بسم الله الرحمان الرحيم أيّها السّادة، أيّتها السيّدات، نحيي اليوم مع سائر شعوب العالم الذكرى الستين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهي ذكرى متميزة أوليناها كل الاهتمام حيث انتظمت على مدى السنة الماضية، بالتعاون بين مختلف الهياكل والجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان، أنشطة متنوعة شملت ميادين التربية والتكوين والثقافة والإعلام، بغاية مزيد التحسيس والتوعية بتلك الحقوق، وبنبل مقاصدها، وبأبعادها وسبل حمايتها وتكريسها. وهو ما يندرج في إطار القرار الأممي بشأن الاحتفال بالستينية، وينسجم مع سياسة بلادنا وتوجهاتها منذ التحول من أجل رعاية حقوق الإنسان وتطويرها وحمايتها والدفاع عنها. ونعرب بهذه المناسبة عن إكبارنا للعاملين في مجال حقوق الإنسان، أفرادا ومنظمات وجمعيات وهياكل، لما يبذلونه من جهود محمودة في الدفاع عن هذه الحقوق وتكريس مقوماتها. ويطيب لي في هذه المناسبة أن أعبر عن خالص شكري لسماحة الشيخ محمد حسين، مفتي فلسطين والديار المقدسة وسماحة الشيخ تيسير التميمي، قاضي قضاة فلسطين على ماجاء في كلمتيهما من صادق المشاعر تجاه تونس وشعبها وقيادتها، وعلى إسنادهما إليّ “مفتاح القدس الشريف” ؛ وهو رمز نعتز به ونلمس فيه عمق أواصر المحبة والتضامن التي تجمع شعبينا، ومدى التقدير الذي تحظى به بلادنا لدى الشعب الفلسطيني الشقيق. ونحن نؤكد مجددا موقفنا الثابت إلى جانب القضية الفلسطينية العادلة ونصرتنا الدائمة وغير المشروطة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق. كما أعرب عن شكري للسيد نعيم الطوباسي، نقيب الصحفيين الفلسطينيين، على حضوره معنا هذا الموكب وعلى مواقفه الأخوية الدائمة تجاه تونس. ويسعدني بهذه المناسبة كذلك أن أهنئ السيد “بيتر كرايسكي” ثلإقظؤل مزهزآ، نجل المستشار النمساوي الأسبق “برونو كرايسكي” ثلإقظؤل قفومص، بحصول “منتدى برونو كرايسكي للحوار الدولي” على جائزة التضامن العالمية لرئيس الجمهورية لسنة 2008. لقد قام هذا المنتدى بعدة مبادرات في مجال تيسير الحوار والتفاهم بين الدول، وفي حل النزاعات بالطرق السلمية، ومساندة العمل الإنساني على المستوى العالمي، أسوة بما بذله المستشار النمساوي الأسبق من مجهودات جليلة في الغرض، وبما كان يتميز به من إيمان قوي بالقيم الكونية المشتركة. أيها السادة، أيتها السيدات، إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي جاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من ضحايا وويلات غير مسبوقة، كان تكريسا لإجماع دول العالم حول أسمى القيم الكونية وأنبلها، قيم الحرية والكرامة، فثبت للبشر مقاصد حضارية ومبادئ إنسانية والتزامات أخلاقية لا تختلف حول جوهرها الثقافات والديانات، ولا يمكن الحياد عنها أو التنازل بشأنها أو توظيفها لمآرب أخرى سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات والدول. وهي المبادئ والقيم التي حرصنا على تثبيتها في مسار الإصلاح السياسي والبناء الحضاري ببلادنا منذ تغيير السابع من نوفمبر 1987. فلم تمر مرحلة من مسيرتنا دون أن نطور تلك الحقوق وندعم حمايتها ونعزز لياتها في التشريع والممارسة، وقد عملنا باستمرار على نشر ثقافتها وتعميق الوعي بها وغرسها في نفوس الناشئة عبر برامج التعليم ووسائل الإعلام وفضاءات التثقيف والعمل المدني. إن حقوق الإنسان عنوان حضاري وضرورة أخلاقية وسياسية لتحقيق إنسانية الإنسان واستكمال مقومات الكرامة في حياة الشعوب، فهي التي تعطي للعلاقات بين الأفراد من ناحية وبين المواطن والدولة من ناحية أخرى، وكذلك بين الدول وبين الشعوب، بعدها الإنساني المتميز وجوهرها المدني المطلوب ليكون المجتمع البشري مجتمعا إنسانيا بحق. وقد شهد العالم على مدى السنوات الستين الماضية، شيوع ثقافة حقوق الإنسان ورسوخ مبادئها من خلال المواثيق والعهود الدولية المتتالية وعبر انتشارها واندماجها في التشريعات الوطنية للدول. وتطورت تلك الحقوق لتشمل مختلف الفئات الاجتماعية بآليات خصوصية كالطفل والمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة وعديد أصناف المهمشين وضحايا الحروب والكوارث الطبيعية والمهاجرين. وتطورت أشكال التصدي لممارسات غير مقبولة كالميز العنصري والتعذيب والعنف ضد المرأة واستغلال الأطفال والرق وما شابه ذلك. وتوسع مجال حقوق الإنسان من جيل إلى جيل ليشمل الحقوق كافة انطلاقا من الحقوق الأصلية كالحق في الحياة إلى أكثر الحقوق تقدما كالحق في بيئة سليمة والحقوق المتصلة بتكنولوجيات الاتصال الحديثة والثقافة الرقمية. ونحن نؤمن إيمانا راسخا بكونية تلك الحقوق وكما سبق أن أكدنا فإنه لا خصوصية في حقوق الإنسان إلا في وسائل تفعيلها ونشر ثقافتها بما يراعي أوضاع المجتمعات وطبائع الشعوب. وقد حرصنا على تثبيت كل تلك المبادئ في الدستور التونسي، ضمن تصور شامل ومتكامل، يكرس مساواة المرأة بالرجل في شراكة تامة متكافئة في كل ميادين الحياة. ومن خصوصياتنا أن جعلنا من مبدأ التضامن قيمة إنسانية ورباطا اجتماعيا فاعلا وثيق الاتصال بحقوق الإنسان وبمقوماتها الجوهرية وثبتناه في نص الدستور عندما بادرنا بإصلاحه سنة 2002. وإذ انتظم منذ أيام ببلادنا مثل كل عام “يوم التضامن الوطني” باعتباره سنّة حميدة نحرص عليها، فإني أغتنم هذه المناسبة لأتوجه بالشكر والتقدير إلى كل التونسيين والتونسيات أفرادا وجماعات ومنظمات وجمعيات ومؤسسات، على تبرعهم التلقائي وإسهامهم السخي في سبيل ترسيخ التماسك الاجتماعي، ودعم علاقات التآلف والتآزر بين سائر فئات شعبنا. إن في ذلك ما يعزز مكاسب بلادنا ويدعم ما سجلته على مستوى التنمية البشرية والاقتصادية من نتائج كرست حق كل المواطنين والمواطنات في التمتع بمرافق العيش الأساسية والحصول على أسباب الرزق والرفاه، بما جلب لتونس احترام مختلف الأوساط الدولية وإكبارها. إن دستور الجمهورية التونسية، ومنذ إصلاح سنة 2002، شامل متكامل في تكريسه لحقوق الإنسان باعتبارها ثوابت ملزمة للجميع وفي ترسيخ قيم التضامن والتآزر والتسامح بين الأفراد والفئات والأجيال، وفي تأمين الحريات الأساسية للمواطنين والمواطنات، والتواصي بمبادئ الديمقراطية والتعددية، واحترام دولة القانون والعدالة والمساواة. إننا أكدنا دوما أن حقوق الإنسان في رؤيتنا كل لا يتجزأ، وأن لا مفاضلة بين أصنافها ولا تمييز لإحداها على الأخرى. فهي متلازمة تدعم بعضها بعضا وتتكامل في الميادين السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد انتهجنا سياسة شمولية الأبعاد، حرصنا من خلالها على تكريس الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية وعلى التقدم بها بثبات في كل مرحلة بالتلازم مع مسار التنمية الشاملة والمستديمة التي أقمناها على أسس متينة وإصلاحات عميقة مكنت بلادنا اليوم من أن تصبح في المراكز الأكثر تقدما في مختلف التقويمات الدولية وفي ترقيم أكبر المؤسسات العالمية. وإني أذكر بأن من أهم ما ركزنا عليه منهجنا الإصلاحي الشامل، حرصنا المتواصل على تأمين بلادنا ضد مخاطر الانكماش والانغلاق والتغريب التي أضرت بعدة تجارب في العالم، وإصرارنا الدائم على التقدم بشعبنا بثبات وأمان في مسيرة التطوير والتحديث والحوار والتفاهم مع غيرنا من الشعوب والحضارات والثقافات، دون قطيعة مع تاريخنا وتراثنا أو تنكر لثوابتنا وقيمنا. أيها السادة، أيتها السيدات، إن ما حققته مسيرة البناء الديمقراطي التعددي ببلادنا من تطور في نسيج الأحزاب السياسية، ومن تنوع في سبل المشاركة في الحياة العامة، إلى جانب إسهامات المنظمات الوطنية ومكونات المجتمع المدني في تعزيزها وإثرائها، هي اليوم واقع ملموس لا ينكره ملاحظ نزيه سواء في مؤسساتنا الدستورية أو في تشريعاتنا وحياتنا الوطنية أو من خلال المحطات الانتخابية وفي الساحة الإعلامية. ونحن نعتبر أن الطريق مفتوح أمام بلادنا لمزيد التقدم على هذا المنهج الذي استغرق لدى بعض الشعوب التي سبقتنا، فترات طويلة امتدت على عشرات السنين وتعاقبت خلالها أجيال وأجيال. ونحن عازمون على مزيد الارتقاء بهذا البناء إلى الأفضل، واعون بما يتطلبه من مقومات لتأمين مساره ووقايته من مخاطر الانتكاس أو التراجع، وفي مقدمتها رسوخ الثقافة الديمقراطية بعمق لدى الأفراد والجماعات وفي كل مستويات الحياة العامة ومؤسساتها وهياكلها. وسنعمل على أن تكون المحطات السياسية القادمة وفي مقدمتها الانتخابات الرئاسية والتشريعية والانتخابات البلدية فرصا متجددة لتعميق تلك المقومات ومزيد ترسيخ تلك الثقافة المطلوبة وسلوكياتها. إن قيم حقوق الإنسان ومبادئها أرفع من أن تكون مطية لخدمة مصالح معينة، وهي أنبل من أن يزج بها في تحقيق الأغراض السياسية وأكبر من أن ينّصب فيها طرف نفسه مانحا للدروس. إن عالمنا يعيش اليوم أوضاعا غير إنسانية في عديد المناطق، بسبب الحروب والآفات الطبيعية والأوبئة والجفاف والفقر والأمية وتنامي ظواهر التعصب والعنف والإرهاب. وهو ما يدعو الجميع إلى المبادرة بمعالجة تلك الأوضاع بمقاربة تعطي لحقوق الإنسان بعدها الكوني الأصيل، وتتناول بالإصلاح الاختلالات القائمة، بعيدا عن كل توظيف أو انتقائية. إن تلك الحقوق تفقد كونيتها وبعدها الإنساني عندما ينتهك الحق في الحياة في أي بقعة من الأرض وعندما يبقى مئات الملايين من البشر تحت عتبة الفقر المدقع، أو يموت عشرات الملايين من الأطفال تشريدا وجوعا ومرضا. وقد بادرنا منذ سنوات بطرح مبدأ التضامن العالمي بصفته حلا يسهم في بناء مستقبل أفضل للبشرية جمعاء، واستجابت المجموعة الدولية لمبادرتنا بإحداث الصندوق العالمي للتضامن، خلال الدورة السابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة في جلستها بتاريخ 20 ديسمبر 2002. والعالم اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيل هذا المبدأ بحكم تفاقم الفجوة التنموية والرقمية بين دول العالم وداخل المجتمعات، بما يهدد الاستقرار والأمن العالميين، وبما يتضارب مع ما بلغه الإنسان من تقدم حضاري ومعرفي وتكنولوجي على جميع الأصعدة. وقد كنا بادرنا منذ أيام بالدعوة إلى جعل سنة 2010 سنة أممية للشباب، بعدما نظمنا على مدى السنة الحالية حوارا شاملا مع الشباب في بلادنا شهد إقبالا غير مسبوق ومشاركة على أوسع نطاق وتوج بميثاق للشباب التونسي تم توقيعه بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين للتغيير، ونحن نعتبر أن الشباب الذي يمثل المستقبل مازال خارج المشاركة في الحياة الدولية وخارج الاهتمامات الأممية المباشرة، ومن الضروري عندما نفكر بمناسبة ستينية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في مقاربة متجددة لها وأفق مستقبلي أكثر تقدما ونجاعة بالنسبة إلى البشرية جمعاء، من الضروري أن يكون الشباب طرفا فاعلا فيها ليس لأحد أن ينصب نفسه بديلا عنه. أيها السادة، أيتها السيدات، إن تحقيق الكرامة للجميع قاعدة أساسية لتكريس شمولية حقوق الإنسان، لذلك يبقي التشغيل في صدارة اهتماماتنا وقد أوليناه دوما وفي هذا الظرف بالذات، ظرف الأزمة العالمية المالية والاقتصادية، العناية القصوى للحفاظ على مكاسبنا ومواصلة إحداث مواطن الشغل والرزق وفرص المبادرة، وخصصنا مجهودا كبيرا للاستثمار في البنية الأساسية ولبعث المؤسسات ودعم تنافسية اقتصادنا الوطني وتأهيل مواردنا البشرية. كما سنواصل ما دأبنا عليه من سياسات وبرامج مكنت من إخراج المناطق التي كانت على هامش الدورة الاقتصادية من عزلتها وأتاحت لكل جهات البلاد مقومات التنمية والحياة الكريمة، دون إقصاء أو تهميش. إن توازن المجتمع وتماسكه واستقرار البلاد وطمأنينة المواطنين هي من مقومات حقوق الإنسان. إنه منهجنا، منهج الإصلاح النابع من تاريخنا الوطني وجذورنا الحضارية ومن إرادتنا القوية ننجزه بإيمان وثبات ونطوره برؤية متفتحة على الحضارة الإنسانية وعلى المكاسب التي حققتها البشرية في سائر المجتمعات وفي ظل مختلف الثقافات. إنه خيارنا لتبقى تونس بلد الحضارة والتسامح وبلدا مشعا على محيطه، عزيزا منيعا متقدما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.