قرأت لماريو فيرغاس ليوسا «المدينة والكلاب» و«حوار في الكاتدرائية» و«إمتداح الخالة» مترجمة للعربي، لم أتصور أنني سألتقي يوما بصاحب هذا الادب الغزير في دمشق بمناسبة زيارته بدعوة من المركز الثقافي الاسباني أذكر جيدا التاريخ، يوم 14 جوان 2006. ومن حسن حظي يمتلأ الكراس أكتب على الغلاف المحتوى وأوضع الكراس جانبا، وهكذا وجدت ما كتبته خلال الايام الذي كان فيها ماريو ليوسا في سوريا ولبنان، وسأنشر الحوار في القنديل الثاني الاسبوع المقبل. قدم ماريو فيرغاس في دمشق محاضرة حضرها وزير الثقافة ووزير الاعلام وحشد كبير من المثقفين والأدباء وشخصيات سورية وعربية وأجنبية، وكأن الكاتب الذي ينادي بالكونية جمع في اللقاء قراء من أنحاء العالم يجمعهم حب الأدب الراقي، والسؤال المحير، كيف قرأ الشباب كل كتب فيرغاس ليوسا؟ تحدث ماريو ليوسا عن دور الأدب في تحريك المجتمع قائلا «دون أدب يصبح العالم أسوأ، يجب ان ندعم الأدب ونثق به، على الاقل يمنحنا متعة». وقال ليوسا «عرفت جان بول سارتر كما عرفه كثيرون في أمريكا اللاتينية لا سيما في أبحاثه عن ما هو الأدب الذي يثير فيه مسألة اللغة وإلتزام الكاتب، وشخصيا أجزم أن الكتابة ليست نشاطا مجانيا بل هي سلاح في مواجهة القمع وكبت الحريات». وقال أيضا: «حين نكتب نبرز كل شغفنا وخوفنا ورغبتنا والمشاعر المعتمة المدفونة في أعماق كل منا. كل ذلك يخرج ليشكل في النهاية بصمتنا الخاصة». وأضاف في محاضرته «الأدب الحقيقي يصلنا بالمجتمع العالمي ويجعلنا نطرح الاسئلة ونرى وجهة نظر مختلفة، لذلك راقبت الأنظمة الشمولية أول ما راقبت الأدب لأنها خافت مما وراء النص الادبي». وتحدث ليوسا طويلا عن نفسه ونشأته وكتاباته الاولى،وقال إنه شخص ليبرالي يؤيد الديمقراطية والحرية ضد الدكتاتوريات بشكل مطلق، وأن أسوأ الديمقراطيات هي أفضل من أفضل الدكتاتوريات. لكنه يرى أن الدكتاتورية ليست فقط الظلم والتعذيب والقهر،وإنما أيضا الانهيار البطيء لمجتمع بأكمله. وتناول الدكتاتورية في كتابه «حفلة التيس» بعدما تناولها في رواية «حوار في الكتدرائية» عام 1969. في المساء وفي جلسة خاصة كان الحوار شيقا وطويلا حتى الخامسة صباحا، وليوسا يتكلم عدة لغات منها الفرنسية والانقليزية والاسبانية بطلاقة، فهو يقيم بين المدن وحسب قوله «هو مواطن العالم الذي تتلاشى فيه الحدود يوما بعد يوم» هو إبن بوليفيا لكنه يعيش في مدريد بعد أن أقام في لندن وباريس، لذلك ينزعج عندما يسأل عن الهوية ويحتج قائلا: «الهوية هي الكلمة التي يستخدمها بوجه عام أولئك الذين يرغبون في إهانة الفرد عن طريق إلحاقه بالجماعة». وبالطبع لا يستغني حوار في دمشق عن القضية الفلسطينية، وعندما سأل الحضور ماريو ليوسا عن رأيه في القضية الفلسطينية قال «زرت اسرائيل أربع مرات، لم التق فيها بأي من المسؤولين الا بشمعون بيريز الذي اعتبره صديقي المقرب، ولم أقم بالجولة الرسمية التي تعود المسؤولون الاسرائيليون تخصيصها لضيوفهم، قمت بجولة خاصة مع أصدقاء يهود وفلسطينيين،وكم شعرت بخيبة كبيرة، اسرائيل ليست اسرائيل التي أحببت، ولا تلك التي توقعت، زرت المستعمرات الهمجية اليهودية في الخليل، حضرت مظاهرات ضد بناء الجدار العازل في قرية بلعين، والذي أصابني بإكتئاب شديد، زرت منطقة حيفا، وكانت بمثابة زيارة الى الماضي، الى أيام حرب 1948، وفي أطلال بلد الشيخ التي أصبحت مستعمرة نيشر. قمت بزيارة قبر عزالدين القسام، ورأيت الإهمال والقذارة هناك، المدينة القديمة في حيفا دفنت تحت المدينة العصرية، في كل مكان خرائب وأطلال المنازل الفلسطينية، وطريق سريع يمر داخل منطقة المقابر الاسلامية، زرت غزة ورام ا&، وسمعت عن الاطفال والنساء المغتالين، والشباب المعتقلين في السجون، لقد وصلت اسرائيل اليوم الى أبشع مراحل الاحتلال. شن ماريو ليوسا هجوما على أرييل شارون في مقال نشره في صحيفة «إلباييس» الاسبانية، بعد زيارة شارون للحرم المقدس على أساس أنه «جبل الهيكل» وتوليه السلطة وإندلاع الانتفاضة، وجاء في مقاله: «لا تكمن الاساءة في أن انسانا نمطيا غير متسامح هو الذي يتولى مقاليد السياسة الاسرائيلية، بل تكمن المأساة في أنه يوجد في اسرائيل، وهي دولة مجتمع ديمقراطي منذ قيام الدولة، بل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط أغلبية من الناخبين يعانون من حالة شديدة من اليأس أو الغضب الشديد بسبب الوضع الحالي، وهذه الاغلبية على استعداد لانتخابه لتضفي بذلك الشرعية على أفكاره الجنونية. إن جمهور الناخبين في اسرائيل الذي انتخب انسانا مثل شارون قد أساء لأهدافه، وبذلك قدّم خدمة لأعداء اسرائيل». شغف فيرغاس في فترة المراهقة بروايات جول فيرن، والكسندر ديماس، وفيكتور هيجو، وغيرهم من الأدباء الكبار وخاصة الفرنسيين، مما جعله يهيم عشقا بعالم الكتابة التي كانت وسيلته للتعبير ضد الطغيان، الذي تمثل في البداية في والده الذي أجبره على الالتحاق بالمدرسة الحربية كوسيلة لترويضه، ويرفض جارسيا فكرة انعزال الكاتب عن الواقع، وهو ما تدل عليه تجربته في خوض انتخابات بلاده، والتي قال عنها: «ترشحي لرئاسة الجمهورية لم يكن سياسة بل واجب مدني». وهو يؤمن أن الأدب رسالة سامية وليس وسيلة للتسلية، وتدل على ذلك كتاباته الاولى، حين كشف عن تجربته في المدرسة الحربية في روايته الاولى «المدينة والكلاب» التي شكلت فضيحة أحرقت على أثرها ألف نسخة منها في الساحة العامة، وقد دعا من خلال روايته اصلاح المؤسسة قاصدا بها «المدينة والكلاب» تلاميذ اربعة حاولوا مقاومة النظام الوحشي بمدرستهم الحربية. وفي اعتقادي أن ليوسا يجمع في شخص واحد مواهب عدة: إذ إنه ليس روائيا فقط، بل هو كاتب مسرح وباحث وناقد أدبي أيضا. وكان بدأ حياته الادبية فعلا وحقيقة في أوروبا. فهو قد عاش في باريس وبرشلونة ولندن، ولا يزال يقيم في كل واحدة من هذه المدن على التوالي، من دون أن ينسى زيارة البيرو كل سنة، بعد أن غادرها بعد خسارته في الانتخابات الرئاسية في بيرو، عام 1990 أمام غريمه ألبرتو فوجيموري الذي أطيح به بتهمة الفساد وهرب الى اليابان الموطن الاصلي لأجداده. وعلى الرغم من اهتمام ماريو غارسيا ليوسا بالسياسة، فهو يكرر دائما أن على الكاتب ألا يضحي اطلاقا بمشروعه الفني من أجل ايديولوجيات سياسية: «الأدب هو نشاط أساسي، وليس على الاطلاق اختصاصا. عليه ان يحتل مكانا كبيرا ومهما في حياة الناس كلّهم، كونه مصدر معرفة واسعة ومنبعا خارقا للذّة. هذه هي الرسالة التي أبلّغها للشباب: أن نقتنع بأن الكتب مهمة، إذ ليس ثمة تسلية صحية ومثيرة وباعثة على الفرح أكثر منها! فالكتاب الجديد والمبدع حقيقة يغير وجودنا بأكمله».