القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    هيئة تنظيم الزيارة السنوية لمعبد الغريبة: الطقوس الدينية ستكون داخل المعبد فقط    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح معرض الكتاب    النظر في الإجراءات العاجلة والفورية لتأمين جسر بنزرت محور جلسة بوزارة النقل    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    عاجل/ مفتّش عنه يختطف طفلة من أمام روضة بهذه الجهة    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    عاجل: زلزال يضرب تركيا    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو قراءة مقاصدية أصولية :بقلم - د .محمد كمال إمام
نشر في الفجر نيوز يوم 15 - 01 - 2008


بقلم - د .محمد كمال إمام
المتأمل بعمق في سيرة "الفهم المقاصدي" يلتقي بقراءتين:
أولاً: القراءة الغائية.
ثانيًا: القراءة العملية.
1 - الاتجاه الإصلاحي:
2 - اتجاه الإسلام السياسي:
3 - اتجاه تاريخية النص:
أولاً: القراءة الغائية
القراءة الأولى وهي قراءة غائية تتحرك مع روح النص، وتستخدمه وعاء أوسع من بنيته اللغوية، يضيء مساحات أكبر ويحلق في فضاء أرحب، مستهدفة "حضور" الشريعة أمرًا ونهيًا في كل جوانب الحياة، حيث لا تخلو نازلة من حكم، ولا يتسرب واقع مهما كانت جزئياته لا متناهية عن "كلي" يستغرقه، وهذا موقف الأصوليين جميعًا عدا "الباقلاني".
والقراءة الغائية تجعل من المقاصد أصلاً له ما للشريعة من قطعية وديمومة، وترفعها إلى درجة القانون الكلي العام بمنطوقه ومفهومه، وهذا القانون بصورته هذه لا نزاع فيه ولا يصلح أن يكون محلاًّ للنزاع، وقد مثل قاسمًا مشتركًا - ظهورًا وكمونًا- في جميع أزمنة التشريع الإسلامي، وهو همزة الوصل مع كل مذاهب الفقه ومدارسه وتياراته، من خلال مرجعية واحدة تقوم على مصدرين أساسيين هما الكتاب والسنة، والاستمداد منهما، كما يقول بحق محمد عبد الله دراز: "ليس محدودًا بالمنطوق، بل كثيرًا ما يجاوز فيها العبارة إلى الإشارة، والخصوص إلى العموم، والوسائل إلى المقاصد".
ذلك أن الله تعالى ندبنا إلى التدبر في معاني كتابه، وأمرنا أن نعتبر بما فيه من مواضع العبرة، ثم أجرى سنته التشريعية على وجه يمهد لنا الطريق فيها إلى ذلك الاعتبار؛ إذ وضع بجانب أكثر الأحكام عللها وغاياتها؛ لنتخذ منها أصولاً ومقاييس نرد إليها أشباهها ونظائرها، يستوي في ذلك أمره ونهيه وإذنه وتقريره للحقوق والواجبات، فنحن إذا سمعناه يقول: افعلوا كذا {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، عرفنا أن من مقاصد الشرع اتقاء المهالك في هذا الشأن وغيره، وإذا سمعناه يقول لا تفعلوا كذا {إن الله لا يحب المفسدين}، فهمنا أنه ينهى عن كل ما فيه إفساد، وإذا قال {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} عرفنا مشروعية الدفاع عن النفس بكل وسيلة، وإذا قال {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} علمنا أنه لا ولاية لأحد على أحد إلا بسبب وهمي أو كسبي، والقرآن جلّه على هذا النمط.
على أن نزول الأحكام الشرعية مرتبطة بأسبابها من الوقائع والنوازل: كان من شأنه أن يرشد إلى الاتجاه الذي يسير فيه التشريع، وأنه يبني الحكم في كل مسألة على وفق مصلحة معينة يرمي إلى تحقيقها من وراء ذلك الحكم، ولكن حكمة الشارع ورحمته لم تكتفِ بهذا الاقتران الفعلي بين الأحكام ومقاصدها، حتى قرنتها في البيان القولي على النحو الذي رأيت.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد أو ذاك، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يرسم لأصحابه طريق النظر في مقاصد التشريع، ويدربهم بأسلوب عملي حكيم على استنباط الأحكام منها، ومن هنا اتسع صدر التشريع الإسلامي ولا يزال يتسع لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة، ولولا ما اشتمل عليه الشرع الحنيف من تلك الكليات المتناولة لما لا ينحصر من الجزئيات، ومن تلك العلل التي أديرت عليها الأحكام لما كان تشريعًا أبديًّا خالدًا، وكان الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله في كل شيء حصل التنازع فيه أمرًا غير ممكن؛ لأن الجزئيات التي فيه محصورة، والجزئيات التي تلدها العصور لا انحصار لها، وأخيرًا لما صح قوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء}، وقوله {اليوم أكملت لكم دينكم}؛ إذ أين يكون الكمال والبيان الشامل لو كانت النوازل المتجددة في كل عصر بقيت دون تشريع إلهي(1).
لقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم "معنى" النص وانفتحوا عليه في العبادات، وارتبطت فهومهم بفتاوى وأقضية، وبأنظمة ورسوم، وظهر فيهم الاجتهاد بالرأي، وعرف أهله من الصحابة كعمر بن الخطاب، وعليّ، وعبد الله بن مسعود، وكان ذلك إرهاصًا -نظريًّا وعمليًّا- لنسق مقاصدي، الأدلة لحمته وسداه، رغم تعدد المناهج، وتنوع الاستنباط في ضوئها بين موسع ومضيق، وأقامت هذه القواعد -مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار، والأمور بمقاصدها، والعادة محكمة، واليقين لا يزول إلا بالشك، والمشقة تجلب التيسير- منظومة مقاصدية لها أصولها الحاكمة، ونماذجها التطبيقية في فقه الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وأصبحت من أوائل المباحث غير اللفظية في البناء الأصولي منذ كانت ظاهرة، وإلى أن أصبحت علمًا.
وهكذا تكامل "الفهم المقاصدي" ليضبط العلاقة بين العقل والنقل وبين النص والاجتهاد، في علاقة عضوية لا يستغني فيها عنصر عن عنصر، فهما معًا دعامتا نظام معرفي واحد، الوحي مرجعيته، ويأخذ أحكامه من مصادر الشريعة بتنزيل كاشف أو اجتهاد منشئ، والقراءة المتأنية لكتب النوازل والفتاوى والأقضية تفضي إلى نتيجة واحدة تقول إن "الفهم المقاصدي لم يغِب لحظة عن ميدان التطبيق العملي"، ورغم ظهوره حينًا وكمونه حينًا آخر في أغلب الكتابات الأصولية، وفي هذا السياق تبدو كم هي خاطئة عبارة "عابد الجابري" المرسلة من أن "الشاطبي" أحدث قطيعة أبستمولوجية حقيقية مع طريقة "الشافعي" وكل الأصوليين الذين جاءوا بعده، فقد أسس "الشاطبي" رؤيته المقاصدية على جهود من سبقوه من المالكية والشافعية، ومنهم "الجويني" و"الغزالي" و"ابن عبد السلام" و"المقري"، "وابن جزي"، وحسبه إضافة ذلك التعميم المقاصدي الذي يتجاوز الفقه وأصوله إلى علوم شتى، منها علوم النحو في كتابه "المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية"، والقارئ للكتاب يعجب من قدرة الشاطبي على بيان ما أسماه "مقاصد النحويين"(2) ، وأقوال الجابري وأمثاله تجد نقضًا حاسمًا لها في الدليل الإرشادي الذي أعددناه لأهم ما كتب حول المقاصد قديمًا وحديثًا.
والمقاصد في هذه القراءة تحكمها قاعدة حررها الدكتور أحمد الريسوني بقوله "لا تقصيد إلا بدليل". فنسبة مقصد ما إلى الشريعة هو كنسبة قول أو حكم إلى الله تعالى؛ لأن الشريعة شريعته والقصد قصده، والقول بأن مقصود الشريعة كذا وكذا، من غير إقامة الدليل على ذلك هو قول على الله بغير علم وبغير حق(3).
ثانيًا: القراءة العملية
القراءة الثانية: وهي قراءة عملية تجعل من المقاصد آلة لتأويل النصوص، وتطوير التشريع، وتجسير الفجوة بين ما سُمّي خطأ بالأصالة والمعاصرة، وفي هذه القراءة يمكن أن نرصد ثلاثة اتجاهات.
1 - الاتجاه الإصلاحي:
وبعيدًا عما يطرحه البعض من القول بتأثير الثورة الفرنسية في هذا الاتجاه إلا أن أعلامه ساروا في درب محفوف بالمخاطر، فهم من جانب ينتمون إلى مؤسسات الدولة القومية الحديثة، ولهم مكان في وظائفها السلطانية وتراتيبها الإدارية، وهم من جانب آخر ينتمون إلى ثقافة دينية لا تقبل كل الوافد، ولا تفرط في كل الموروث، فهي في الجانب الأول قراءة أسيرة مشروع دولة حديثة من نوع خاص تكرس الولاء للحاكم قبل الوطن، والاستسلام للفرد قبل الالتحام بالمجموع، وهي في الجانب الثاني تحاول قيادة مشروع نهضوي لتجديد الفكر ومراجعة مرتكزاته بعين تنظر إلى ماضيها وحاضرها بسخط، وإلى الآخر وثقافته بمزيد من الانبهار والرضا، صحيح أنه سخط على الماضي لا يصل إلى حد القطيعة، ورضا عن الآخر لا يصل إلى حد الذوبان، إلا أن "تحدي الآخر" كان كاسحًا فهدّد حصونًا داخلية كثيرة، وقد حاول البارزون من إصلاحيي النهضة من أمثال الطهطاوي والكواكبي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ومحمد عبده، الوصول إلى حل للخروج من "التخلف" إلى "التقدم"، ومن "الجمود" إلى "التجديد"، فاعتمدوا نظرة مقاصدية تبرر حالاً قبلوه يقوم على الانفتاح على الغرب بمقولاته الفكرية، وأسسه التنظيمية، بغية الاستفادة من خبرته وتقنياته ومؤسساته مع محاولة لإقناع المؤسسات التقليدية مثل الأزهر والزيتونة بالخروج من التبعية الصارمة للمذاهب إلى نظرة ناقدة يتطور بواسطتها مفهوم العلم، ومواد الدراسة، وخرائط التفكير.
ولأن لقاء "الآخر" لم يكن لقاء أكفاء فقد استبدلوا بالشريعة تنظيمات عقلية حاولوا تبريرها استنادًا إلى مقاصد الشريعة، ومن خلال تطبيق خاطئ لقاعدة فتح الذرائع وهو ما عبّر عنه الأصوليون بقولهم "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ويأتي في مقدمة هؤلاء "خير الدين التونسي" في كتابه "أقوم المسالك"، وهكذا نوقشت القضايا السياسية، خاصة شرعية الحكم والنظام السياسي، والقضايا الاجتماعية مثل حقوق المرأة والقضايا الاقتصادية التي تتعلق بالبنوك والأوقاف، بل حتى بعض مسائل العبادات، نوقشت من خلال رؤية عقلية بحتة تبحث لها عن مشروعية في تراث المعتزلة، وتبحث لها عن عقد اجتماعي في ظل ابتنائها على "نظرية في الضرورة" يعبر عنها "خير الدين التونسي" بقوله: "إن التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق"(4).
والرأي عندي أن هذا الاتجاه الإصلاحي أحسن في التشخيص وأخطأ في العلاج، فجاء منهجه بعيدًا عن تحقيق مقاصد الشريعة، وليس ذلك لقلة علم رواده بالشرع وحقائقه، بل إنهم من ذوي الدراية الواسعة بفقه المسلمين، وقراءة كتاب "أقوم المسالك" خير دليل على ذلك، إلا أن موقعهم من السلطة، وصدمتهم الحضارية وبلادهم تعاني من الضعف الفكري، ومن وطأة المحتل الغاصب، كل ذلك أوصد الباب أمام مشروعهم النهضوي فلم يحقق نتائج إيجابية، بل كان صداه سلبيًّا تجسد في تغريب الأفكار والأنظمة التعليمية والقانونية، ومؤسسات الحكم والقضاء، أي أوجد واقعًا فات تداركه بسرعة؛ لأن دولة ما بعد الاستقلال صُنعت على عينه، ومجاله الحيوي فكرًا وممارسة -كما قيل- مليء بالأبقار المقدسة التي يصعب ذبحها.
2 - اتجاه الإسلام السياسي:
ولا نقصد به جماعات العنف، فتلك أصولية لا تفسح للتنظير المقاصدي مكانًا، وتمتلك أسلحة مادية أكثر بكثير من امتلاكها أنظمة فكرية، أما اتجاه الإسلام السياسي، فتبدو أهميته من زاوية المقاصد في تجاوز المدرسة المغربية لحدود التجديد التي قدمها الأستاذ الإمام محمد عبده، وصياغة فلسفة للمقاومة كانت في جانب النظرية تأسيسًا وإحياء لمبحث المقاصد في علم الأصول، وفي الجانب العملي تنظيمًا لمرجعية تقاوم الاحتلال، مع خلاف في التفاصيل بين أعلامها وفي مقدمتهم الطاهر بن عاشور التونسي، وعلال الفاسي المغربي، وعبد الحميد بن باديس الجزائري، وقدمت هذه المدرسة الجديدة نمطًا للتحديث يقوم على شرعية مقاومة المحتل، ومشروعية العودة إلى الأمة لاختيار حكامها ومؤسساتها.
وميزة هذه المدرسة أنها لم "تعتقل" نظرية المقاصد في قاعات الدرس، كما فعلت مراكز التعليم الديني الرئيسية في مصر، وهي الأزهر الشريف، ومدرسة القضاء الشرعي، ومدرسة دار العلوم، وقد شهدت هذه المراكز تطورًا في مناهج الفكر، وانفتاحًا محدودًا على العلوم الحديثة خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بل دعوة إلى الاهتمام العلمي بالمقاصد، فأصبحت مبحثًا في علم الأصول عند الكثيرين وفي مقدمتهم الشيخ محمد الخضري، إلا أنها حركة ظلّت حبيسة قاعات التعليم، خاصة إذا قورنت بالجهود الإصلاحية لكل من علال الفاسي والطاهر بن عاشور، فقد كانت قدرة الرجلين على فهم النصوص، والتأثير في الواقع، والجمع بين الهوية الإسلامية والحرية الإنسانية، كانت هذه مصدر التميز وسر التمكين لمنهجهما في البحث المقاصدي وانتشاره على نطاق واسع، ومكّن الفقيه من القيام بدور سياسي، بل بتأسيس أحزاب سياسية وقيادتها.
وللأسف فإن جانبًا من الدرس المغاربي المعاصر قدم قراءات مغلوطة لهذا التيار، وخاصة للطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، دون الاحتكام الدقيق إلى تراثهما المنشور، أو مواقفهما المعلنة، ومن هؤلاء القارئين الباحث الموريتاني "السيد ولد أباه" الأستاذ بجامعة "نواكشوط" الذي يقول: "إن الميزة الكبرى التي طبعت أعمال ابن عاشور والفاسي، هي النموذج المقاصدي -خطاب مقاصد الشريعة- الذي بعثاه بإعادة الاعتبار لنصوص الشاطبي (ت 798) والتي عبّرت في أوانها عن أزمة المنهج الأصولي المبني على القياس الصوري التجريدي الذي يكبح إمكانات التجديد، ويحكم على الخطاب الشرعي بالجمود والانغلاق، وإن كانت النصوص المذكورة بقيت هامشية، غير مستغلة، حتى وجّه العلمان المغربيان الاهتمام إليها، وكتب كلاهما كتابًا في نظرية المقاصد من وحي الإصلاحية المشرقية التي انتهت إلى الانفصام بين جانبها التحديثي وجانبها السلفي الديني".
وقد اعتبر العلمان المجددان أن نظرية المقاصد، توفر عدة ميزات بينها تحرير الفقه من رواسبه الماضوية المعيقة له، واعتبار التراث الشرعي أحكامًا ظنية غير ملزمة للمسلمين في وقتهم الحاضر، ومن ثَم فإن الأساس الأوحد ليقين أصول الفقه هو الكليات الضرورية، أي فقط الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعِرض.
وعلى الرغم من التزامهما بالضوابط والقيود الفقهية الكبرى، فإنه من البديهي أن المنهج المقاصدي الذي حرص "ابن عاشور" و"الفاسي" على تحيينه وتجذيره، يشكل مسلكًا تجديديًّا، يفسح المجال أمام الوعي بتاريخية النص التراثي والتمييز بينه وبين الثوابت العقدية المحدودة والمراعية لمصالح العباد وحق الأمة في الاجتهاد.
والرأي عندي أن هذه قراءة تأملية محضة، فيها إسقاط لأفكار لم يقلها قط ابن عاشور أو علال الفاسي، فالأول لم يُرِد للمقاصد أن تكون علمًا بديلاً لأصول الفقه، ولكنه إضافة إلى المجموعة الأصولية، وصرّح بذلك أكثر من مرة في كتبه، وفي مقدمتها "أَلَيْس الصبح بقريب"، و"مقاصد الشريعة الإسلامية"، وعرض لذلك أكثر من مرة في ثنايا تفسيره "التحرير والتنوير"، فابن عاشور يقول: "نشأت في هذا العلم -أي علم الأصول- أسباب توجب اختلالاً في تعاطيه، وهي... الرابع: الغفلة عن مقاصد الشريعة، فلم يدوّنوها، إنما أثبتوا شيئًا في مسالك العلة، مثل مبحث المناسبة والمصلحة المرسلة، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول".
فابن عاشور وعلال الفاسي -وهما من ذوي الخلفية السلفية- لا يفضي منهجهما -وليس في إنتاجهما المنشور - إلى هذه النتيجة الشاذة، بل لعل غياب التوسع في مبحث المقاصد لم يكن لغفلة -كما ظن ابن عاشور- من الأصوليين، وإنما نجد تفسيره فيما قاله "القرافي": إنهم بسبب خوفهم "من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، رأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس، ولم ينوطوها باجتهاد الأمراء والحكام".
وصدق حدس "القرافي"، فمن يظنون أنفسهم أمراء البيان يستبعدون -بغير علم- أحكام الإسلام القطعية بترجيح مقاصدي مزعوم.
وما يقوله "ولد أباه" عن هامشية وجود فكر "الشاطبي" وكتابه -وهو ما سبق أن أشار إليه العلامة عبد الله دراز في مقدمة تحقيقه للموافقات معللاً ذلك بالبناء اللغوي الصعب في أسلوب الشاطبي- محل نقد؛ لأن التوثيق التاريخي لكتاب الشاطبي وملخصاته وشروحه، يجعل المقولة بحاجة إلى مراجعة، بل إن كتاب "الموافقات": لم يكن في أفكاره بعيدًا جدًّا عمن سبقوه، بل يمكنك أن تقرأ فيه آثارًا "لمقدمة ابن خلدون" وأصداء لكتاب "ابن جزي" في علم الأصول.
أما كتاب "الموافقات" ذاته فلم يكن غائبًا أو مجهولاً كما قيل، بل إن الإقبال عليه استمر من عهد مؤلفه إلى اليوم، ومن ملامح ذلك كما يقول العلامة محمد المنوني: محافظة المهتمين -بالموافقات- على جملة من مخطوطاتها، حيث يعرف الآن منها خمسة، أقدمها نسخة خزانة القرويين رقم 631، وتشتمل على النصف الثاني من سفر بخط أندلس عام 816، وفي دار الكتب الوطنية بتونس نسختان: نسخة محمد بن يعقوب عام 1189ه، والنسخة التونسية الثانية رقم 3282 مبتورة الآخر وخطها مغربي، وتحمل الاسم الأول للموافقات بعنوان "التعريف بأسرار التكليف".
وهذه نسخة رابعة من "الموافقات" بخط مغربي، وقف عليها بمصر الشيخ عبد الله دراز، وهناك نسخة جيدة في بعض الخزائن بإقليم الرشيدية.
وقد تبع هذه المحافظة على نسخ "الموافقات" استمرار الاهتمام بها في أشكال منوعة يستند الرواة لها على مؤلفها في حياته، حيث يعرف منهم الآن ثلاثة.
أ‌ - أبو يحيى محمد بن عاصر، وكان قد انتسخها بنفسه، وقرأها على مؤلفه أربع مرات.
ب‌ - أخوه أبو بكر محمد بن عاصر ناظم "تحفة الحكام" سمّع على الشاطبي بعض "الموافقات" واختصرها في أرجوزة سمّاها "نيل المنى من الموافقات".
ت‌ - والراوي الثالث هو محمد المجاري الغرناطي، وقد سمّع بعضها على الشاطبي.
وإلى هؤلاء الرواة يضطلع "ابن غازي" في فاس بتدريس الكتاب المنوّه به، ويأخذه عنه تلميذه علي بن موسى بن هارون المطغري الفاسي.
أما الذين نقلوا من "الموافقات" فنشير إلى ستة نماذج:
محمد بن يوسف الغرناطي في سنن المهتدين مع فتوى له عند الونشريشي، وللونشريشي نقل عن الموافقات في أواخر كتابه "المعيار".
ولعالم فاس عبد القادر بن علي الفهري نُقول عن "الموافقات" في أجوبته الكبرى.
النموذج الرابع محمد بن الحسن المغربي قاضي مكناس "في نوازله".
الخامس: الهلالي أحمد بن عبد العزيز السجلماسي فيما له من الشرح على المختصر الخليلي.
السادس: أبو حفص الفاسي في شرحه على لامية الزقاق، يضاف لهؤلاء زمرة ممن قرءوا الموافقات، دون أن نقف على نقولهم منها، وبينهم ابن مرزوق الحفيد، حيث ينوّه به قائلاً "كتاب الموافقات من أنبل الكتب".
وفي تعبير أحمد بابا التمبكي في نيل الابتهاج "كتاب جليل القدر لا نظير له مما يدل على إمامته وبُعد شأوه في العلوم، ولا سيما علم الأصول".
هذا إلى أنه يوجد على مخطوطة "القرويين" سالفة الذكر ثلاثة أسماء للذين تداولوا الوقوف عليها، وهم الشيوخ: رضوان بن عبد الله الجنوي، ومحمد المسنارين وأحمد بن ناجي، كما أن نسخة دار الكتب الوطنية بتونس يشير المعرفون بها إلى طرر وتوقيعات مفيدة على هوامشها(5).
ونشير إلى عالم من فاس يناقش بعض اتجاهات الشاطبي في "الموافقات" وهو "أحمد بن مبارك السجلماسي" في مؤلفه "تحرير مسألة القبول على ما تقتضيه قواعد الأصول والمعقول"، فينتقد في رسالته نظرية للشاطبي يقرر فيها أن العموميات الشرعية كلها على عمومها ولم يلحقها تخصيص.
وفي الختام نشير إلى منظومة الفقيه الموريتاني "ماء العينين" والتي شرحها في كتاب "المرافق على الموافق"، وقد صدر أخيرًا في مجلد كبير.
ولعلنا بهذا التحقيق المطول نصحح خطأ تاريخيًّا حول مدى انتشار كتاب الموافقات وتأثيره.
3 - اتجاه تاريخية النص:
ودعاته من غير أهل الاختصاص في الشريعة، ندبوا أنفسهم -تحت مسميات كثيرة- من أجل تنحية النص عن التطبيق، وإعادة الدين إلى المسجد، والهدف إعادة الاعتبار للإنسان في مواجهة الخالق تعالى عما يقولون، وذروة هذا الاتجاه يعبر عنه "محمد أركون" في كتابه المترجم بعنوان "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، فهو يدعو إلى التجديد المقاصدي بهدف "تخفيف حدة النظرية الصارمة لأصول الفقه، وذلك باستبدال مفهوم جديد بها وهو مقاصد الشريعة".. لأن أصول الفقه -على حد تعبيره- ساهم في دعم الفكرة القائلة بأن الإنسان لا يحسم بنفسه أي شيء من الأشياء المتعلقة بوعي وسلوك الأفراد، وأن التاريخ الحاصل خارج الحدود المثبتة من قبل الله، يؤدي إلى انحطاط المجتمع الأولي الذي أسسه النبي(6).
وإلى مثل ذلك ينتهي "د. حسن حنفي" في كتابه "من الواقع إلى النص"، فهو يعتبر الأدلة النقلية كلها ظنية، لا تتحول إلى يقين إلا بالدليل العقلي، وهذه القراءة -كما يقول "حسن حنفي" نفسه- تعني الإبقاء على الروح مع تغيير البدن، والمحافظة على القصد مع تطور الوحي، وهكذا تتعدد القراءات لعلم الأصول عامة وللمقاصد خاصة، ولا توجد قراءة صحيحة وأخرى خاطئة، بل هي اجتهادات متعددة تنبع من طبيعة موقف القارئ ووضعه الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي، وما يقوله "حسن حنفي" يعني أنه يوجد قارئ ويختفي المقروء، يحيا الواقع ويموت النص، وهكذا يوجد عند هؤلاء "علم للمقاصد" يكون بديلاً لعلم أصول الفقه، ويحكم السلوك البشري بعيدًا عن صيغة الأحكام الفقهية، وهكذا يتم التحديث بعيدًا عن القرآن والحديث، أي استبدال العقل بالشريعة، والواقع بالنص، والإنسان بالله.
والرأي عندي أن المقاصد أعادت الاعتبار للعقل إلى الحد الذي تصبح فيه الشريعة الإسلامية قابلة للامتداد في الفهم وفي العمل، غير أن الشريعة -كما يقول بحق محمد عبد الله دراز- "حين أطلقت العقل من عقاله، وفتحت له باب البحث والنظر، هل نقول بذلك: إنها ألقت له الحبل على غاربه، وجعلت له القواعد العامة حاكمة أبدًا على جزيئاتها، والغايات المصلحة كفيلة دائمًا بتبرير واسطتها، وخوّلته حق إهدار النصوص والوقائع الجزئية في سبيل الأخذ بهذه الكليات والمقاصد؛ إذن لهان الأمر، فلا يبقى أمام الناظر -أو القارئ بتعبيرنا- في الشريعة ما يتعذر عليه إدخاله فيها من قريب أو بعيد، ولكن هيهات، فإن الأمر لو استقام على ذلك لوسع من أنواع الضلالة ما لا يقف عند حد...".
أم نقول إن الشريعة أباحت للناظر فيها أن يختار أي هذين المسلكين شاء في كل مطلب، فإن شاء أخذ بالخصوص أو العموم، وإن شاء وقف عند ظواهر النصوص أو غاص إلى بواطن المعاني واستخرج ما يشتهي من تأويل.
إذن لكان الأمر أهون وأهون؛ إذ يكون كل الناظرين في الشريعة مهتدين ومصيبين للسنة مهما تفرقت بهم السبل -وهو ما صرح به حسن حنفي فيما نقلناه عنه-، ولكن الشريعة تصبح بذلك مجموعة من الأضداد والمتناقضات فيكون الفعل الواحد حلالاً أو حرامًا إن شئت، والرأي الواحد حقًّا أو باطلاً إن أردت، وبذلك تذهب منها وحدة الحق الذي لا يختلف، وتزول عنها هيمنة الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ إذ كيف يرتفع الخلاف بما فيه اختلاف؟.
هكذا يقف الناظر في أمر الشريعة بين هذه المحظورات الثلاثة "لا يستطيع" أن يحبس نظره على خصوص النصوص وصور الوقائع العينية، وإلا لبقيت الشريعة ناقصة محتاجة إلى التكميل، أو وقف وقفة جامدة لا لين فيها، وقتية لا بقاء لها، "ولا يستطيع" أن يعتمد على المقاصد والكليات وحدها، وإلا لخرج بها اللين الذي لا عزيمة فيه، والسعة التي لا حدود لها، حتى تصبح وضعًا عقليًّا لا هديًا إلهيًّا.
و"لا يستطيع" أن يأخذ بأي من هذين النظرين شاء، وإلا لتناقضت الأنظار وكانت الفوضى والاضطراب في التشريع، وكيف يجرؤ مسلم على أن يهدر أحد جانبي الشريعة وهي كل ما يتجزأ؟ لم يبقَ أمام طالب الهدي الإسلامي إلا أن يلتمس جادة سيلتقي عندها هذان الجانبان.
ذلك أن الشريعة ما وضعت الخصوص إلى جانب العموم، والنصوص إلى جانب المقاصد، إلا ليحتكم المسلم إليهما، ويلتمس الهدي فيهما، ويستخرج الحق من بينهما في كل مسألة، فلا غنى له عند النظر في القواعد والمقاصد، عن الاسترشاد بنماذجها من الجزئيات القولية والفعلية، لكيلا يذهب التأويل إلى ساحة الهوى والضلال البعيد، ولا مناص له عند النظر في النصوص والوقائع الجزئية من الاستئناس بأسبابها وظروفها وغاياتها -إن كانت معللة- لينزلها منازلها ويضع كل حكم في الموضع الذي يناسبه، وليعتبر بها في أمثالها من المسائل المتجددة، وأن يمتنع عن تطبيقها حرفيًّا إذا اختلفت طبيعة الحوادث وتغير مناط الحكم فيها، وإلا لرجعت به المحافظة على ظواهر النصوص أحيانًا إلى حد الإخلال بمقاصد التشريع، وإيقاع الحرج في الدين وقد نفاه الله عنه.
نعم لا بد من الجمع بين هذين الطرفين على وجه تتحقق به تلك "المرونة" التشريعية التي هي خاصة الدين الإسلامي، وهي لا تعني ما اشتهر على ألسنة العامة -ومثقفي هذا الزمان- في معنى السهولة وقبول الامتداد مطلقًا، ولكنها تؤدي في اللغة معنى مركبًا من معنيين، هما اللين والصلابة معًا، وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه، وهو الذي ينطبق تمام الانطباق على الشريعة الإسلامية، فهي قابلة للامتداد في الفهم والعمل إلى الحد الذي لو جوّزه المرء وأوغل فيه بغير رفق اشتد عليه وغلبته وأفلت حبلها من يده وتركته بمكان قصيّ عنها، يقول صلوات الله وسلامه عليه: "إن هذا الدين يسر" ويقول: "إن هذا الدين متين"، فذلك الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط هو الصراط المستقيم، وهو السنة -المنهج- الذي كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما هي حدود ذلك الوسط الجامع بين متانة المحافظة على النصوص والخصوصيات من جانب وبين سهولة الانقياد للكليات والعلل من جانب آخر. وما هي النسبة على حسبها في كل مطلب يتركب ذلك المزيج الآخذ من كل العنصرين بطرف قاصد؟.
إن هاهنا موضع الصعوبة والدقة كلها؛ إذ ليس في العقول ولا في النقول ميزان منضبط متفق عليه في تحديد القدر الذي يُعَدّ في هذه المسألة أو تلك توسطًا واقتصادًا والقدر الذي يُعَدّ غلوًّا وميلاً لأحد الجانبين(7).
وفي هذه المنطقة الصعبة ينبغي بذل الجهد لمن يعمل على "إمامة النص" و"استقامة" المعني، وقد كشف الدليل الإرشادي حول التأليف المقاصدي ما كان غائبًا من جهود وفهوم، تنتمي إلى مرحلة نزول الوحي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى مرحلة تأسيس الفقه في عصر الصحابة، وتحفظ كتب التراجم مناظرات مقاصدية شتى في القرنين الأول والثاني من الهجرة، وجعلت التأسيس المقاصدي يبدأ ناضجًا في القرن الثالث الهجري، ويستوعب مساحات ما كنا نتوقع أن تكون محل ريادته واهتمامه، ولكن يستمد من نبع عصري النبوة والصحابة شمول الشريعة وعمومية تطبيقها في الواقع الاجتماعي، ليس بالنص والمعني وحدهما، وإنما من خلال نظام معرفي يجعل من "علوم المجتمع" وإنجازات الحضارة أداة "تنزيل الأحكام" وتفعيل مقاصدها، فإذا كان الحكم يحدد أمرًا ونهيًا من الشارع، فإن تفعيله لا يأتي من الخطاب بل من المخاطب.
فإناطة الأحكام بمقاصدها -بتعبير جاسر عودة- تعني العودة إلى الواقع وعلومه، والعقل وإسهاماته حتى تصبح "معنويات النص" في تجريدة المتعالي، حركة مادية لأن التفاصيل والجزئيات هي الوجود ذاته بما هو كائن وبما ينبغي أن يكون، أي أن "تفعيل النص" ومقاصده يأتي من خارج النص الإلهي، وهو عمل المكلف بغاياته ومقاصده، فهو بعبارة واحدة "مهمة إنسانية"، وعدم الفصل بين الإلهي والإنساني في النسق التشريعي قد يجهد النص لينطق بغير لغته، أو يرهق المكلف بما هو فوق طاقته، فالأمانة التي هي خطاب التكليف، لا تتجسد واقعًا إلا في حدود "الوسع" وفكرة "الوسع" تجعل "خطاب التكليف" متعدد التطبيقات ومتجدد التلقي وتجعل قواعد فقه التنزيل مغايرة لقواعد فقه الخطاب؛ لأن "التنزيل" يتقدمه الوعي بالتاريخ، و"الخطاب" هو بطبيعته يتجاوز الزمان والمكان، وهنا يمكن القول إن الواقع التنزيلي لا يتجرد من "الخطاب" ولا يمكنه أن يتفلت منه، أي لا يمكنه تعطيل النص، ولكنه يعلي من سلطة النص على الواقع بقدر ما يعلن تجلي النص في واقعة جزئية، وهنا تصبح مقاصد الشريعة في آن معًا، حيث تغني "الكليات" عن حفظ التفاصيل والجزئيات، ولكنها لا "تستغني عن التفاصيل والجزئيات في بناء عناصرها، وفي "تنزيل" أوامر النص ونواهيه حتى قيل عن هذه القواعد الفقهية إنها أصول الفقه على الحقيقة، وقد صاغ منها الإمام الجويني منهجًا علمنا منه اضطرارًا أن الشريعة تشمل كل واقعة ممكنة، اعتمادًا على رؤية مقاصدية تجعل في كل "أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحى، والأساس من المبني وتوضح أنها منشأ التفاريع، وإليها انصراف الجميع"(8).
وهو منهج طبقه الإمام "الجويني" في مراتب ثلاث -أصولية وكلامية وفقهية- واختار مسلكًا يطرد في جميع قواعد الشريعة، ومنه ينبسط حكم الله تعالى على ما لا نهاية له، حيث الأدلة قاطعة على عدم خلو واقعة عن موجب من موجبات التكليف.
إن "مرونة النص" هي بأبعاده المقاصدية التي تفتح الفضاء الواسع أمام "العقل الفقهي" للتجديد بغير "تقييد" لحركة العقل أو "تبديد" لثروته من النصوص، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
--------------------------------------------------------------------------------
أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية
(1) د. محمد عبد الله دراز الميزان بين السنة والبدعة سنة 1934 دار الطباعة الحديثة بمصر ص 17، 18، 19، 20، 21 باختصار
(2) الشاطبي: المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية تحقيق د. عبد الله هلال مصر 1990 مطبعة الحسين الإسلامية ص98 100 ونستحسن قراءة الكتاب كله، والتقصيد عند الشاطبي ليس منهجا لدراسة الفقه والأصول فحسب، ولكنه اتجاه علمي ينظر به إلى العلوم التي يحسنها، وكتبه كلها تدل على ذلك ويكفي الإشارة إلى المواقفات والاعتصام، والمقاصد الشافية، فهي كتب في المقاصد أولا وأخيرا.
(3) أحمد الريسوني: الفكر المقاصدي قواعده وفوائده، دار الهادي بيروت ط1 سنة 2003، ص 50.
(4) خير الدين التونسي أقوم المسالك في معرفة الممالك تحقيق د. معن زيادة ط2 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت 1985 ص 206.
(5) محمد المنوني –مجلة الموافقات- العدد الأول 1992 –الجزائر- ص 121 – 123، موافقات أبي إسحاق الشاطبي واستمرارية تأثيرها في مؤلفات العصر الحديث.
(6) محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي –ترجمة هشام صالح- بيروت- ص170، وطبقا لهذا الفهم السيميائي تصبح عبارات "الله أكبر"، لا إله إلا الله صيغا لغوية تعني في نهاية المطاف –بتحليل "أركون" –أنه لا يمكن لأي عقل بشري أن يفهم أو يستوعب ما يجري في التاريخ البشري، وأنه بالتالي لا يمكن للعقل أن يشكل مصدرا من مصادر الإجبار الشرعي، وينتج عن ذلك أن الوظائف العامة لن تكون شريعة إلا إذا توافر لها نوع من التفويض الإلهي، وهكذا يصبح التاريخ الدنيوي تاريخا إلهيا، إنه تاريخ نجاة أو خلاص في الحياة الآخرة، ويصبح هذا التاريخ للنجاة شديد الالتحام بالتاريخ الدنيوي متخذا صيغته العملية في بنية القانون الإسلامي، وصيغته الفلسفية في مفهوم مركزي شديد الحضور على مدار القرآن كله وهو مفهوم أمر الله" وبهذه الأفكار التي لا توجد إلا في عقل "أركون"، أصبح عنده الإسلام بنية أسطورية ترتكز على سيادة دينية مقدسة.
(7) محمد عبد الله دراز- الميزان بين السنة والبدعة- مرجع سابق- ص 21-25 وقد نقلنا النص- على طوله- بتصرف لأهميته ودقته في الرد على استبدال المقاصد بعلم أصول الفقه.
(8) محمد عبد الله دراز- الميزان بين السنة والبدعة- مرجع سابق- ص 21-25 وقد نقلنا النص- على طوله- بتصرف لأهميته ودقته في الرد على استبدال المقاصد بعلم أصول الفقه.

المصدر: إسلام اون لاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.