عاد ملف التفرغ النقابي ليطرح من جديد في الأسابيع الأخيرة بعد أن قضت هيئة النفاذ إلى المعلومة بإلزام الاتحاد العام التونسي للشغل بتسليم النائب السابق عماد الدايمي بقائمة المتفرغين النقابيين. وقد نشر الدائمي مؤخرا وثيقة عمّا وصفه بالتفرغ النقابي “العشوائي”. وأظهرت مراسلة موضوعها “رخصة نقابية خالصة الأجر”، من الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل إلى المدير العام لديوان التونسيين بالخارج بصيغة “إعلام” أن المركزية النقابية هي التي قررت منح الرخصة النقابية والتمديد لها وأعلمت المدير العام لمؤسسة عمومية بذلك دون المرور برئاسة الحكومة أو وزارة الإشراف. وقد ظلّ ملف التفرغ النقابي صندوقا أسود محرما على الشفافية لم تطله أعمال هيئة مكافحة الفساد ولا الاستقصاء الصحفي، ولم يحسم فيه القضاء بعد. ويجري العمل بهذا الاستثناء لموظفين عموميين رغم أنّ النشاط النقابي في سائر أنحاء العالم يعرف على أنه عمل تطوعي ودافع قوي للانتصار للطبقة الشغيلة ولضمان حقوقها، كما أنه عمل تطوعي يتطلّب تضحية ومقنّنا بنصوص تضمن حرية الاشتراك في المنظمات وحرية التفاوض الاجتماعي شريطة عدم استغلال النشاط النقابي لخدمة المصلحة الخاصة أو للإضرار بمصالح البلاد. ولئن تعزّز مفهوم العمل النقابي في تونس إبان الثورة واكتسى أهمية أكبر بفضل الحرية والديمقراطية التي تمتّع بها، فإنه تم رصد العديد من التجاوزات بلمسات نقابية وكل من حاول تسليط الضوء عليها أو طالب بمكافحتها يوصم بالمعادي للمنظمة الشغيلة والمناهض لحقوق العمّال الشيء الذي جعل المنظمة الشغيلة فوق المساءلة طيلة سنوات. تجاوزات بالجملة تم فضح البعض منها عن طريق منظمات المجتمع المدني على غرار منظمة أنا يقظ التي فتحت ملف التوريث النقابي وأثبتت وجود عامل القرابة في العمل النقابي والمحاباة في الانتداب والتمييز بين المنتدبين. وقد تقدّمت المنظمة بقضية للمحكمة الإدارية ضدّ كلّ من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتأمين على المرض والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية ومركز البحوث والدراسات في مجال الضمان الاجتماعي وذلك لإلغاء الفصل الرابع المضمّن صلب الاتفاقية المبرمة مع الطرف النقابي بتاريخ 03 أكتوبر 2011 وذلك لمخالفته الصريحة لإجراءات الانتداب في الوظيفة العمومية حيث أعطى الأولوية المطلقة في الانتداب لأبناء الأعوان والذي يعني بدوره التوريث. لكن بعض التجاوزات الأخرى والتي تكبّد الدولة خسائر بالمليارات سنويا لم يتم إيلائها الأهمية اللازمة من قبل الحكومات المتعاقبة على غرار ملف التفرّغ النقابي. وحسب التقديرات فإن عدد النقابيين المتفرغين يبلغ، على الأقل، حوالي 630 موظفا، وإذا قدّرنا معدّلا عاما لأجور هؤلاء الموظفين ب 1100 دينار للفرد الواحد، تكون التكلفة الشهرية للتفرغ في حدود 693 ألف دينار، أي ما يعادل 8,316 مليون دينار سنويا وهو مبلغ ضخم يهدر سنويا دون إنتاج ولا إنتاجية. والمعنيون بالتفرغ النقابي هم أعضاء المكتب التنفيذي المركزي وأعضاء المكاتب التنفيذية للاتحادات الجهوية وأعضاء الجامعات والنقابات العامة وآخرين (بصيغة غامضة قد تمنح بالمحاباة)، في حين أن الفصل 59 من القانون عدد 112 لسنة 1983 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية، ينص على أنّه “يجب أن يكون كل موظف في حالة قانونية، وهي حالات: المباشرة والإلحاق وعدم المباشرة وتحت السلاح”. كما ينصّ الباب الثالث المتعلق بالعطل، في القانون نفسه، على أنّ العطل تنقسم إلى: عطل إدارية وتشمل عطل الاستراحة والعطل الاستثنائية. عطل لأسباب صحية وتشتمل على عطل المرض العادي وعطل المريض طويل الأمد وعطل الولادة وعطل الأمومة وعطل للتكوين المستمر وعطل دون مرتب. وعرّف القانون العطل الاستثنائية بكونها تمنح بمناسبة انعقاد المؤتمرات المهنية الجامعية والقومية والدولية أو اجتماع الهيئات المديرة وذلك لفائدة الموظفين الممثلين للنقابات والمنتدبين بصفة قانونية أو لفائدة الأعضاء المنتخبين بالهيئات المديرة. وبمناسبة انعقاد مؤتمرات الأحزاب السياسية والمنظمات القومية ومنظمات الشباب، غير أنّ “بمناسبة” أصبحت بمقتضى العرف ومنذ عقود أمرا واقعا مفروضا بالممارسة على الدولة، بل يدفع البعض إلى تشريعه بنصّ قانوني يضاف إلى قانون الوظيفة العمومية، حسب ما ورد في بعض التصريحات لقياديين من الاتحاد العام التونسي للشغل. ومنذ تولي محمد عبو مقاليد وزارة الوظيفة العمومية سنة 2012، تم الغاء العمل بالتفرغ النقابي ليعوض بترخيص يتجدد كل ثلاثة أشهر، لكنه قانون لم يتم العمل به ولم يطبق وواصل النقابيون التمتع برواتبهم وامتيازاتهم دون أداء وظيفة. وهكذا فإنّه علاوة على المنحة التي تهبها الدولة لهذه المنظمة الوطنية، يضاف دعم آخر بأن تضع الدولة جيشا من الموظفين على ذمة الاتحاد العام التونسي للشغل وتدفع رواتب النشاط النقابي من المال العام. وتجدر الإشار ة إلى أنّ الفصل 96 من المجلة الجزائية يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما. وجاء في الفصل 98 من نفس المجلة أنّه على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصلين 96 و97 أن تحكم فضلا عن العقوبات المبيّنة بهذين الفصلين بردّ ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجه أو أصهاره وسواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى. ولا يتحرر هؤلاء من هذا الحكم إلا إذا أثبتوا أن مأتى هذه الأموال أو المكاسب لم يكن من متحصل الجريمة.