(1) يفتح العالم هذا المساء عينه الزرقاء على مستطيل أخضر وحوله مئات الملايين من البشر مشدوهين مشدودين إلى كرة يتقاذفها شبان حاملين أزياء أوطانهم وعليها أحلام الانتصار والمجد. إنها بداية المنافسات لنيل كأس العالم لكرة القدم. أما العين الزرقاء فهي التسمية الأخرى للشاشة الصغيرة أو التلفزة التي تجمع اليوم البشر كما لا يستطيع جمعهم أحد وهي التي استطاعت بقدرتها الهائلة هذه أن تجعل من لعبة كرة القدم دين الانسانية الجديد وأفيون الكون. (2) وكان لا بدّ لكرة القدم أن توجد لأنها علامة سبّاقة على تقارب الانسانية وتوطّد انسانية الإنسان الذي يزداد شغفه باللعب والترفيه فينصرف عن العنف والحرب لأن الحرب هي في أصل الإنسان منذ الأزل منذ هابيل وقابيل لعبة قذرة يعمل الإنسان جاهدا على التخلّص منها بالاستعانة بالتشاريع السماوية والقوانين الوضعية وبإنماء الفنون وإشاعة حب الجمال وباللّعب... من أجل ذلك وجدت لعبة كرة القدم وهي دون شك استبدال للوقائع العسكرية أو هي في لغة علم النفس إعلاء أي هي طاقة لميل داخلي مكبوت يقع إفراغه واستنفاده في لعبة حافظت على مصطلحات حربية واضحة كمثل «القذف» و«الجزاء» و«التسلّل» و«الدفاع» و«الهجوم» و«الهجوم المعاكس».. كان لا بدّ إذن من ابتكار هذه اللعبة السهلة البسيطة العامية وكان من المنطقي أن يكون مبتكروها هم الانقليز هذا الشعب الأطلسي الذي أدرك مبكّرا أنه «من يستطيع السيطرة على البحار يمتلك الأرض كلّها» فانتصر على أساس ذلك للتبادل الحرّ وجعل منه عقيدة لا محيد عنها ولما تمت له امبراطورية لا تغيب عنها الشمس ابتدع لعبة كرة القدم وأنشأ لها ملاعب في المستعمرات وضبط لها قواعد وطقوسا وزرع حبها لدى العامة وأشاع ممارستها بين مواطنيه المنتشرين في المرافئ التجارية في كل أصقاع الدنيا وسرعان ما سرت لعبة كرة القدم كالنار في الهشيم في عالم قلّصت مسافاته الثورة الصناعية المنتصرة والزاحفة برّا وبحرا وجوّا ولم يمض وقت طويل حتى صارت هذه اللعبة التي تسلت بها الخاصة أول الأمر فرجة الجماهير الشعبية الأولى في كل مصر ثم وها هي اليوم تأخذ أبعاد مشهد كوني تتجنّد له القارات والشعوب وتتّحد من أجله كبرى الاقتصاديات لتبرزه في اخراج ضخم يُشعل نار الانتماء والتنافس فتقف دقات الساعة ويتردّد صوت الجماهير مناديا: خبزا وكرة قدم! وكان الطلب في روما قبل ما يزيد عن عشرين قرنا مضى: خبزا وسيركا! هل هو التاريخ لم يتغير؟ (3) لا شعب في العالم يحب لعبة كحبّ البرازيليين لكرة القدم، يقولون: نحن لا نلعب كرة القدم بل نحن نحتفل بها. ولكأن نشأة هذا البلد الممتد على مساحة ما يزيد عن السبعة ملايين كيلومتر مربع تمت في ملعب كرة قدم فولدت معها موسيقى وأساطير وملاحم وأبطال حررت هذا الشعب وقضت على ما كان فيه من بقايا عهود الاستعباد الذي كانت تفرضه طبقة المستعمرين البرتغاليين الكاثوليك على الغالبية ذات الأصول والأمزجة والطبائع الافريقية. ولا شك أن الشعب البرازيلي أفضل من سما بهذه اللعبة إلى مستوى الممارسة الفنية وأعطاها من ولعه وشغفه ما مكنه أن يجعل منها ثقافة قائمة بذاتها تجمع المائة والخمسين مليون برازيلي تحت راية واحدة لا تفرق بينهم الفوارق الاجتماعية المجحفة ولا الأصول العرقية المختلفة بل إنهم جعلوا من اتقانهم لهذه اللعبة وولعهم بها خصوصية تميزهم عن أمريكيي الشمال وعن الأوروبيين، ثم تطورت هذه الخصوصية لتصبح موضع فخر يدفع اليوم هذا الشعب الناهض إلى مزيد من التطور والنظام، وهو شعاره المخطوط على رايته. (4) يقول البرازيليون إنهم يولدون لاعبي كرة قدم ثم يصبحون رياضيين على عكس الأوروبيين الذين ينشأون رياضيين ثم يتحولون للاعبي كرة قدم وهنا يكمن الفرق كله. لكن البرازيلي بدا هو الآخر يتغيّر وصار من حيث أراد أم لم يرد طرفا في لعبة الفرجة والمال التي صيّرت كرة القدم تسلية لتلهية العامة وملء جيوب الخاصة. أهو التاريخ لا يتغير أبدا؟ (5) والعالم يفتح عينه الزرقاء على المستطيل الأخضر يؤلمني كما يؤلم التونسيين جميعا أن تغيب ألواننا عن هذه المنافسة. والحال أن الامكانات المادية والبشرية لم تتوفر لشبابنا مثلما تتوفر اليوم. هل أضعنا تلك التلقائية التي كانت تعطي للاعبينا مزيدا من الموهبة؟ أم هل هو الجري وراء الكسب السهل الذي أطاح بمستوى كرتنا؟ ثم كيف نلجأ إلى الأجنبي وكنا نحن من فتح الأبواب أمام نخب افريقيا. تقدمت افريقيا وبقينا نحن في التسلل.