اغتيل شكري بلعيد.. هو الذي طالما حذّر من اغتيالات وشيكة تستهدف أشخاصًا وتستهدف من ورائهم تونس الحداثة وتونس الديمقراطيّة وتونس العقل وتونس الحوار مع العالم وتونس الانفتاح على المستقبل! اغتيل شكري بلعيد.. واغتيل باغتياله رمز من رموز النضال الطلاّبي والسياسيّ وافتُتح مُسلسل اغتيال القيادات السياسيّة على طريقة قنّاصي المافيا بعد أن تمّ في تطاوين تدشين مرحلة السحل في فضاءات المجتمع المدنيّ!
اغتيل شكري بلعيد.. ولم يستهدف اغتيالُهُ شخصًا أو رمزًا سياسيًّا أو ممثّل عائلة فكريّة فحسب بل حاول استهداف نموذج لقواعد العيش معًا ورؤية معيّنة لنمط المجتمع الذي طالب به الثوّار وصورةً معيّنة لتونس التي بها نحلم.
اغتيل شكري بلعيد وحصل المحذور ودخلت تونس مرحلة كارثيّة لا مناص منها حين يتسلّم مقاليد الأمور قادةٌ أقرب إلى الحالات الباثولوجيّة منهم إلى السياسة! هكذا وفي لمحة بصر حدث ما توقّعناه ونبّهنا إليه وحذّرنا منه! وليتنا أخطأنا التوقّع! ليتنا أسأنا قراءة الوقائع! ليتنا لم نعش هذه اللحظة نحن أبناء هذا الوطن الجميل الرحب، الحالمين به أجمل وأرحب، الخائفين عليه ممّن لا يريد له أن يخرج من كهف الماضي وقماط التاريخ!
كلّ ذلك تحت أنظار الكبار وبمباركة الحكماء وبدعم من الشيوخ وبتغاضٍ من الرقيب وبتواطُؤٍ مريب من الحسيب وبتمويل من الحبيب والقريب! علينا أن ندافع عن نموذج التعايُش الذي افتداه شكري بلعيد ومن سبقه من الشهداء بأرواحهم. علينا ان ندافع عن هذا النمط الاجتماعيّ المتفتّح المعتدل التعدّديّ المتسامح وعن صورة تونس التي اختصرتها شعارات الثورة كي لا تذهب دماء الشهداء الذين التحق بهم شكري بلعيد هدرًا.
إنّ اغتيال أيٍّ كان، فما بالك حين يكون في قيمة شكري بلعيد وتاريخه، صدمة من الصعب تمثُّلُها على أسرته وأهله ورفاقه وأصدقائه وزملائه بل من الصعب تمثُّلُها حتى على الشرفاء من خصومه السياسيّين الذين عرفوه عن كثب واحترموه حين خبِروه شخصًا وفكرًا وسياسةً.
إلاّ أنّ علينا جميعًا أن ننتبه إلى خطورة اللحظة وأن نطوي قلوبنا على الألم والفجيعة ولو إلى حين، وأن نتجنّب قدر المستطاع الوقوع في فخّ ردّ الفعل المتسرّع المبنيّ على عاطفة مفهومة لكنّها قد تقع بنا في الفخّ الذي يريد استدراجنا إليه كلّ من خطّط لهذه الجريمة البشعة وكلّ من دبّر لها بليل.
وأيًّا كان مآل التحقيقات والتحريّات الضروريّة التي لابدّ منها، فإنّ على رئيس الجمهوريّة وعلى رئيس الحكومة وعلى رئيس المجلس التأسيسيّ وعلى كلّ الفاعلين السياسيّين أن يفهموا فورًا أنّ المجال لم يعد يتحمّل بهلوانيّات السياسيّين الهواة ولم يعد يتحمّل تجارب التلاميذ السحرة.
عليهم أن يستوعبوا فورًا تبعات تهوين بعضهم من شأن العنف المستشري! وتبعات التصريحات المتواطئة التي تعتبر الميليشيات ضميرًا للثورة! عليهم أن يستوعبوا فورًا تبعات البيانات التي اعتبرت سحل لطفي نقض عملاً ثوريًّا يستحقّ التكريم وما سبقها من مُطالبةٍ بدسترة مفهوم الجهاد واستبعاد مفهوم التسامح من الدستور لأنّه مفهوم غربيّ!!
عليهم أن يستوعبوا فورًا تبعات سياسة الإقصاء ومُطاردة الساحرات التي شحنت الخطاب السياسيّ السائد وجعلت من المجلس التأسيسيّ مطيّةً لها عوضًا عن تجنيده لكتابة الدستور والتوافق على تحقيق أهداف الثورة.
عليهم أن يقوموا بعمليّة فرز سريعة لقياداتهم السياسيّة كي يصطفّوا مع السياسيّين الحقيقيّين لا مع الحالات الباثولوجيّة التي تريد قيادة البلاد إلى التهلكة! وعليهم أن يفهموا أن هذه الجريمة ليست سوى الحصاد الطبيعيّ لما سعى البعض إلى بذره في النفوس من بذور الإقصاء على امتداد الأشهر الماضية.. ثمّ عليهم تجسيد هذا الفهم فورًا في حكومة إنقاذ وطنيّ تعيد بناء الثقة، ويكون من أوّل شروطها: إشراك الجميع، والتحييد الحقيقيّ لوزارات السيادة، والحلّ الفوريّ للميليشيا.