جاء في كتاب وجوه مرَّت للروائي عبد الرحمان مجيد الربيعي، في معرض كتابته عن حامد جمعة (وهو اسم استعاره الربيعي لشخص بغدادي من هوامش المجتمع الأدبي، ولم يكن هذا هو اسمه الحقيقي) ما يشير إلى حالة الكتابة للغير، إذ يتنازل الكاتب عمّا كتبَ لشخص آخر، فيدعي هذا الشخص ما كتبه سواه لنفسه، وربما نشره في صحيفة أو في كتاب. وقد حدثني مثقف عربي، درس في فرنسا وأقام فيها، بأن هذه الممارسة ما تزال معروفة في الغرب، ويطلَق على من يمارسونها الكتّاب العبيد . كان الشاعر العراقي عبد الأمير الحصيري، وقد عايشته، ممن كتبوا للغير، وهذا ما اطلعت عليه أيام كنا نتردد على مقهى عارف آغا الواقعة في نهاية شارع الرشيد من جهة حي الميدان، بالباب المعظم، وكنت أرى أحد المحامين ممن يكتب لهم الحصيري أبياتاً من الشعر، فينشرها في إحدى الصحف اليومية، وهذا المحامي هو الذي شاعت حادثة اختلافه مع الحصيري، إذ كان الاتفاق بينهما على خمسة أبيات، لا غير، مقابل ثلاثة أرباع الدينار! ويوماً ما كتب الحصيري تسعة أبيات، وطالب بزيادة المبلغ المتفق عليه، فرفض المحامي ذلك، وهنا جاءت قولة الحصيري الشهيرة: وماذا أفعل بالأبيات الأربعة؟!. بل لقد حضرت فصالاً بين الحصيري والشيخ عبد العزيز القديفي، بشأن كرّاس ديني كتبه الاول للثاني، وكان الفصال حول تقاسم أرباح مبيعات الكرّاس المذكور. كنت طفلاً حين سمعت للمرة الأولى، من يتحدَّث ساخراً عن ثريٍّ يقيم غير بعيد عن حيِّنا، في مدينة الحلة، في بيت فخم محاط بمزرعة واسعة، وكان الرجل مهووساً بالشعر، فوقع بين يدي محتال، عرفته في ما بعد وقد عاش طويلاً وتوفي منذ سنوات قليلة، وكان قد أوهم الرجل الثري، بأنه فحل بين الشعراء، وصار يخربش له ما ليس له علاقة بالشعر ويتنعم بأعطياته السخيّة، ليتنعم المحيط الاجتماعي بالسخرية من الرجل الثري المهووس بالشعر. وفي التراث العربي، لم يعلق بذاكرتي ما يشير إلى ظاهرة الكتابة للغير، إلاّ ما مرَّ بي من خبر قيام أبي حيان التوحيدي بالكتابة للغير، مقابل أعطيات يعيش عليها هذا العبقري سيئ الحظ، ويبدو لي أن ابن الرومي قد أجاب من دون قصد، عن غياب حالة الكتابة للغير في التراث العربي، حيث كان أولو الأمر، من ذوي الفضل والمعرفة، في قوله: قد بلينا في دهرنا بملوك أدباءٍ علمتهم، شعراء إن أجدنا في مدحهم حسدونا فحُرمنا منهم ثواب الثناءِ أو أسأنا في مدحهم أنبّونا وهجوا شعرنا أشدَّ هجاء قد أقاموا نفوسهم لذوي الفضل، مقام الأنداد والنظراء وحين تغيَّر حال الأمة، وصار الجهل قرين من كان الفضل قرينهم، وبدأ الانهيار على كل صعيد، عُرفَت حالة الكتابة للغير، وامتدت إلى أيامنا هذه، حيث شاعت حالات اقترنت بأسماء معروفة، عَرَفْتُ بعضها معرفةً تتجاوز الإشاعة وإطلاق القول على عواهنه، إلى الاعتراف باقتراف فعل الكتابة للغير، مثلما وجدت عمليات مثيرة للسخرية، يكون فيها البائع والمشتري من الصغار، طرفاها الحاجة من جهة والاختلال الذهني من جهة أخرى. لقد شاعت في الحياة الثقافية العربية تقوّلات، لها علاقة بالكتابة للغير، تمسّ كتّاباً ومبدعين، لا يمكن أن يقترفوا مثل هذا الفعل، وما هم بحاجة إليه، وقد رصد بعض هذه التقوّلات الباحث التونسي الجاد أبو زيّان السعدي في كتابه في غياب السلطة الفكرية . وممن حاولتْ مثل هذه التقوّلات النيل منهم والإساءة إليهم، الشاعر أحمد شوقي، حيث قيل: إن مسرحياته الشعرية، شاركه في وضعها كاتب آخر. ولعل أخطر ما قيل في هذا الشأن، ما ادعاه فريد شحاتة، سكرتير طه حسين، بقوله إنه كان يساعد عميد الأدب العربي في صياغة كثير من النصوص، بل إن طه حسين كان في أوقات عديدة، يترك له إتمام أعمال، لم يتهيّأ له أن يفرغ منها . وفي كتابه خطى مشيناها يقول الكاتب المصري المعروف عباس خضر: إن محمود تيمور يعتمد في كتابة مسرحياته التاريخية على آخرين، يهيئون له المادة الأساسية، مرتبةً ومبوبةً، ويتركون له أمر إخراجها في صورتها النهائية . أما يوسف السباعي، وفي هذا الشأن تحديداً، فقد اتسع القول حوله، بعد وفاته، اتساعاً عجيباً وغريباً. وإذ تناولت هذا الموضوع، لم أكن أقصد بذلك السخريةَ أو الإساءة بقدر ما حاولت التعبير عن سؤال ظلَّ يرافقني، كلما اقتربت إلى ما يمت لهذا النوع من الكتابة بصلة، وسؤالي يتعلق بالمشتري، أكثر مما يتعلّق بالبائع! لأن البائع، منذ التوحيدي حتى يومنا هذا، تدفعه الحاجة الماديَّة أو سواها إلى هذا الفعل، ولكن ما هي دوافع من يشتري بضاعة الكتّاب العبيد في الماضي والحاضر؟! وما هي مبرراته؟!. عن الملحق الثقافي لجريدة «الرأي» الأردنية