان الإنفراد بالبناء كارثيا وخسرنا جرّاءه الوقت والفرص السانحة للمحاسبة وبداية الإجهاض على رموز الثورة المضادة وتفكيك منظومة الدولة العميقة. كذلك سيجرّنا الإنفراد بالمحاسبة إلى نتائج كارثية قد تذهب بأوتاد هذه "الثورة" وقد تحصد الإسلاميين والوطنيين و الثوريين حصدا وندخل في محرقة جديدة ليست أقلّ بأسا وضراوة من محرقة التسعينات…الجميع يعلم أن حركة النهضة في الحكم ولكنّها لا تحكم والجميع يعلم أن القرار السياسي بيدها ولكن أجهزة الدولة بيد غيرها. لقد ساهم تأجيل المعركة في ظهور قوة سياسية جديدة، هي وليدة وسليلة النظام النوفمبري وحزبه التجمعي، وبظهور هذا الحزب وتعاظم نفوذه، الذي أصبح مغناطيسا يجذب كل أقطاب الثورة المضادة والفاسدين والذين لا تخدمهم الحريات والعدالة لأنهم أكبر المستفيدين زمن الجور والحيف…. حركة النهضة كانت تراوغ وتحاول تفريق الأحزاب عن أصحاب أجهزة الدولة والمتحكمين فيها إنّها تريد عزلهم سياسيا وشعبيا تمهيدا "للمحاسبة الجدّية" التي تكون في وقتها ولا تحدث شرخا في أجهزة الدولة أو إسقاط الدولة برمتها وتلك هي الكارثة…لقد أوصلتنا سياسة حكومات ما بعد 23أكتوبر إلى الإعلان العلني عن زواج المتعة بين أصحاب القرار السياسي ومالكي أجهزة الدولة والمتحكمين بالمركب الأمني المالي النقابي الثقافي ولا نعلم أي مولود غير شرعي سينجب لنا هذا الزواج؟؟ هل عودة جديدة لمنظومة الفساد والاستبداد ؟ أم حالة من عدم الاستقرار تكون وليدة صراع الأول مع الثاني لإفتكاك كامل السلطة؟ لماذا نصل بعد حوالي 3 سنوات من قيام "ربع الثورة" إلى الإعلان عن التحالف مع بقايا النظام وأقطاب الثورة المضادة، بل الدعوة إلى اقتسام السلطة معهم حسب تعبير الشيخ راشد الغنوشي في خطابه المشهور على قناة نسمة بعد لقائه مع باجي قايد السبسي في باريس…!!! لماذا تخطئ حركة النهضة نفس الخطأ؟!!! إنفردت بالبناء بعد 23 أكتوبر 2011 ولم تطرح توافقا جديًا والآن تنفرد بالمحاسبة( تفكيرا وتخطيطا وتنظيرا فقط) وفق خطط أو إسترتيجية ترسمها هي أو تكون هي الفاعل الرئيسي فيها ولا تكون خطّة محاسبة بتوافق كل المتضررين من نظام الفساد والإستبداد..؟؟؟ بقلم جمال العكرمي