رواية "البرزخ" لسمير ساسي أوجاع الإنسان في غفلة من الوطن بقلم:الشاعر بحري العرفاوي
تونس في 19 جانفي 2008 1 تنبيه على طريقة مقدمي نشرات الأخبار إذ يعتذرون على عدم بث مشاهد حية واقعية احتراما لمشاعر المشاهدين فإننا نعتذر لقارئي هذا التقديم للرواية على عدم تسريب مشاهد محزنة مما جاء فيها وننصح أيضا ودون وصاية ضعاف النفس وسريعي التأثر بعدم الاطلاع على تفاصيل الأوجاع وإبداعات الآدميين في إيذاء شركائهم في حليب الوطن . 2 أوجاع النص وشهادة التاريخ: رواية " البرزخ" لن تكون محل ترحيب من قبل طرف رئيسي –واقعي أو مفترض- في ملحمة مشهدية لها ما يؤكد كونها حقيقة لها عناوينها وأزمنتها ولها أدلتها في كلوم الجسد وخدوش النفس وكدمات الألياف العصبية ،لها ما يحفظها في الذاكرة تأسيسا لوعي أعمق وولادة لأسئلة واقعية وقراءة مختلفة... ثمن قراءة الواقع باهظ وثمن الوعي سنين من الوجع الحرام . قد يكون ممكنا محو آثار العمران ولكن مستحيل محو ذاكرة الإنسان ، نص الرواية اخذ مساربه إلى التاريخ ،أصدره "المركز المغاربي للبحوث والترجمة بلندن " في طبعة أولى سنة 2003 ،سيكون له شان إذ تجترع منه – بالتأكيد – تجربة الإنسان الكوني يقرا في جراحاته تفاصيل الوجع وأسئلة الترحال تتكلم الأحزان 3 : "الأدب مأساة أو لا يكون " ذاك خيار بعض المبدعين إذ يستجمعون طاقاتهم الاحتزانية ويعتصرون الذاكرة علهم يظفرون ببعض مداد حزنهم يجهدون أنفسهم لتصريفه في لغة يحتاجون شحنها بتمطيط الخيال ..."البرزخ" تجربة أخرى في أدب المأساة ،لم يذهب إليها كاتبها خيارا إبداعيا ... يكتشف من يقرأ النص أن الأوجاع أثقل من اللغة وان الموجوع كان يلوذ بالمفردات الحية يقضها قضا كي تتسع لأحزانه ،قاموس مستجمع من عصير اللحم الحي ومن دخان الروح تتشهى التسرب من قبضة "أبي المغاليق" ... ذاك مبدع المشهد المفزع في رواية "البرزخ" وذاكرة المواطن الإنسان :سمير ساسي الرواية متفردة الأداء والتفاصيل توشك أن تظنك بصدد رحلة ابن القارح في رسالة الغفران للمعري ،ولكن لا يفتأ الوجع والحزن أن يقضاك وينقلاك من إبداع الخيال إلى أوجاع الحال . رواية واحدة بعنوان " أيام من حياتي " لسيدة مصرية قرأتها في السبعينات تتواشج آلامها وتفاصيل أوجاعها مع رواية البرزخ لسمير ساسي ،مع تفوق لغوي وإبداعي وتصوير مشهدي مؤثر يؤزّ القارئ أزّا ويطّوف به في خبايا علم موحش غريب . "البرزخ " عالم مجتزأ من سياق التاريخ ومن رحابة المكان تدور أحداثه المؤلمة خارج التقاليد والعرف والقانون وبعيدا عن أعين المؤرخين والمثقفين وعامة الناس ،وأيّ وجع أوجع من أن لا يسمع توجعك احد؟ وأيّ غربة أوحش من أن تجد ذاتك كلها غير مستساغة وغير مقتربة؟ وأيّ عناء أثقل من أن لا يجد المرء لنفسه ملامح هوية يتقاسم بها مع الآخرين مكانا وأزمنة ؟ " فخر الدين " مداد الرواية وشاهد الوجع ليس مجرد بطل قصة – كما يقول النقاد- ولكنه مواطن ينبعث من تحت "ركام " يستصرخ فلاسفة الحياة ويتهم كل "المتواطئين" عليه مع "أبي المغاليق" ... يتهم "الغفلة" والسّماعين والمثقفين وقضاة الزخرف وخصوم الايديولوجيا لم يغفروا له ارتفاع صوته في الجامعة إذ سبقوه الى مقبض العصا . "فخر الدين" تلتعج في أعماقه آلام وأشواق وأحزان وعاطفة وتعصف به الأسئلة الجارحة ويضيق به المكان ، وكل شوارع المدينة اصغر من حبيبته تواعده ولا تأتي ... يكاد يشك في كونه كان "خبا " إذ كان طيّبا ومثاليا وحالما حتى أدركه "الفوت" و"الفوت أشد من الموت" يعود فخر الدين من البرزخ إلى عالم واقعي بناسه ومعاشه وأمكنته ...كل ما يعرفه تغير ولم يعد يجد معه انسجاما ،هل كان لا بد من ذاك الثمن الموجع من اجل غربة موحشة؟ "قال وما الغربة؟ -أن تهجرك المدينة وأنت حل بها -وما المدينة؟ - من لك عليها حق المواطنة وهي مدينة لك بمعناها فمن دونك يكون الخراب - وكيف تهجرك ؟ - كما تهجر اللغة صوفيا فينطق بما لا يفهمه الخلق يضيق بي مكان المدينة وزمانها وتحل هي في نفسي حلما فأصير بها غريبا - ومن الغريب ؟ - من لا يجد له قرينا إلا شرطيا او عينا". تختمر آلام فخر الدين وأوجاعه وأسئلته وأحزان الغربة ولكن اليأس لن يأسره ولن يستفرغ من طاقته الروحانية ودفق الشوق ... سيحل في "المدينة" حلول الصوفيين لا يقدر عليه عسس ولا جنود "أبي المغاليق" " احلل بها يحلو لك المكان والبسها من نورك يجئ إليك زمانها ثم اتحد بها يصفو إليك شخوصها " 4 البرزخ وثيقة للتأمل: آمل ألاّ تقع الرواية بين أيدي الشباب قبل أن يتدارسها السياسيون وعلماء النفس والاجتماع ومثقفو الحياة ، ينفذون بها إلى طبقات سحيقة في عوالم النفس البشرية ويسبحون بها إلى فضاءات لها علية ويسبرون أسرارها الخفية إذ تنتزع من فضائها الطبيعي وامتدادها الإنساني وتجلياتها الفطرية والثقافية ، ينظرون فيما يمكن أن تخلفه تجربة "البرزخ" تلك في أعماق الذات البشرية ونسيج المجتمع وتاريخ الأوطان وذاكرة الأجيال . قد لا يكون أحد معنيا ب"اللغز" السياسي أو الأمني المؤسس لعالم "البرزخ "ذاك. ولكن لا احد بمنأى عن الاشتباك الخفي الحاصل فعلا بين ما يرى وما لايرى .إن عوالم النفس والأفكار أعقد كمن ورشات الحدادة و فصالة الحرير ...قد لا يترتب سوء عن التخلص من جهاز الكتروني معقد التركيب عجزنا عن التعامل معه، ولكن الأمر ليس كذلك مع الإنسان سمير ساسي العائد من "البرزخ" يشهد أن الإنسان في كل مكان يتهدده "أبو المغاليق" المصدربريد الفجرنيوز:Wednesday, January 23, 2008 5:14 AM