انتهت انتخابات التأسيسي وبدأت ملامح المشهد السياسي تتوضّح في اتجاه إبراز قوى وأحجام مختلف الفاعلين السياسيين، ولكن تزداد صور الممكن فعله على مستوى إدارة البلاد وشؤون الدولة والحكم والسلطة أكثر تعقيدا. تنفتح على مستوى الحراك السياسي في علاقة بتشكيل الحكومة الجديدة وتعيين رئيس الدولة للفترة المقبلة أسئلة من الحجم الثقيل هي أسئلة حارقة بكلّ المعاني والاعتبارات، وممّا زاد في حرارة هذه الأسئلة حيازة حركة «النهضة» لأغلبية الأصوات والمقاعد بالمجلس التأسيسي، وهو الأمر الّذي لم يُغيّب حدّ اللحظة «الهجمات المعاكسة» و»التخوّفات»التي تصرّ بعض الأطراف السياسيّة على التمسّك بها رغم الحصاد الانتخابي البيّن، ومن أبرز تلك الأسئلة: من هي الشخصية السياسيّة على مستوى أعلى هرم السلطة (رئيس الدولة) التي تكون محلّ إجماع وتكون قادرة على تأمين المرور السلس خلال فترة المجلس الوطني التأسيسي؟ كيف ستتشكّل الحكومة الجديدة ؟ هل هي حكومة إئتلافيّة بين مختلف القوى الصاعدة للمجلس التأسيسي أم هي حكومة وطنية يدخلها حتى أولئك المنهزمون في الانتخابات أم هي حكومة تكنوقراط مُحايدة لا تمثيل فيها للرابحين أو الخاسرين في السباق الانتخابي؟ هل لحركة «النهضة» الحزب الأغلبي «الحق» في رسم وتحديد الجزء الأهم من الخارطة المقبلة للسلطة الحاكمة وقيادة الدولة؟ أيّ موقع وفاعلية لتيار العريضة الشعبية وأين ستستقر بوصلة حزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات في اتجاه «النهضة» أم في اتجاه مخالفيها؟ كيف ستكون العلاقة الجدليّة بين «النهضة» و«المؤتمر من أجل الجمهوريّة» هل ستتواصل على نفس الود أم ستُصاب بلوثة الخلافات ناهيك وأنّ «حزب المرزوقي» متمسّك بالقطع النهائي مع ما يُسميه رموزه ب«العهد البائد» والّذين يضعون في سلّته كلاّ من الرئيس الحالي والوزير الأوّل كذلك؟ انفتاح الحياة السياسيّة على واقع جديد من الحرية والديمقراطيّة جعل تداول مثل هذه الأسئلة مُتاحا للرأي العام إذ بادرت حركة «النهضة» بترشيح أمينها العام السيّد حمادي الجبالي لرئاسة الحكومة ورشّحت آخرين لرئاسة الدولة على غرار الوزير الأوّل الحالي السيّد الباجي قائد السبسي والسادة أحمد المستيري والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر، وتحدّث حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات أنّه غير معنيّ بمنصب رئاسة الدولة وتتداول الساحة السياسيّة أسماء أخرى لرئاسة الدولة من بينها السيّد أحمد بن صالح ولرئاسة الحكومة من بينها على وجه الخصوص مصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي حاليّا والوزيرين الشاذلي العياري ومنصور معلّى. وعن كيفية تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب وفي الوقت الّذي يتحدّث فيه الحزب المنتصر عن مشاورات مع مختلف الأطراف الرابح منها والخاسر لضمان تمثيليّة أكبر في التركيبة الحكوميّة وضعت أحزاب أخرى نفسها في موضع المعارضة ورأت أخرى أنّه ليس من حقّ حركة «النهضة» التحدّث في هذه المسألة معتبرة أنّ المرحلة مرحلة انتقاليّة ثانية لا معنى فيها لحكم الأغلبيّة وأكّدت أطراف ثالثة أنّها لن تُشارك في حكومة بها ممثلون عن «النهضة» نفسها التي أكّدت هي الأخرى أنّها لن تفتح خيط المشاورات مع تيار «العريضة الشعبية» الّذي يتزعّمه الوجه الإعلامي والسياسي المعروف محمّد الهاشمي الحامدي. ويرى عديدون أنّ مثل هذه الأسئلة والإجابات عنها هي مشروعة وهي دليل على طبيعة المرحلة الديمقراطية الجديدة التي تدخلها تونس بعد نجاح انتخابات 23 أكتوبر بل هي تتويج لها، وفي النهاية ربّما قد تصل مختلف الأطراف إلى حالة وفاقيّة لإنهاء معضلات مثل تلك الأسئلة الرائجة حاليّا في كلّ المجالس والمنتديات بل وكذلك على مستوى الإعلام الوطني والأجنبي وتتّجه كلّها نحو خيار توافقي لتعيين رئيس الدولة ورئيس الحكومة وتركيبتها أو الخطوط الكبرى لذلك على ضوء المداولات الأولى للمجلس الوطني التأسيسي وطبيعة التوازنات الّتي ستتمّ في رحاب المجلس والّتي تتّجه حاليّا إلى ثنائيّة تكاد تكون بيّنة طرفاها حركة «النهضة» والقريبين منها من ممثلي الأحزاب أساسا منها المؤتمر من أجل الجمهوريّة وكذلك المستقلين. ولكن دقّة المرحلة وطبيعة التغيير الجذري الحاصل على مستوى المشهد السياسي والانتخابي قد توجد أسئلة أكثر حرارة وأكثر أهميّة، أسئلة بعيدة عن الأنظار لا يكون أمر تداولها مُتاحا للجميع لأنّ مكمنها الكواليس المغلقة والغرف الضيّقة ومحدودة العدد والمفاوضات السريّة جدّا والتي قد تختلط بصيغ لضغوطات خارجيّة مُحتملة، ومن أهمّ تلك الأسئلة: هل سيقبلُ الرئيس المؤقت الحالي السيّد فؤاد المبزّع مغادرة القصر الرئاسي بقرطاج وهل يقبل الوزير الأوّل السيّد الباجي قائد السبسي تلك المهمّة وإن قبلها هل ستكون لديه شروط معيّنة؟ من سيتحمّل الحقائب الوزاريّة السياديّة خاصّة منها حقائب الداخلية والدفاع والعلاقات الخارجيّة؟ أيّ المواقف الّتي ستتّخذها الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية حيال متغيرات الوضع السياسي؟ من الواضح إلى حدّ الآن أنّ السيّد الباجي قائد السبسي ينطلق بحظوظ وافرة جدّا لتولّي منصب رئيس الدولة ولكن مطّلعون على الشأن السياسي «الدقيق» يؤكّدون أنّ الرجل هو «رجل دولة» وليس من الطينة الّتي تقبل لعب دور «الديكور الرئاسي» وهو الّذي وضع نفسه دوما في منزلة الماسك بالدواليب والمتمكّن من كلّ الملفات وصاحب الرأي الفصل في العديد من القرارات والمهمّات الكبرى والحسّاسة والتي من بينها دونما شكّ ملفي الداخليّة والمؤسّسة الأمنيّة. بقي أنّ الأنظار تبقى دونما شكّ تترصّد تفاعلات «اللحظات الأخيرة» في مفوضات يبدو أنّها عسيرة ويبدو أنّها تتزامن وتتساوق مع النسق البطيء الّذي تمّت عليه مرحلة الإعلان عن النتائج النهائيّة والرسميّة لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ويذهب عديدون إلى أنّ الإعلان النهائي عن تلك النتائج قد تعطّل بفعل تعطّل نسق التفاوض حول صورة الحكم والسلطة والدولة خلال الفترة القادمة. على أنّ أكبر الملفات يبقى متّصلا بتفاعلات مؤسستي الأمن والعسكر، هاتين المؤسستين اللّتين أدّتا دورا مركزيّا ومحوريّا في توفير أفضل الظروف الأمنيّة لإجراء الانتخابات في أحلى الصور ودونما أيّ مظهر من مظاهر الفوضى أو التوتّر وفي حياديّة حيال كلّ الأطراف السياسيّة، وهو ما أشّر لدى بعض المتابعين بوجود ما يُشبه الترتيبات المسبقة بينها والأطراف الفاعلة ومنها خاصة الوزير الأوّل الحالي وحركة «النهضة» من أجل انتقال سلس أساسهُ النظر إلى المستقبل وحجبه عن الماضي بما فيه. في هذا المربّع أي مربّع السيّد الباجي قائد السبسي والمؤسستين الأمنية والعسكريّة والحزب الأغلبي ستُجرى آخر فصول «اللعبة السياسيّة» الجديدة والتي ستبحث أكثر ما ستبحث عن مزيد تعميق الوفاقات والترتيبات اللازمة في ظلّ احترام مكانة الدولة وهيبتها واستقرار مؤسساتها المركزيّة والحسّاسة والإقرار بنزاهة الانتخابات الأخيرة والتعويل على فهم صائب للقدرة على التحوّل في الاتجاه الإيجابي بعيدا عن كل المنغّصات أو مظاهر الشوشرة والخلاف العميق.