...رائحة...المزابل المتراكمة في كل نهج وشارع وزقاق...هواء خانق بضباب دخان الاحتراق...في كل مكان...صورة لا يمكنك أبدا أن تتخيلها أنها داخل تونس وتحديدا بالعاصمة. ...ضبابية المشهد والصورة تتكرّر وكل ليلة كما حكايات ألف ليلة وليلة... على صوت أزيز الدبابات أو المدرعات التي تجوب الأنهج وسط فيالق لحفظ النظام ولبعث الطمأنينة لدى المواطنين. هكذا عاشت «الشروق» ليلتين مهمتين ليلة برفقة وحدات الشرطة العدلية وفرق التدخل السريع وفرق الأنياب ومقاومة الإجرام والجيش الوطني بمنطقة العمران وما تبعها..وليلة ثانية برفقة الوحدات الخاصة للطلائع والتدخل بإقيلم أريانة للحرس الوطني. ...متابعة إعلامية لعمل الوحدات الأمنية ليلا...في تونس يرى فيها الكثيرون أنها تونس جديدة....تونس دون نظام بن علي...أو بالأحرى تونس في خطوات أولى بطيئة جدا نحو الديمقراطية...لكن الأحداث الأخيرة التي أعادت العنف وحرق المنشآت إلى سطح الأحداث ماتزال ترفقها الكثير من التساؤلات حول من يخطط؟ ومن ينفذ؟ وما الغاية؟ ولماذا؟ وهل هي مقايضة من جهات معينة لجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما الأمن مقابل الحرية؟ رغم ما نعايشه يوميا من أحداث وما نراه يخطط خلف الكواليس... لا يجعلنا نلقي بالظلم جزافا على الجميع...متابعة الشأن الأمني ليلا من زاوية أخرى غير تلك النهارية تأخذنا إلى كون لكل حرّ في تونس مهمة وطنية تظافر للجهود بين الوحدات الأمنية والعسكرية لإعادة الأمن إلى تونس. عدة سيارات مختلفة الاختصاصات راحت تجوب الأنهج والأزقة في رحلة خاصة اعتبارا لوجود قائمة بحوالي 20 شخصا مطلوبا للعدالة وأذنت في شأنهم بطاقات جلب وأذون من وكالة الجمهورية للقيام بعمليات مداهمة ليلية...بعضهم من الهاربين من السجون ابان أولى الأحداث خلال شهر جانفي وآخرون مورطون في الاتجار في بيع الخمر خلسة وفي ممارسة نشاط مشبوه في المتاجرة بالمخدرات ومجموعات ثالثة صدرت في شأنها برقيات تفتيش بخصوص حرق مراكز الأمن إبان الأحداث الأخيرة بالعاصمة وضواحيها على غرار مركز الشرطة بالانطلاقة ومركز حي ابن خلدون وعدد من المنشآت العمومية بواسطة زجاجات حارقة هذا دون اعتبار حرق مركز جبل الأحمر والرمانة... عمليات حرق النقاط الأمنية اختلفت حولها الآراء رأى فيها البعض أنها طريقة للتعبير عن الظلم والقهر وأن مركز الأمن هو الصورة الوحيدة الذي يرى فيها المواطن ما تكبده من ظلم خلال سنوات...اعتبارا لكون صورة الأمن هي بمثابة صورة للقمع...في حين يرى شق آخر أن حرق مراكز الشرطة المدبر عبر خطط محكمة...تستعمل فيها زجاجات حارقة هو تنفيذ لمخطط إرباك أعوان الأمن وبعث الرعب في المواطنين لتنفيذ خطة الأمن مقابل الحرية... علاقة جيدة ...رغم الساعات الطويلة... داخل الأحياء والأزقة والإيقافات التي شملت الكثير من المفتش عنهم إلا أن الهدوء بدا وكأنه هدوء نسبي... هدوء تام للشوارع والأنهج بعد موعد حظر التجول رغم بعض المخالفات هنا وهناك إلا أن المواطنين لم يسترجعوا بعد كل الأمان داخل أنفسهم رغم عودة العلاقة بينهم وبين عون الأمن... مدرعات في أنهج حي التضامن السبت ليلا حتى الفجر هي الليلة الثانية للريبورتاج وحدات خاصة من فرق الطلائع ومن فرق التدخل والأبحاث لإقليم أريانة للحرس الوطني...بين شوارع التضامن والمنيهلة والإنطلاقة...مدرعات تجوب الأنهج... علقت عليها احدى النسوة بزغرودة... في حين علا صوت بعض الكهول داخل مقهى شعبي «يحيا الحرس»... هكذا كانت الصورة رغم...كثافة سكانه...وكثرة أزقته وأنهجه إلا أن حي التضامن وما جاوره من مراكز أمنية محترقة...بدا هادئا إلا من معارك بين أكثر من مجموعة...بالحجارة التي وجدت طريقها إلى سيارات دوريات الحرس الوطني. بعد أن حاولت التدخل اثر طلبات النجدة من المتساكنين...هروب وكرّ وفرّ من المتخاصمين....المسلحين ببعض السيوف والآلات الحادة . حوادث هنا وهناك...وسط ضباب كثيف جدا يحجب الرؤيا...من جراء حرق الزبالة وأكوامها العالقة في كل نهج وزقاق...رائحة كريهة جدا إلى درجة تجعلك تتمنى لو أغلقت كل النوافذ واحتميت داخل دبابة منها. هجمات ليلية كيف هي تونس الجميلة ليلا...لا تحتاج إلا لمسة حنان من أبنائها...لنمضي معا نحو مستقبل جديد... جميلة هي تونس رغم مظاهر الحرق التي تكسوها وهي تحاول استرجاع أمنها...استرجاع أمنها أكثر من أي وقت مضى... هو ليس بالأمر الهيّن بل هو بالسهل الممتنع. كانت السيارات تجوب الأنهج وصوت أحد الأعوان يعلق كمن يرافق دليلا سياحيا :« هنا في هذه النقطة بالذات مفترق الانطلاقة رأيت وزملائي...الموت...كانوا بالمئات كانت حشود من البشر تقذفنا بالحجارة والزجاجات الحارقة...المواطنون مرعوبون يطلبون النجدة وأصحاب المحلات خائفون على موارد رزقهم من الحرق... والنهب...كان الأمن وحده في تلك الساعات المتأخرة من الليل يحمي المنشآت جنبا إلى جنب مع وحدات الجيش الوطني.» انها مشاهد لا يمكن للذاكرة أن تنساها فنحن أيضا مواطنين...واجبنا حماية المدنيين....والمنشآت...أحيانا أتمنى لو أن كاميرا تصور تلك الهجمات حتى لا نتهم بالقسوة...»...تسارعت الوحدات تشكل فيلقا كاملا...من السيارات تمشط الشوارع لبعث الطمأنينة...يترأسها مدير الاقليم الوطني للحرس بأريانة هكذا هي كل ليلة...ستسهر الوحدات الأمنية إلى الفجر...رغم خلوّ الشوارع إلا من بعض السيارات المضطرة للخروج. «من واجبنا أن نكون متواجدين...قبل ليلة واحدة...نقلنا سيدة حاملا فاجأها المخاض إلى المستشفى...لم تكن هناك سيارات أجرة بسبب حظر التجول...وقبلها نجدنا رضيعا أصيب بارتفاع شديد في الحرارة... تولينا نقله ووالديه إلى مستشفى الأطفال...وجودنا لخدمة الوطن...فنحن لسنا إلا جزءا منه لا يتجزأ. كل الليالي الأمنية متشابهة ذكرتني بسلسلة ريبورتاجات كنت واكبتها خلال التسعينات وأوائل سنة 2002 بدأ الفرق الوحيد أحيانا أن كل من تم ايقافهم ليلة السبت الماضي من مخمورين ومن راشقي حجارة...لم تأذن النيابة العمومية بإيقافهم...فتم إخلاء سبيلهم...رغم كون التدخل الأمني كان بطلب من المواطنين...الذين ضاقوا ذرعا...بالسكر على قارعة الطريق...