الحزب السياسي، كما أراه، هو تنظيم مهيكل ينشط في إطار دولة بكل شفافية، لا يهم إن كان نظام الحكم ديمقراطي من عدمه، وغايته الوصول للحكم عبر آلية الانتخاب وله برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يسهر على تجسيمه بكل الأدوات المسموح بها قانونا. ولسائل أن يسأل، هل أن الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية في تونس مهيكلة وتنشط في إطار الشفافية ولها برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تمارسها في إطار القانون؟ قطعا لا، فالأغلبية الساحقة من الأحزاب لم تعقد مؤتمرها التأسيسي حتى تكتسب مشروعية وجودها فضلا عن كون معظمها ليس مهيكلا اظافة إلى كون غالبيتها عديمة البرامج ولا غاية لها سوى تعكير صفو الأحزاب الحاكمة والتشويش عليها بدعوى المعارضة. بلغ عدد الأحزاب إلى الآن 212 حزبا، تركيبة فسيفسائية، والسؤال إن كانت هذه ظاهرة صحية نافعة للبلاد أم مرض إمتلائي أصاب شرايين الحياة السياسية فتصبح حينئذ الوفرة الحزبية تشرذم سياسي ومعول تخريب وتعطيل للدولة؟ أليست كثرة الأحزاب خطرا على الديمقراطية التي لا تزال غضة وفي خطواتها الأولى؟ هل أن الطفرة الحزبية تفيد حقيقة إهتمام التونسي بالشأن العام؟ أليست هذه الأحزاب التي أغلبها ميكروسكوبية من حيث الحجم وديكورية من حيث الوجود مجرد ظل للأحزاب الكبرى وخزان احتياطي يرجع إليه عند الضرورة؟ أليس قانون الأحزاب هو المتسبب في هذا التشظي لأن شروط التأسيس واجراءاته من السهولة بمكان؟ ألسنا في حاجة إلى انكماش حزبي كما نحن في حاجة إلى انكماش اقتصادي؟ هل أن تونس قادرة على تحمل هذه الطفرة من الأحزاب التي تكاد تكون في شكل جمعيات أم أنها في حاجة للانصهار في أربع أو خمس عائلات سياسية: ذات مرجعيات متعددة عقائدية، يسارية، قومية وليبرالية؟ إن القاعدة الأصولية تقول بأن الكيف يأتي من الكم وبالتالي فإن التنوع عموما مرغوبا فيه ومندوبا إليه والتنوع السياسي رديف التنوع الفكري والثقافي، فكما تزداد الطبيعة ثراء بالتنوع البيئي تزداد الحياة السياسية ثراء بالتنوع السياسي. لكن، كما أن قيمة الثقافة تقاس بقدرتها على تلبية الحاجة الثقافية اليومية فإن الفكر السياسي ومنه الأحزاب السياسية قيمتها في تماهيها وإلتحامها بالواقع المعيش، تتأثر به سلبا وإيجابا، وإلا كانت بضاعة جاهزة لها نفس طبيعة السلع المعلبة تقاس قيمتها بقدرتها على تلبية الطلب الاستهلاكي وترمى بعد الاستهلاك مباشرة في سلة المهملات. والسؤال المطروح بإلحاح كبير: أين العطاء الفكري والسياسي الفاعلين في الواقع والمعالجين لمجتمع يبدو مريضا ولدولة معطوبة؟ أليست التنظيمات المهنية والنقابية أرسخ في المجتمع وأهم من الأحزاب من حيث المفعول والتأثير؟ أليس الكل يخطب ودها؟ أليست وثيقة قرطاج 2 المعطلة دليلا واضحا على الفشل الذريع في عدم ملائمة المصالح الحزبية لبعضها البعض بما يتماشى ومصلحة الوطن والعبرة بذلك؟ أين الخطاب السياسي الرصين المعتدل الذي يقطع مع المزاجية والإندفاعية والهوس المصلحي والهوى السياسي؟ ما يصدم العقل ويجمد الإحساس هو غياب الحكمة لدى أغلب العائلات السياسية حتى لا أقول جميعها حال كون الدولة في أمس الحاجة إلى رؤية واقعية لا مزاجية ولا مصلحية تنهض بها حاضرا ولم لا إستشرافية تخطط للمستقبل بوسائل معرفية وعلمية. حقيقة، لقد انطلقت منذ بواكر الثورة طفيليات الآراء السياسية تزامنا مع طفيليات الأحداث وازدحمت الساحة بزبانية الأيديولوجيات معظمها يحمل الكثير من الخيبة والقليل من الرجاء، ضبابية وغموض في الطرح السياسي وانحسار الأفق والترصيف الفكري العقيم. فهناك أشباه مثقفين وأشباه سياسيين كسروا ولا زالوا مزراب العين للظفر بالشهرة المجانية فتجدهم في حلق المذياع وعلى وجه التلفاز وعلى صدر الصحف ينطقون بكلام ظاهره الصدق وباطنه الكذب، تراهم يجادلون في البديهيات والحقائق الثابتة ويمتنعون من تناول الأفكار البناءة بالدرس والتمحيص. وإذا أردت فهم خطاباتهم المعروضة للبيع والشراء في عكاظ الأحزاب فكأنك تطارد السراب لتجمعه بناصيتك دون جدوى. بعض أفكارهم تعتنق السياسة كما يعتنق الرمس الجثمان، مسكونة بطموحات شخصية مرضية ومستعجلة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تمت للمصلحة الوطنية بشئ. وإن من يسكت عن فضح هؤلاء السماسرة الذين لا يهدأ لهم بال ولا يستقر لهم حال تنقصه يقظة الضمير وجرأة البيان وفصاحة اللسان. هل أن الأحزاب سواء كانت في السلطة أم في المعارضة بصدد تقديم حلول نافعة، ناجعة، صادقة، علمية وخالية من عداوة الماضي وأنانية الحاضر ومخاوف المستقبل وكفيلة بإخراج البلاد من عنق الزجاجة؟ هل هناك مخابر ولجان حزبية فاعلة ومجالس للسياسات تدرس وتبرمج وتخطط على المدى البعيد كما هو الشأن في الدول المتطورة؟ في كل مرة يكثر الجدل ويحتدم النقاش في صغائر الأمور بغاية إفراغ أمهات القضايا، التي تشهد مخاضا غاية في الخطورة، من مضامينها ومتطلباتها التاريخية. من ذلك أذكر مسألة المساواة في الميراث، زواج التونسية بأجنبي غير مسلم، حمل لقب الأم، إفطار رمضان وغيرها، وهي جميعها مسائل تفصيلية، ولئن تبنتها الأحزاب، تربك المسيرة السياسية للبلاد في غياب الاستقرار وإتجه الالتفات عنها في هذه المرحلة وتأجيلها لأوقات لاحقة. أليس من واجب الأحزاب الإنكباب على الإصلاحات الكبرى والمصيرية والتي لا يمكن تعافي البلاد بدونها مع السرعة في الإنجاز لخطورة الوضع الإقتصادي بدلالة المديونية المشطة، تدهور الدينار، نسبة التضخم المرتفعة... أعود فأقول بأن كثرة الأحزاب ليست عربون ديمقراطية، فأمريكا مثلا لها ثمانية أحزاب لكن حزبين فقط فاعلين في الحياة السياسية وهما الديمقراطي والجمهوري، وكذلك الشأن في بريطانيا المحافظين والعمال وهي دول ذات تقاليد ديمقراطية ضاربة في التاريخ. هناك من يقول بأن وراء كثرة الأحزاب أطرافا خارجية غايتها التفتيت والتشتيت لكي لا تستقر الأحوال ويضرب بالتالي الإستقرار السياسي وتفشل التجربة الديمقراطية في تونس. حقيقة، هناك أحزاب لا يتعدى وجودها حانوت مغلق كواجهة وكمشة منخرطين يتدارسون شؤونهم ومصالحهم عبر الهاتف ولم يشاركوا في أية إنتخابات. فما معنى حزب لا يشارك في الإنتخابات الشيء الذي يفرغه من كل مدلول ومحتوى خاصة وأن الهدف من تأسيس الحزب هو الوصول للسلطة مركزية كانت أم محلية. الأحزاب السياسية اليوم وعلى كثرتها ليست سوى فقاقيع لن يطول وجودها ومعظمها يشوش ويلوث المناخ السياسي عموما. ولقد عرضت على المعتصم بن هارون أحد خلفاء الدولة العباسية جارية يشتريها فسألها:انت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح في عهد المعتصم، هكذا هي حال تونس الثورة، لقد كثرت فيها الفتوح... نافلة القول، إن الأحزاب السياسية على كثرتها عاجزة لا محالة عن استيعاب شواغل الشارع بدلالة نتائج الإنتخابات البلدية التي تدل دلالة واضحة لا لبس فيها على عدم إهتمام التونسي بالشأن السياسي وخصوصا الشباب، زد على ذلك فإن معظم الأحزاب متصدعة إن لم أقل منفجرة ومرشحة للذوبان وكان لزاما عليها إدارة الإختلاف والدعوة الصريحة إلى تصالح المصالح بينها وهو لعمري صمام أمان باعتبار ان البلاد لا تتحمل مزيدا من التصدع الحزبي والانفلات السلوكي. كذلك لا بد من إرساء مدونة سلوك يقع بموجبها منع السياحة الحزبية، أي الإنتقال من حزب إلى آخر، والتي أرى فيها خيانة لأمانة الناخب. أليس الناخب ونحن على أبواب انتخابات رئاسية وتشريعية غاية في الأهمية والخطورة مهدد بالضياع في ثنايا الفراغ؟ قبل الإنتخابات القادمة، تونس في حاجة إلى خريطة طريق سياسية تجمع بتلابيب هذه الأحزاب الصغيرة المتنافرة في معظمها في إطار وثيقة تفاهم، عقد سياسي يرسم الخطوط الحمراء، لأن مصلحة البلاد غير قابلة لمزيد من التجزئة والتقسيم في زحمة المتطلبات المصيرية. بلادنا في أمس الحاجة للإنقاذ السياسي قبل الإنقاذ الإقتصادي وفي أقرب الأوقات، فالاقتصاد مصيره مرتبط بالسياسة ولا يمكن فك الارتباط بينهما مطلقا...