الآن وبعد مرور سنة على وفاة الشاعر الكبير «جعفر ماجد» أعود فأتأملّ ديوانه، فألحظ،أوّل ما ألحظ، أنّ هذا الديوان دواوين كثيرة يختلف بعضها عن بعض لغة وصورا وطرائق بناء: فمجموعة «نجوم على الطريق» تختلف عن مجموعته «غدا تطلع الشمس» وهاتان المجموعتان تختلفان عن «أفكار» وكلّ هذه المجموعات تختلف عن المجموعتين الأخيرتين «تعب» و«قصائد». لكنّ هذه المجموعات تبقى على اختلاف مراحلها وتعدّد أساليبها تهجس بسؤال واحد هو سؤال الكتابة. الكتابة من حيث هي نشدان للمعنى، وبحث ممضّ من أجل الظّفر به. لا شيء يسوّغ فعل الكتابة، عند جعفر ماجد، غير ذلك النّشدان، وهذا البحث. ولعلّ هذا الاصرار على تعقّب المعنى وملاحقته هما اللّذان قادا الشاعر الى ذرى تعبيريّة جديدة في هذا السيّاق يبرز قناع «Pygmalion» يرتديه الشاعر، وهذا القناع يؤكدّ توق الشاعر الى «نحت» عالم آخر غير العالم الذي يقيم فيه، الى نحت امرأة غير المرأة التي يعرفها. بيقماليون هو الشاعر الذي يريد أن يخضع العالم الى إرادته أو الى رغبته، هو الشاعرالذي يريد أن يصوغ الوجود وفق أحلامه واستيهاماته. بعبارة أخرى نقول هو الشاعر الذي يريد أن يفرض الدّاخل على الخارج، والحلم على الواقع، والأسطورة على التاريخ. لو كنت أصنع النساء /صنعت منك غالتي الجميلة /يا أجمل النساء / ورحت أطلب الكلام / في معبد الدعاء / وساحة العطاء / من ربّة الجمال والغرام / لأنّ في عينيك غفوة السماء. لقد بدأ ماجد يكتب الشّعر في زمن كان مفهوم «الالتزام» يفرغ القصيدة العربيّة من توهّجها ويحوّل لألاء نارها الى رماد لهذا عمد الى مناهضته، واصلا علائق وشيجة بيّن الشّعر ووطن الذّات بين الشّعر وإيقاع الجسد، بين الشعر واختلاجات الرّوح. فالشعر، لدى جعفر ماجد يوجد في الدّاخل لا في الخارج، في مملكة الوجدان، لا في مملكة الإنسان، إنّه يثوي بعيدا وعميقا في مطاوي النّفس يغذّيه الحنين الى زمن آفل أو الشّوق الى زمن قادم. ولمّا كان الدّاخل هو وطن الشّعر وبيته فإنّ القصيدة كثيرا ما تتحوّل الى لحظة بوح وآعتراف. الكلمات فيها تستمدّ من هذا الوطن القصّي شحنتها العاطفيّة لا تبكي لا تبكي فدمي أولى من دمعك بالسّفك حبّات الدمع تناثرها كتناثر حبّات السّلك ممّن تبكين أمن غضبي يا ويلي من هذا الإفك عيناك أصونهما، لهما أدمي قدميّ على الشوك الى أن يقول : غيمات في عينيك بكت فخشيت عليّ من الهلك ممّن تبكين أمن غضبي أنا راض راض لا تبكي قد لا نجانب الصّواب اذا قلنا إنّ الذي يشدّنا الى هذه القصيدة ليس مقول القول (المعاني والدّلالات) وإنّما طريقه القول (الأسلوب الفنّي) فالقصيدة ليست دلالة موقعة وإنّما هي إيقاع دالّ فقيمتها لا تكمن في ما تقوله أو تشير إليه وإنّما في موسيقاها أي في تحويل اللّغة الى أصوات وأجراس وأنغام وربما أحالنا إيقاع هذه القصيدة وموسيقاها الباذخة على قصيدة أخرى كتبها أحد أجداد جعفر ماجد أقصد «يا ليل الصبّ متى غده» للحصري. فالقصيدتان عرسان من أعراس اللّغة، عيدان من أعياد الموسيقى والإيقاع. هاتان القصيدتان كتبتا للإنشاد، للغناء، للصّوت يرتفع عاليّا.