من الأكيد، وبعد الذي شاهدناه يوم الخميس، أنّه لن يكون من المغالاة في تكرار القول إن الإضراب العام كان ناجحا بامتياز.وإنّ هذا النّجاح مثّل نقطة تحوّل في النّضال النقابي. وأعلن من ثمّة، بدء مرحلة جديدة في علاقة هذا الأخير بالعمل السياسي والاجتماعي. كنّا نعلم أن الثورة غيّرت مفهوم النضال النقابي. وعزّزت دوره بعد أن أضفت عليه بُعدا سياسيا واضحا جعل من الاتحاد اليوم لاعبا مهمّا على الساحة الوطنية. لكن هذا الدور تأكّد بازدياد مع التّآكل السريع الذي عرفته الأحزاب السياسية لا سيّما المنتسبة إلى العائلة الوسطية والمضطلعة بالحكم والتي فشلت منذ انتخابات 2014 في تحقيق برامجها لا سيّما في ما يتعلّق بتخفيض البطالة وإيجاد فرص عمل مستحدثة وتحسين الطاقة الشرائية للمواطن وإنعاش الاقتصاد الوطني. لكن فشل الأحزاب السياسية لم يكن السبب الوحيد في تنامي دور الاتحاد. فلقد ثبّت محورية دوره السياسي كذلك فشل الخيار التمثيلي الحالي داخل مجلس نواب الشعب الذي لم يلبث تشتت مشهده السياسي يؤكد تفكّكه وعجزه، بالنتيجة، عن مصاحبة الأحزاب الحاكمة وفرض اختيارات اقتصادية واجتماعية واضحة. بل إن هذا المجلس، على قيمة دوره وأهمّيته، تحوّل إلى عنصر اصطفاف سياسي وتعطيل للعملية التنموية. إضافة الى هذين الفشلين، فشل الأحزاب وفشل البرلمان، برز دور الاتحاد السياسي وكبر. وتجاوز منطقيا إطار برنامج نضاله التقليدي المتمثّل في العمل على تحسين أجور الشغالين وظروف عملهم، الى الرّفع من طاقتهم الشرائية. اتحاد الشغل اليوم ليس اتحاد الحبيب عاشور، ولا اتحاد عبدالسلام جراد، ولا حتى اتحاد حسين العباسي. هو اتحاد سياسي بامتياز، وذلك ليس اختيارا بقدر ما هو ضرورة تاريخية، فرضها واقع وطني كما بينّا ذلك، وتفرضها كذلك تحولات خارجية تحت ضغط العولمة الاقتصادية. في هذا الاطار الدقيق كان على قادة الاتحاد أن ينجحوا في أهم وأخطر امتحان متمثل في أول إضراب عام بعد الثورة وكذلك بعد أربعين سنة من آخر إضراب عام عاشته البلاد وكلفها موتا كثيرا ودمارا كبيرا. ولقد نجح قادة الاتحاد في الامتحان. ليس فقط لأنهم حشدوا القواعد العمالية بنسبة مائة بالمائة بل لأنهم، مع ذلك، ضمّنوا التحرّك السلمي والهادئ لهذه القواعد. ويبقى النجاح الأكبر في نظري متمثّلا في ما يمكن أن نعتبره ميلاد زعيم نقابي من نفس عيار زعماء الاتحاد التاريخيين. ونعني هنا السيد نورالدين الطبوبي. فلقد أظهر في جل مواقفه قبل وخلال وبعد الاضراب العام من الثبات والحضور والتصميم ما يؤكد أن الرجل ليس ابن البارحة، وأنه صاحب قناعة ومبدإ وأنه واضح الرؤية قوي الحجّة وأنه رجل شجاعة وجرأة. قد نجد في خطابه البعض من المبالغة وربّما من المغالاة. وقد نجد فيه كذلك تحيّزا وتناقضا. لكن كل ذلك لا يقلل من قيمة الخطاب ومن الصورة التي ارتسمت عن الزعيم النقابي. نورالدين الطبوبي هو الزعيم النقابي اليوم، ما في ذلك شك. وفي هذا كسب كبير للبلاد التي تحتاج إلى زعماء جدد وإلى زعيم نقابي بالخصوص يكون خصما عسيرا وشريكا فاعلا، في ذات الوقت، يسهل الوصول إلى حل حاسم، نهائي ودائم لأن الزعيم القوي هو الضامن للحوار المجدي والمثمر كما يعلّمنا ذلك التاريخ. بقي أن نشير إلى أن الزعامة مسؤولية ثقيلة، ومسؤولية نورالدين الطبوبي اليوم لا تقل خطورة. إذ يتوجّب عليه تجنّب أن يكون خطابه مدعاة الى التفرّع الثنائي وانقسام المجتمع التونسي إلى أغنياء ضد فقراء، وعمّال ضد أرباب عمل، ومنتفعين من الثورة ضدّ الخاسرين وأن يبتعد عن نهج الإقصاء وما يمكن أن يسبب التمايز والتفرقة. والسؤال الأخطر المطروح اليوم على نورالدين الطبوبي وقد صار زعيما، يتمثّل تحديدا في رفع اللّبس الناشئ في سياق عزم الاتحاد القيام بدور سياسي ضمن الانتخابات المقبلة. فما هي حدود الفصل بين العمل النقابي الجامع دون شرط الانتماء، والعمل السياسي الذي يفرض انتماء وتوجّها؟ صحيح أن النضال النقابي «يساري» بالطّبع ولكن أي اليسار يجب مستقبلا أن يكون من منظور الاتحاد؟ هذا البعض من أسئلة عديدة أخرى طرحها الزعيم النقابي الطبوبي الذي أسس أول أمس لمرحلة جديدة في النّضال النقابي السياسي.