يوم الإثنين 5 أكتوبر حصلت الأستراليّة إليزابيث بلاكبيرن والأمريكيّان كارول غريدر وجاك شوستاك على جائزة نوبل للطبّ لسنة 2009، تقديرًا لجهودهم في سبيل التعرّف على أسرار شيخوخة الخلايا. وقد اكتشف هؤلاء العلماء أنّ التيلوميرات التي تغطّي أطراف الصبغيّات (أو الكروموزومات) تشكّل درعًا واقيًا يساهم أنزيم التيلوميريز في حمايته من التآكل خلال الانقسام الخلويّ، فإذا كان هذا الانزيم موجودًا بنسبة معيّنة تجدّدت الخلايا وحافظت على شبابها، وإذا لم يكن موجودًا بالنسبة المطلوبة اضمحلّت الخلايا وأصيبت بالشيخوخة. خبر يدغدغ في البشريّة حلمًا بدأ مع البشريّة. قد نعود به إلى قصص التكوين والنشأة. وقد نعود به إلى جلجامش حين عثر على عشبة الخلود لكنّه أغفى في طريق العودة فسرقتها الحيّة اللعينة، ليتحقّق ما قالته له سودوري من أنّ الإنسان إلى زوال مهما فعل. وهو حلم عرفته الهند والصين وأوروبّا. وهناك من يعود به إلى هرمس أو إدريس الذي تُنسبُ إليه أوّل مدوّنة علميّة عرفها البشر، وإليه تعود الميثولوجيا بأصول الكيمياء والخيمياء وما تكشفان عنه من رغبة دائمة في تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة، وهل الناس إلاّ معادن؟ وقد شُغف العرب بهذا الحلم أيّما شغف على غرار سائر الشعوب، وألّفوا عشرات الكتب التي تسعى إلى «عودة الشيخ إلى صباه»، مرّة عن طريق حجر الفلسفة ومرّة باستعمال الزئبق الأحمر ومرّة بواسطة إكسير الحياة. وها هو أحد العلماء الغربيّين يثبت للمرّة الألف أنّ هذا الحلم ملازم للطبيعة البشريّة وعابر للمكان والزمان. فقد أعلن البروفيسور الأوكراني غونادي أبانيسينكو سنة 2007 عن اهتدائه إلى إكسير يمنع موت الخلايا إذا تمّ تناوله على جرعات مع تلقّي موجات كهرومغناطيسيّة لتفعيل عمله في الجسم. وأكّد وهو من المُسنّين أنه بتناول هذا الإكسير سيرجع إلى صباه في غمضة عين ويختفي الشيب من رأسه ويبدو في ريعان الشباب. طبعًا لم يصحّ زعم البروفيسور الأوكراني، كما لم تصحّ مزاعم المئات والآلاف الذين سبقوه إلى هذا الزعم على امتداد التاريخ الإنسانيّ. وعلى الرغم من ذلك فالإنسان ضعيف من هذه الناحية، وهو يريد أن يصدّق، ولعلّه يرى أنّ أمله (وإن كان كاذبًا) يستحقّ التصديق. ولا يضيره في سبيل ذلك أن يقع في الجبّ ألف مرّة، وأن يكتشف أنّه ضحيّة حيَلٍ قديمة جديدة كي يعيش الدراويش والمشعوذون وكي يحكُم الدجّالون أو كي تشتغل المصانع وتنتفخ أرصدة شركات الصيدلة العالميّة. إلاّ أنّ الأمر مختلف هذه المرّة، فالعلماء الثلاثة الحاصلون على نوبل 2009 لم يزعموا شيئًا من هذا القبيل. لقد سدّوا ثغرات تتعلّق بفهمنا لحياة الخلايا ممهّدين السبيل إلى علاج الكثير من الخلل والأمراض. وليس غريبًا أن يطول مُعدّل عمر الخليّة ومن ثمّ عمر البشر نتيجة لمثل هذه الفتوحات العلميّة، لكنّه طول لا علاقة له بأوهام الخلود والأبديّة. ولعلّ من الطريف أن نلاحظ الشقّ الثاني من كشفهم العلميّ. فقد نوّهوا بدور أنزيم التيلوميريز في الحفاظ على شباب الخلايا، إلاّ أنّهم أشاروا في الوقت نفسه إلى أنّ ارتفاع نسبته أكثر من الدرجة المطلوبة يجعل الخلايا تتمادى في الانقسام إلى ما لا نهاية، في ما يسمّيه العلماء «الخلود الخلويّ» الذي يؤدّي إلى السرطان. ها نحن إذنْ أمام الخلود القاتل. أمام الحقيقة البسيطة الأزلية: أنّ الحياة ولو لدقيقة واحدة أكثر ممّا ينبغي خيانةٌ للحياة. موضوع من تلك التي يبدو فيها العلم صديقًا للحلم رفيقًا للأسطورة. فها هو التيلوميريز يكرّر ما سبق أن همست به سودوري لجلجامش وما أضاءت به الحيّة طريق العودة، شرطَ أن نُجيد القراءة والتأويل: أنّ الحياة صنو الموت، وأنّ عشبة الخلود الحقيقيّة الوحيدة هي في ما يتركه أحدُنا من أثر لا في ما يحتلُّهُ من مواقع، وأنّ خلود البشر لا يُقاس بعمره بل بمُنجَزه.