قرأت "صدفة" ما كُتِب عنّي في جريدة الخبير التونسيّة، والذي كان ثمرة مقابلة طيّبة مع بنت لبقة هي نائلة النوري وشاب حيّي هو سليم المستيري ليلة الجمعة مساء الخميس السادس من جانفي 2012، فوجدت ما كتب "نحيفا" غير عاكس لما تعرّض له أفرادُ المجموعة الأمنيّة السبّاقة إلى فكرة التغيير، المتشبّعة بالوطنيّة الصحيحة، الناكرة ذاتها، الصابرة على ما نالها، المنتظرة النّظر بإحسان فيما نالها، المؤمّلة تناول ملفّها عاجلا في إطار العفو التشريعي العام بغية إظهار حقّها وجبر بعض الضرر الذي نالها... فالمجموعة الأمنيّة أو كما يحلو لابنتي نائلة المدافعة عنها وغيرها من المخلصين تسميتها "مجموعة الإنقاذ الوطني" أو كما يحلو لمن "أحسن" لتونس حتّى فرّ منها تحت ضغط حسناته تسميتها "عصابة المفسدين"، إذا ذكرت ذكر بذكرها أو هي تذكر بذكره الأخ الرّائد محمد المنصوري الذي عُذِّب في دهاليز الدّاخليّة حتّى الموت!... والمجموعة الأمنيّة إذا ذكرت عُلِم عنها أنّها قد جمعت بين كلّ الاختصاصات تقريبا وبين مختلف المستويات وبين أغلب التوجّهات؛ فما كانت إسلاميّة صرفة ولا كانت ذات نفس يساري ولا كانت ذات توجّه عمّالي ولكنّها كانت تونسيّة في تكوينها تونسية في فكرها تونسيّة في حبّها الخير للبلاد وللنّاس وفي توْقِها الشديد إلى الحرّية والكرامة... رأت ما رآه النّاس اليوم متأخّرين: رأت الظلم والقهر والمحسوبيّة والميل في المحبّة والجشع فيها، فعزمت على تقييم المائل وإصلاح الفاسد واجتثاث المفسد وجلب الخير للنّاس. غير أنّ ظروفا حدثت وعواملَ تداخلت وعناصرَ في البلاد استجدّت جعلت المجموعة تؤثر الأخذ بما حصل واعتماده، وقرّرت – وهي يومئذ تملك قرارها وإن دلّس عليها المدلّسون - إبطال عمل سبق بمثله مَن نطق بما أغراها وأغرى التونسيين جميعا... ثمّ تبيّن ومنذ اللحظة الأولى أنّ صاحب التغيير إنّما جاء لدرء ما ظنّ أنّه كان يتهدّده من نجاح عمل سمع بآذانه الطويلة يومها عن هوامش منه... وسرعان ما بدأت الآلة - وقد وقع تثبيتها وتأمينها – في التهام رؤوس المجموعة تجمّعهم في ثكناتهم ترسلهم إلى مصلحة الأمن العسكري التي تعاملت بخيانة وعاملت بدونية تمرّرهم إلى ثكنة العوينة تلتهمهم زنزانات الدّاخليّة المظلمة ظلمة قلوب المرابطين فيها من كلاب ما يعرف بأمن الدولة!... معلوم أنّ بعض المنافسات أو التحرّشات كانت ولا تزال قائمة بين وزارتي الدفاع والدّاخليّة أو تحديدا بين الأعوان المنتسبين إليهما... فتاريخيّا كانت كلّ الملفّات التي تفشل فيها الدّاخليّة تنجح في حلّها وزارة الدّفاع الوطني رغم بعض الهنات التي رافقت التنفيذ عند التنزيل كما حدث في أحداث 78 أو أحداث الخبز نهاية 83 بداية 84 أو في اعتصامات الحوض المنجمي سنة 2008، ولكنّ النّاس يفضّلون – إن هم استُدْعوا إلى المفاضلة – الجيش لما يتمتّع به مقارنة بغيره من "الأمن" من وطنيّة ولين واضحين!... وإذن فقد كان وجود مجموعة من العسكريين فيهم عدد غير يسير من الضبّاط وجبة دسمة لأعوان الأمن الساقطين!... فلم يكن البحث في قضيّة الحال بحثا عن الحقيقة أو تأمينا لدولة خافت أولادها المخلصين ولكنّه كان إشباعا لساديّة مركوزة في الباحثين الذين قد يعجز المصنّفون عن عدّهم من التونسيين... ولذلك فقد كان العمل على إذلال الضبّاط وكسر شوكتهم سمة بارزة في البحث يزيد من إبرازها والإصرار عليها أنفتُنا وتمسّكُنا بالدّفاع عن عملنا الذي كنّا نعتبره خدمة للوطن لا يقوى على أدائها إلّا الأحرار الوطنيون الحقيقيون ممّن لم ينتسبوا بعد إلى "المجتمع المدني" المعرقِل اليوم لجهود الثورة... حتّى إذا سقط الأخ الرّائد محمّد المنصوري قتيلا وارتفع شهيدا بإذن الله إلى ربّه؛ تغيّرت المعاملة فخُفِّضت من درجة ما قد يقتل إلى درجة ما قد يعيق، فكان منّا الكثير من المعوّقين الذين خلّف لهم التعذيب سقوطا بدنيّا مستمرّا لعلّ من أبرزهم جميعا على الإطلاق الأخ الفاضل علي الحيدري عافاه الله؛ وغيره كذلك كثير... ارتكزت الأبحاث إذن على كسر الشوكة وعلى تثبيت الانتماء. واستعمِل في ذلك كلّ ما لا يخطر على بال القارئ الكريم من الوسائل التي قد قتلت أو هي قد عوّقت... ثمّ كان السجن بسجن 9 أفريل سيّئ الذكر الذي طمس الظالم معالمه، ليخرج بعد ذلك أفراد المجموعة على دفعات كانت أولاها يوم 7 نوفمبر 1988، وثانيتها يوم 20 مارس 1989 وأمّا الثالثة والأخيرة فكانت يوم 4 ماي 1989... غير أنّ هذا الخروج لم يفكّ الأغلال ولكنّه أحكمها... فتمثيليّة باهتة سيّئة الإخراج أخرجت أفراد المجموعة من الخدمة بلا حقوق وذلك لأسباب – قالوا وقد كذبوا - تأديبيّة: فمن أراد أن يكون وطنيّا أُدِّب ومن أراد أن يكون صالحا "أفسِد" أو هو اتّهم بالفساد ومن كان ذا مروءة كرّهوا إليه المروءة ومن كان رجلا أوذي... وببطاقة تعريف وطنيّة جديدة تحمل صفة "عامل يومي" انتشر "المفسدون" أعضاء عصابة المفسدين من الضبّاط وضبّاط الصفّ وغير أتباع الصفّ في الأرض يملؤونها غرابة لا تلمّ بها الكتابة... وكان على الأعين "الوطنيّة" الساهرة مراقبتهم حيثما حلّوا وكلّما ارتحلوا... ينبّهون النّاس إلى وجودهم، يحذّرونهم من سحرهم وفسادهم، ينذرونهم مغبّة التعامل معهم... خارجون منبوذون... عدائيون مُعْدُون؛ لا يجب الاقتراب منهم أو السماع منهم أو الاستماع إليهم، ولا يمكن الجلوس أو التعامل أو التبادل التجاري معهم!!!... ثمّ كان أن فرّ منهم من فرّ وقُبِر منهم مَن قبر بعد أن اغتاله "الوطنيون" (التيجاني الدريدي رحمه الله مثالا) وحوكم منهم بتهم حقّ عامّ ساقطة مسقطة مَن حوكم!!!... واليوم تعيش تونس الثورة، والكلّ قد أخذ البطولة من طرف!... "شهداء"، جرحى، مناضلون، "حقوقيون"، صحافيّون، مثقّفون، "مجتمع مدني" وغيرهم كثير... مجموعة فقط، كانت قد همّت ذات يوم منذ أكثر من ثلاث وعشرين سنة بإنقاذ الوطن، لم يكترث بها ولا لها الكثير من التونسيين حتّى كادت تظنّ "صدق" ما ألصق بها من صفة الفساد!.. فقد كانت تحسب أنّ ترتيب الأولويات سيجعلها في رأس تلكم الأولويات: فهي قد سبقت وهي قد ضحّت وهي قد صبرت... ومنها الشهيد ومنها الشريد ومنها الطريد ومنها الفاقد الأهل دون شهود الجنائز ومنها المعدم الذي لا يجد قوت يومه وقد كان بالأمس يؤمّن للنّاس أمنهم وقوتهم!... فهلاّ نظر التونسيون نظرة إنصاف وأشاروا على الحكومة الحالية – وقد أرّقها كثرة الملفّات – المبادرة بحلّ ملفّها!!!... لعلّ التونسيون يُكذِّبون من جعلنا "عصابة مفسدين" فينادون بصوت واحد: بل هم الوطنيون... بل هم الصادقون... بل هم الأكفاء الزّاهدون في صراعات المتصارعين!... فنقبل من جديد على حياة كريمة كتلك التي تمنيناها للتونسيين الذين برز من بينهم من سامونا السوء حتّى كادوا أو هم قد كرّهوا لنا الحياة!... عبدالحميد العدّاسي، أحد عناصرها الدنمارك في 17 نفي / يناير 2012