تونس الشروق: في يوم وفاة رئيس الجمهورية، حزن وألم كبيران ولكن حياة طبيعيّة في الشارع وسير عادي لدواليب الدولة وانتقال سلس للسلطة...تونس تودّع الباجي قائد السبسي رئيسها الاستثنائي. رحل الباجي قائد السبسي، أوّل رئيس منتخب انتخابا مباشرا وحرا في تاريخ الجمهوريّة التونسيّة المستقلّة، رحل رجل استثنائي سيتركُ بصماته محفورة في تاريخ البلاد لتقرأ تفاصيلها الأجيال القادمة كعلامة وضاءة لمسيرة رجل عاصر الجمهوريّة منذ تأسيسها إلى دخولها طور الديمقراطيّة والتعدديّة والتداول السلمي على السلطة، وواكب بناء الدولة الحديثة وساهم بقسط مهمّ في استقرارها وابتعادها عن كلّ سيناريوهات الفوضى والانقلابات والاحتراب الأهلي. سي الباجي أو «بجبوج» كما يحلو للكثيرين تسميته، رحل في هدوء وصمت ولكنّه سيبقى علامة فارقة، وكأنّ الأقدار اختارت تاريخ وفاته في ذكرى عيد الجمهوريّة تكريما له وتخليدا لاسمه وتذكارا دائما له دون انقطاع، تذكارا لرجل كرّس مسيرته السياسية لأكثر من خمسين سنة في خدمة بلده وفي دعم استقرارها وتقدّمها وإشعاعها بين الأمم وانتهى بها صاحب فضل كبير في إخراجها من عهد الاستبداد والدكتاتورية إلى العهد الديمقراطي. يُغادر الباجي، دونما شكّ هانئ البال، فلم تكن وفاته مدعاة للخوف أو الفزع أو إحداث الفوضى بل أكّدت تلك الوفاة الاستثناء التونسي مرّة أخرى، إذ برغم دموع الفراق ومشاعر الحزن والألم العام الذي عبّر عنه كلّ التونسيّين والتونسيّات، فقد تواصلت الحياة طبيعيّة في الشوارع والأسواق وواصلت أجهزة الدولة عملها بشكل اعتيادي وبسرعة قياسية تمّ نقل السلطة سلميا وبشكل سلسل وفق ما قرّره الدستور، الدستور الذي ساهم الباجي في كتابته وصياغة الكثير من فصوله في ملحمة الحوار الوطني التاريخية التي قادت تونس فعليا إلى دخول عصر الدول الديمقراطيّة. الباجي البورقيبي الديمقراطي، الذي ناطح الاستبداد والحكم المطلق منذ بداية سبعينات القرن الماضي حيث كان أحد قادة التيار الدستوري الليبرالي الديمقراطي الذي خالف النزعة التسلطيّة وكان منطلقا لتفعيل خطوات مهمة في سبيل تكريس حريّة التعبير وحقوق الانسان والحريات بصفة عامة من داخل الدولة وفضاءات الحزب الحاكم (مؤتمرا المنستير 1 و2). كان حاضرا لما ناداه الواجب الوطني بعد الثورة للاضطلاع بدور محوري في مسار الانتقال الديمقراطي فترأس الحكومة التي أشرفت على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، وهي أوّل انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة في تاريخ تونس، وخرج من السلطة في حركة نادرة محليّا وإقليميا، ثمّ عاد من جديد من خلال رؤية سياسية وطنية حكيمة لتفعيل مبدإ التوازن السياسي أحد أركان الديمقراطية ببيانه الشهير يوم 12 جانفي 2012، ولاحقا بتأسيسه لحزب نداء تونس وقبوله المنافسة الانتخابية له ولحزبه في الانتخابات العامة التي جرت في أكتوبر 2014 وتحقيقه لفوز مزدوج في الرئاسية والتشريعيّة. هو الرجل الديمقراطي، وهو رجل التوافق ورجل الحوار الدائم، مارس السياسة بمنطق رجل الدولة وخصاله، بقي وفيا لرمزيته كرئيس لكلّ التونسيّين، صارع خصومه بمسؤوليّة وصراحة، وخاطب شعبه دوما بروح مزجت بين الجد والهزل، لهذا استطرفه وأحبّه غالبية الشعب، كان شخصا استثنائيا في سعة ثقافته وزاده المعرفي الواسع وخبرته الجيّدة في إدارة شؤون الدولة بامتياز وواجه في ذلك الكثير من العواصف والاغراءات، وكان ضدّ الإقصاء والاستبعاد مؤمنا بأنّ تونس لكلّ التونسيّين وأنّه لا مستقبل لبلد موحد ومجتمع متجانس دون الديمقراطية وثقافة التعايش. سيذكر له التاريخ دوره المحوري اللافت غداة الأزمة السياسية الخانقة التي عاشتها بلادنا سنة 2013 عقب الاغتيالات السياسية وذبح الجنود البواسل في جبل الشعانبي، حيث كان طرفا مهما في إطلاق سياسة التوافق مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في لقاء باريس الشهير يوم 11 أوت 2013 وأحد مكوّنات الحوار الوطني الذي أشرفت عليه المنظمات الوطنية الكبرى وانتهى باستكمال المرحلة التأسيسية بكتابة دستور الثورة وتركيز الهيئة المستقلّة للانتخابات وفتح الطريق لأوّل تداول سلمي على السلطة جمعه بالرئيس المؤقت حينها محمد المنصف المرزوقي. كان ضامنا لوحدة البلاد واستقرارها حكومة وشعبا وثورة. غادر دون أن يسلّم بصفة مباشرة وعمليّة العهدة لخلف له مفترض خلال الاشهر القليلة القادمة، ولكنّ المراسم الدستوريّة التي تمّت أمس بتولي محمّد الناصر رئيس مجلس النواب مهام رئاسة الجمهورية بصفة رسميّة، حقّقت ذاك التداول في كنف الهدوء ودون جدل أو أي نوع من أنواع الفوضى. لم يكن يخاف الموت، بل كان في خطاباته الأخيرة وخاصة منها خطاب ذكرى عيد الاستقلال الأخيرة، يستحضر غيابه بعزيمة قوية أكّدت معان كبيرة منها أنّ الدولة فوق الأشخاص وأنّ التاريخ هو الذي سيخلّد مسيرة السياسيّين وأنّ المهم في مسيرة رجال الدولة هو ترك الأثر الإيجابي خدمة للدولة والمجتمع دون حقد ودون عداوة لأي طرف. تونس ستبقى مدينة للرئيس محمد الباجي قائد السبسي أول رئيس جمهورية منتخب، انتخابا ديمقراطيا عاما وحرا ومباشرا، دون تزييف أو تزوير او تلاعب، وهي مدينة له بما أنجزه وما تركه من مساهمات بارزة في جمهوريتي الاستقلال والديمقراطية. وتونس مدينة أيضا لسي الباجي، بهذا الهدوء وهذا السير العادي لشؤون الدولة والمجتمع وهذا الانتقال السلس للسلطة الذي أعقب وفاته. رحل «سي الباجي» دون ضجيج كثير ودون خوف من المستقبل، فقد أَسّسَ لثقافة الوئام والتعايُش السلمي ودفع بمسار الانتقال الديمقراطي خطوات إلى الأمام، برغم صلاحياته الدستوريّة المحدودة، وأعادت تجربته في الحكم بعد الثورة الكثير لرمزيّة رئيس الجمهورية، كموحد لكلّ الشعب، ولنواميس هيبة الدولة واحترام الدستور والقانون، رمزية ونواميس لن يقدر من يأتي بعده على خرقها أو تجاوزها، وقد عاينا أمس تجليات ذلك بالاشتغال العادي بدواليب الدولة والانتقال السلس للسلطة. رحم الله سي الباجي وأسكنه الله فراديس جنانه.