إن استفحال ظاهرة التخلف العربي في تحولها من واقع الانقسام والتبعية والجمود السياسي إلى واقع الفتن الداخلية والاستلاب الحضاري والاقتصادي و الانفلات السياسي نحو خنادق الطائفة و المذهب والقبيلة والعرْق كفيل على ما أعتقد بأن يدعونا حكاما ومحكومين وعلى رأس كل من الفريقين نخبه السياسية والفكرية لكي نعيد ترتيب الأولويات بما يستجيب لهول التداعيات القائمة والقادمة وفي مقدمة هذه الأولويات مضاعفة المساحة المخصصة للعمل المنتج وتقليص مساحات اللغو الإعلامي والدعائي والسياسي وتحرير مكاتب الإدارات ومجالس المقاهي والمنتديات وفضاءات الدردشة الالكترونية ومنابر الدعوة والوعظ و الجهاد الافتراضي من كل دعوات الكسل والاستقالة والاحباط والتطهر من أدناس الواقع.كما أن ذلك كفيل بأن ينبه كل الأدعياء في الوطنية المفرطة والديمقراطية العتيدة والعقائد الصلبة والاقتصاديات الرائدة بأن ادعاءاتهم لا تغير في شيء حقيقة أننا نحن العرب اليوم - مجتمعين في الجامعة العربية ومنفردين في أقطارنا - نعيش زمن الأمة المنكوبة والثروة المسلوبة والدولة المغلوبة و لن يقلل من فداحة هذا المشهد جهد المقاومة الباسلة في العراق أو في فلسطين أو في سواهما من أرض العروبة أو جهد بعض سياسات التنمية الظرفية المشوّهة و المحمولة على اشتراطات المموّلين وأصحاب المصالح إلا بقدر ما نرتقي نحن إلى مستوى جهد عربي جادّ ومتواصل ومثمر. إن مشروع حياة الأمة العربية يكاد يضيع اليوم بين ادعاءات الحكومات "المنتصرة في معارك التحرير والتنمية والديمقراطية ومواجهة تحديات الازمة المالية العالمية ومزايدات المتربصين والمناوئين" وبين ادعاءات تنظيمات المعارضة والنخب السياسية والفكرية بكل ألوان طيفها الاديولوجي والسياسي "الحاملة لطموحات الشعوب والمعبرة عن أحلامها و انتظاراتها والمناضلة في سبيل تحررها ووحدتها و صحوتها القادمة". ولأن الواقع الحقيقي هو ذاك الذي تكتوي الشعوب بناره وتعيش تداعياته في البيوت والمصانع والمزارع والجامعات وفي وسائل النقل وفضاءات التسوق وعلى أبواب الإدارات ومكاتب المسؤولين فإن هذه الشعوب لا تتفاعل مع ما يقوله هذا الطرف أو ذاك وإن تفاعلت فهي تنهض متثاقلة عالمة بحدود دورها ومكانتها ضمن المشهد الافتراضي الذي تدعى إليه ثم تعود إلى واقعها البائس منتظرة لحظة للانفراج التاريخي يستقيم فيه خطاب الحكم وخطاب المعارضات مع مطلوبات واقع عامة الناس ومطلوبات مرحلة أصبحت فيها للفتنة رؤوس عديدة لا تحتاج سوى لمزيد الاصرار على تجاهلها حتى تطرق كل الأبواب . إنّ تجارب الحكم في الوطن العربي منذ بدايات تشكل نظام الجامعة العربية وتجارب المعارضات على تنوع رؤاها الإيديولوجية والسياسية تشير على ضوء ما يحصل اليوم من تداعي إلى أنها كانت تحمل على امتداد مسيرتها قصورا حال بينها وبين تمثل مشروع النهضة العربية فعجزت عن تحقيق الإضافة النوعية التي بموجبها تخرج الإنسان العربي وتحرّره من دائرة الظاهرة الفردية الكلامية إلى واقع الفعل الجماعي الجاد والمسؤول وترتقي بوجوده وأدائه الحضاري إلى مستوى تمثل الدّرس في قول الله عزّ وجلّ :" يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" سورة الصّف آية 2 و 3 . صحيفة الوطن التونسية المصدر بريد الفجرنيوز