عندما تقترب من مدينة قفصة مقر الولاية، يستقبلك مدخل من أروع مداخل المدن في الجمهورية التونسية، وهو طريق طويل يمتد على مدى عشرين كيلومترا بين ظلال غابات كثيفة من أشجار الكالابتوس العالية، يشعر الزائر وهو يتنفس سكينتها وجمالها، براحة نفسية كبيرة تفرض عليه التخفيض من السرعة ليمتع عينيه أكثر بسحر هذا المشهد الفريد ويملأ صدره بهواء هذا المكان المميز. وما أن تكون على مشارف هضاب (الرقوبة) حتى تستقبلك قبل قفصة، مدينة فريدة في آثارها ومآثرها، صغيرة في حجمها، كبيرة برجالاتها وتاريخها، عظيمة بما أبدته من مساهمة فاعلة في حركة التحرير الوطني ومقاومة باسلة للاستعمار الفرنسي، إنها مدينة القصر. والقصر هو مدينة أول مدرسة لعلوم اللغة والقرآن في الجهة تشتمل على مبيت للطلاب ومأوى لعابري السبيل من الحجاج، وهي مدينة أشهر «حضرة» سلامية، وأقوى فريق رياضي بالمنطقة في الستينات، وهو أرض واقعة 4 ديسمبر 1952م التي استشهد فيها عدد كبير من المقاومين على أيدي الجيش الفرنسي إرهابا للمواطن وتنكيلا بأبطال المقاومة. وقد أنجبت هذه المدينة الصغيرة لتونس رجالا عظماء منهم الشاعر الشعبي الذئع الصيت علي بن عبد اللّه، والمناضل النقابي الوطني أحمد التليلي والفنان المرحوم إبراهيم الضحاك. ولا أشك في أن هناك الكثير مما يستحق الاضافة من أهل الذكر حتى تكتمل الصورة صورة القصر. لقاء ولأن هذه المدينة الصغيرة لا تفتقر لحسّ الجرأة والمبادرة والعطاء، فقد نظمت بلدية القصر، يوم السبت عشرين مارس 2004م لقاء غير مسبوق، جمع أبناء الجهة المقيمين خارج القصر من مبدعين وإطارات سامية، من أجل تجديد التواصل وتمتين العلاقة بينهم من جهة وبين أبناء القصر صغارا وكبارا، من جهة أخرى. وهي بادرة طيبة خطط لها وأعدها السيد فيصل حامدي بطلب من بلدية القصر برئاسة السيد الطاهر سعد الذي عرف بجهوده المتواصلة ونشاطه الدؤوب في خدمة المدينة. وفيصل حامدي موظف بسكك الحديد، ولكنه معروف بنشاطه ومواهبه المتعددة فهو ممثل سابق في فرقة قفصة ومتحصل على جائزة الفكاهيين العرب ومؤسس مهرجان الفوارة ومهرجان الأرياف بقفصة ومنشط وموظف عام في العديد من المهرجانات، كما ساهم في عدد من الأشرطة السينمائية والوثائقية.. وقد التأم اللقاء على الساعة العاشرة صباحا بمقر بلدية القصر، فرحب السيد فيصل حامدي بالحاضرين موضحا الغرض من هذه المناسبة، ثم ألقى السيد الطاهر سعد رئيس بلدية القصر كلمة رحب فيها أيضا بالحاضرين من أبناء القصر الاطارات الثقافية والعلمية والادارية في يوم يتزامن مع احتفال البلاد بعيد الاستقلال. وبيّن في كلمته هذه أن مجلس بلدية القصر أقرّ هذه البادرة لجمع شمل أبناء المنطقة في يوم واحد وساعة واحدة من أجل ربط الصلة بين الاخوة في الوطن الصغير مسقط الرأس ومهد الطفولة والشباب، وتبادل الآراء والتفكير في منهجية عمل لهذا اللقاء الذي سيكون مفتوحا لكل الآراء حول التنمية البلدية والاقتصادية والثقافية والمعرفية في جميع المجالات الحيوية، وتدارس الأفكار الخلاقة من أجل وضع برنامج مستقبلي للعمل التنموي وبناء مدينة الغد التي يطيب العيش فيها. ثم تناول السيد معتمد القصر السيد فتحي الرويسي الكلمة فأكد فيها على ضرورة مثل هذه اللقاءات وجدوى العمل الجماعي، معبرا عن سعادته بالعمل مع أبناء القصر الذي يعتبره بمثابة مسقط رأسه، داعيا الى المزيد من البذل والعطاء كل في مجاله ومن موقعه. ثم ألقى الشاعر عز الدين الشابي قصيدة أوحتها له المناسبة، جاء فيها: ثم تدخل بعض الحاضرين بكلمات مرتجلة، بدأها كاتب هذه الإلمامة وبعده الأستاذ مصطفى فرحات ثم الشاعر علي شلفوح والشاعر خالد التومي. معرض ثم انتقل الجميع الى دار المنظمات حيث اطلعوا على معرض وثائقي أعده السيد فيصل حامدي للمرة الأولى وقد جمع فيه نماذج من الصناعات التقليدية الخاصة بالمدينة والمخطوطات النادرة والوثائق المتعلقة بالقصر وأهله والصور التاريخية لمعالمه ورجاله وشهدائه كما اشتمل على عرض لإنتاج بعض مبدعيه الأدبي. وانتهى اللقاء بمأدبة غداء أقامتها البلدية على شرف الحاضرين وزّعت خلالها على الحاضرين استمارة للتعبير عن الرأي وإبداء مقترحات حول آفاق التنمية والعمل البلدي بالقصر. ولا يسعنا في الختام إلا أن نتوجه بجزيل الشكر الى السادة رئيس البلدية السيد الطاهر سعد وأعضاء المجلس البلدي بالقصر الذي أقرّ هذا اللقاء ودعمه. فقد كان هذا اللقاء بادرة مميزة نتمنى أن يكون لها امتداد ناجع في المستقبل، لتكون إرهاصا لتكوين جمعية اجتماعية ثقافية تربط الصلة بين أبناء القصر على اختلاف مشاربهم ومآربهم ونزعاتهم، وتمدّ بينهم جسور التعاون المثمر حيثما كانوا داخل الجمهورية أو خارجها. وإذا قيّض لهذه البادرة أن تمتدّ وتتواصل وتشعّ، سوف يحقّ لنا أن نصف هذا اللقاء الأول باللقاء التاريخي على مستوى القصر، وسوف يحق لكل من حضر هذا اللقاء أو من عززه ودعمه مستقبلا أن يعتزّ ويفخر بما أسهم به في سبيل المزيد من النهوض والاشعاع لهذه المدينة النموذجية. وسوف يوصف أيضا باللقاء التاريخي اذا استفادت بقية المدن والجهات من تجربته وثمارها. مقترح وإنني أغتنم هذه الفرصة لأؤكد على مقترح تقدمت به لبعض المسؤولين يتمثل في بعث خلية توثيق تهم أبناء القصر المبدعين في مختلف المجالات، يساهم في تكوينها كل مبدع بمد الخلية بنسخ من كل ما لديه من وثائق متعلقة به وبمجاله الأدبي أو الفكري أو الفني أو غيره لتوضع في متناول أي باحث تونسي أو عربي أو أجنبي تسهيلا لمهمته. وسوف يكون لمثل هذه الخلية دور فعال في تموين وإثراء موقع الواب الذي تعتزم بلدية القصر بعثه على الانترنيت خلال أيام. وهو عمل قد يبدو على غاية من الصعوبة لتقوم به أي منظمة مهما كانت طاقتها، إلا أنه سوف يكون على قدر كبير من السهولة إذا تضافرت الجهود وتمّ جمع الوثائق بالشكل المقترح بطريقة متواصلة.