من مميزات الثقافة العربية منذ تشكل معالمها الادبية والحضارية مقام المشافهة فيها، فما خلا مجلس او مناظرة او سجال من طرفي حوار الا وكانت أداة التواصل شفوية. فالذاكرة هي أسس الثقافة العربيةوالجسر الذي يصل الاجيال ولا يتلف شاردة أو واردة، بل تورث ثقافة العربي وتحفظ في المخيال الجمعي، فهي المدرسة الافتراضية التي تصقل المواهب وتصنع المبدعين وهي أداة وينبوع تشكل الشخصية العربية. وإذا كانت الثقافة والموروث العربي ينقل سماعيا فإن التدوين قد برز متأخرا قياسا بتاريخ العرب الادبي والشعري والفكري، وهذا ما جعل بعض النقاد مثل طه حسين يميلون الى «أسطرة» الشعر الجاهلي ويغلبون أنه لا ينتسب الى أصحاب المعلقات حتى أن عددها كان موضع اختلاف بين المؤرخين والنقاد من سبع الى تسع الى عشر، صحيح ان هذا موضوع بحث وتعمق ليس هذا مجال الخوض فيه بل فقط تجدر الاشارة الى كون الثقافة العربية بشعرها ونحوها وصرفها وأمثالها وحكمها كانت قائمة على السماع حتى أن القرآن نفسه دُوّن بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وظهرت جماعة من المسلمين عرفوا بحفظة القرآن. فالأذن العربية ظلت مدة من الزمن خزانا للابداع والفنون العربية فترعرعت وسط الموسيقى والنغمية والايقاع. إلا أن المسألة الاكاديمية التعليمية أصبحت تختلف عن الثقافات الشعبية وعن طرق تناقلها للاخبار والاشعار والنصوص والكلام المأثور لأنها خاضعة لقواعد وقوانين علمية تأخذ من كل علم بطرف، من علم النفس التربوي الى بيداغوجيا التعليم والتواصل اللغوي واللسانيات الحديثة لبنفنيست ودي سوسير. لكل هذه الأسباب وغيرها وعى الباحثان المنذر المرزوقي وسعدية بن سالم بأهمية التواصل الشفوي والمحفوظات تحديدا. فأثريا الساحة الفكرية البيداغوجية بكتاب اصدرته دار نقوش عربية خلال السنة الدراسية الجارية أشّرته وزارة التربية وحمل عنوان «تعلمية التواصل الشفوي». ان تدريس المحفوظات خلال المرحلة الاعدادية ضرورة ملحة لتربية أذن الناشئة موسيقيا وأدبيا وثقافيا مقاومة للتلوث السمعي وتأصيلا للثقافة السمعية ثم إغناء لذاكرة الطفل المتعلم كي ينهل من الخيال الشعري عند العرب. لقد احتوى الكتاب جزأين اثنين، أما القسم الاول فهو مقدمة نظرية أتى فيها كل من المنذر وسعدية على تعريف التعلّمية التعليمية ومفاهيمها ثم عرفا التواصل الشفوي والمحفوظات وخصائص النص المحفوظ، فالحافظة والذكاء الاصطناعي وأنواع الذاكرة، قصيرة المدى، طويلة المدى، والذاكرة المشهدية، والذاكرة الدلالية. واللافت للنظر في هذه المقدمة انها بحث أكاديمي عميق اهتم فيها الباحثان بأهم المفاهيم ذات الصلة بموضوع البحث مثل: المعرفة، الحفظ، الانسجام... واستشهدا بأهم المفكرين والباحثين مثل المفكر التشيكي كومنيوس واندري لالند وهنري موني وايف شافلاري وبياجي. ولقد أردفا المقدمة النظرية بعمل ميداني جاء في شكل استبيان استجوبا فيه المتعلمين عن الطرق الناجعة في عملية الحفظ، من وجهة نظرهم، هل هي الفهم أم التكرار ام هما الاثنان معا، وقد بينت العينات المستجوبة ان غالبية المتعلمين يميلون الى الشعر ويعتبرونه ايسر في الحفظ من النثر. لهذه الأسباب كان الجزء الثاني من الكتاب نصوصا تطبيقية حللها المنذر المرزوقي وسعدية بن سالم في نفس مراحل: القراءة الاستكشافية، الفهم، مرحلة القراءة الجهرية والحفظ ومرحلة التقييم. فالقصائد التي أجريا عليها التطبيق كانت منتقاة كلمة ونغما ومحتوى حتى تكون أعلق باللسان وألصق بالذاكرة وأسهل للحفظ نبيلة في معانيها سامية في قيمها من قبيل قصيدة «الى حضن أمي يحن فؤادي» ورائعة محمود درويش وغناء الفنان المبدع مرسال خليفة «أحن الى خبز أمي» وقصيدة قيس وليلى شعر أحمد شوقي وغناء محمد عبد الوهاب وقصيدة هارون هاشم رشيد التي غنتها فيروز «الطفل في المغارة» كما تضمنت هذه النماذج «يا أبناء الاعدادية» للكاتب والشاعر المنذر المرزوقي. وتكمن أهمية هذا العمل في الوقوف عند مادة من مواد التعليم التي قد لا يعيرها بعض الدارسين او المدرسين اهتماما او يعتبرونها من المواد ذات شأن أقلّ رغم الدور الجاد الذي تلعبه لتربية أذن التلميذ التربية الشعرية والموسيقية والأدبية، الى جانب تنشيط الذاكرة وتوسيع الخيال. ان كتابا في تعلمية التواصل الشفوي المحفوظات للسنة السابعة أساسي لهو كتاب حريّ بالنظر.