باغتيال «شكري بلعيد» عاشت تونس فصلا مروّعا من فصول القتل لم تألفه الطبقة السياسيّة رغم الصراعات والمحن التي مرّت بها البلاد. في الحقيقة،إذا أردنا أن نفتح صفحات تاريخ العرب والمسلمين بموضوعيّة سنكتشف أنّه مضرّج بالدماء.. فالقتل هو الشعار السياسي الذي يرفعه العربي في وجه كلّ من يخالفه الرأي.. ولم ينج منه إلّا الرسول لأنّه كان محصنا بعناية إلهية.. ولو وجد أعمامه وأبناء عشيرته إليه سبيلا لقتلوه، ولسفكوا دمه بين القبائل.. قد يكون القاتل في جريمة اغتيال «شكري بلعيد» مِنَ المغرّر بهم الذين وقع إيهامهم بأنّ قتل هذا المناضل اليساريّ سبيل إلى الجنّة أو من الذين اتخذوا القتل «مهنة» يقبضون منها أموالا وعندها تتساوى الأسماء بعد أن تتحوّل إلى أرقام. . لكن الذي لا يعلمه هذا القاتل هو أنّه قد فقد نصيرا لأنّ الشهيد كان يمكن أن يتطوّع للدفاع عنه مجانا لو منحه فرصة أن يستعيد أنفاسه..
إنّ فاجعة موت «شكري بلعيد»يجب أن توقف مسلسل التحريض على القتل، وعلى الفتنة المنبعث من بعض المساجد والمنابر السياسيّة المعلومة والمجهولة. وعلى أجهزة الدولة أن تتعامل بما مكنّها منه القانون مع كلّ من تسوّل له نفسه أن يحرّض على استهداف الأشخاص أو الأحزاب. فتونس ساحة مفتوحة تسع الجميع ومن حقّ أيّ فرد أن يساهم في بنائها على أساس الكفاءة والمساواة.. . . وإن القضاء على العنف اللفظي والماديّ، يفترض القضاء على ممهّداته، وعلى التربة التي تخصّبه. فماذا يعني أن يُنْعَتَ شخص بأنّه كافر؟ مَنْ له الحق في أن يكفّر الناس، وينتصب في مكان الخالق الذي يعرف سرائر الناس جميعا؟
تحتاج تونس اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى الحكمة، وإلى تعزيز التوافق بين الأطياف السياسيّة من أجل قطع دابر العنف مهما كان مصدره. . إذ من حق كلّ مواطن أن يعيش آمنا على تراب تونس مهما كان معتقده. وليس أشدّ عنفا في الخطاب والممارسة،من احتكار الثورة وتقدّم طرف وحيد للعب دور القيّم على الثورة رغم أنّ الجميع ساهم في التخلّص من نظام «بن علي» إنّ حماية الثورة مسؤولية الدولة بأجهزتها. أما الجمعيات فتعزّز المسار الثوري وتقترح ما يمكن أن يعزّز مناخ الثقة ويثبت التعايش السلمي بين الجميع. ومَنْ ينظر إلى تونس الغد بتفاؤل يجب أن يسند قيام حكومة وفاقية تبعد شبح الصراع والخوف عن البلاد وتبني الثقة في المستقبل وتعززه..
قد يكون الجاني الآن في مكان ما داخل البلاد أو خارجه ينظر إلى جريمته وتداعياتها.. قد يكون بدأ يشعر بحجم الكارثة وبعذاب الضمير. . وقد يكون بصدد تلقّي التهاني والتشجيع من مجموعات أعماها الحقد. . لكنّه بعمله الإجرامي هذا زاد المترددين شجاعة وقوّى عزيمة المناضلين في سبيل تونس التعدّد والاختلاف والتعايش السلمي بين كلّ الأطياف.. الجريمة مدوية وصادمة لكنها بعثت الأمل في صفوف كل من يؤمن بتونس وبقدرتها على غسل أحزانها.. ومَنْ رأى زوجة الفقيد وهي متماسكة تواجه عاصفة فقدان زوجها بثبات المناضلين الصامدين، يزداد إيمانا بأنّ تونس لن تسقط في أيدي القتلة المجرمين، ولن تخضع لمن يريد استئصال اعتدالها ووسطيتها. .
فهل أدرك القاتل وهو يُجْهِزُ على سياسيّ لا سلاح له إلا الكلمة والفكر، أنّه فتح طريقا جديدا في الوعي السياسي شعاره «لا خوف بعد اليوم»؟؟ ألم يتزعزع حكم «بن علي» ويتهاوى يوم آمنت فئة قليلة بهذا الشعار فرفعته في وجه آلة القمع فانكفأت؟
مات «شكري بلعيد» المناضل السياسي.. لكن تونس حيّة لن تموت. ومن دمائه المتناثرة ستستلّ البلاد بذور انبعاثها من جديد قويّة متماسكة متراصّة الصفوف تغنّي للحياة وتنتصر للحكمة.