الانقلاب الصيفي يحل اليوم السبت 21 جوان 2025 في النصف الشمالي للكرة الأرضية    بايرن ميونخ يفوز على بوكا جونيور و يتأهّل إلى ثمن نهائي كأس العالم للأندية (فيديو)    بعد فوزه على لوس أنجلوس... الترجي الرياضي يدخل تاريخ كأس العالم    موجة جديدة من الصواريخ الإيرانية على إسرائيل: ضربات على تل أبيب، حيفا وبئر السبع، أكثر من 100 جريح    كأس العالم للاندية.. الترجي ينتصر على لوس انجلوس الامريكي    نتائج الباكالوريا 2025: تفعيل خدمة الرسائل القصيرة، والتوجيه الجامعي يسير بخطى ثابتة    أسرة عبد الحليم حافظ تُقاضي مهرجان "موازين" الدولي بالمغرب    في واقعة نادرة.. استخراج هاتف محمول من بطن شاب بعد عامين من ابتلاعه    كيف سيكون طقس السبت 21 جوان 2025؟    8 علامات تشير إلى بيع بياناتك الشخصية عبر الإنترنت.. احذرها    باجة: إستقبال شعبي لقافلة الصمود [فيديو]    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    ترامب: قد أدعم وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل إذا سمحت الظروف.. مستعد للحديث مع طهران    22 سنة سجناً مع النفاذ العاجل في حق الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وقيادات سابقة    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    بين طموح التميز وشبح الإقصاء .. النموذجي... «عقدة » التلاميذ !    "الستاغ" تعتذر من حرفائها..وهذه التفاصيل..    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    بلاغ جديد من النجم الرياضي الساحلي    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    قابس: أكثر من 250 مشاركا في الدورة 41 لمعرض قابس الدولي    وزارة الصحة تجدد دعوة الأطباء المقيمين إلى اختيار مراكز العمل    طبربة: إيداع مربي نحل السجن من أجل تسببه في حريق غابي    صحتك النفسية فى زمن الحروب.. .هكذا تحافظ عليها فى 5 خطوات    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    هجمات اسرائيل على ايران: السعودية تحذّر.. #خبر_عاجل    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    النادي الإفريقي يعلن عن موعد الجلسة العامة الانتخابية    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    حملة لمراقبة المحلات المفتوحة للعموم بدائرة المدينة وتحرير 8 مخالفات لعدم احترام الشروط القانونية (بلدية تونس)    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يختم تربصه بإيطاليا بهزيمة ضد المنتخب الايطالي الرديف 3-1    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    الأستاذ عامر بحببة يحذّر: تلوّث خطير في سواحل المنستير ووزارة البيئة مطالبة بالتدخل العاجل    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    بطولة برلين : من هي منافسة أنس جابر اليوم الجمعة ؟    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    عاجل/ سعيّد يكشف: مسؤولون يعطلون تنفيذ عدد من المشاريع لتأجيج الأوضاع    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملاحظات على المراجعات: فهمي هويدي
نشر في الفجر نيوز يوم 11 - 12 - 2007

القضايا التي تطرحها مراجعات الجهاديين أهم بكثير من المحتوى الذي قدمته، الأمر الذي يدعونا بدورنا إلى مراجعة الكثير من مواقفنا وحساباتنا. (1) في منتصف الخمسينيات حين كان الشيخ محمد أبو زهرة يلقي علينا محاضراته في الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق ،سألنا ذات مرة عن الفرق بين المسلم الكيِّس الفَطِن، والمسلم كيس القطن. ولم ينتظر منا إجابة لأنه اجاب قائلاً إن الفرق بين الاثنين هو ذاته الفرق بين المسلم الذكي والمسلم الغبي. وقد تطرق إلى الموضوع حين استطرد ذات مرة ليشرح لنا مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
(1)
في منتصف الخمسينيات حين كان الشيخ محمد أبو زهرة يلقي علينا محاضراته في الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق ،سألنا ذات مرة عن الفرق بين المسلم الكيِّس الفَطِن، والمسلم كيس القطن. ولم ينتظر منا إجابة لأنه اجاب قائلاً إن الفرق بين الاثنين هو ذاته الفرق بين المسلم الذكي والمسلم الغبي. وقد تطرق إلى الموضوع حين استطرد ذات مرة ليشرح لنا مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال إن المسلم "الغشيم" هو الذي يندفع إلى محاولة التغيير باليد لشيء لا يقدر عليه، أو ينهي الناس عن أمر فيتحولون إلى ما أسوأ منه. وروى لنا في هذه المناسبة قصة ابن تيمية في الشام، حين مر على قوم من التتار كانوا قد شربوا حتى سكروا، فقال له أحد أصحابه لماذا لا تنههم عن شرب الخمر، فرد عليه قائلاً: دعهم كما هم، لأنهم إذا أفاقوا عاثوا في الأرض فساداً. وخلص من القصة إلى أن ابن تيمية استخدم عقله في تعامله مع الواقعة، حين وازن بين المصلحة والمفسدة، وبين الضرر الأدنى والضرر الأكبر، وعلمَّ من حوله أن المسلم الكيِّس والرشيد هو من يملك عقلاً يمكنه من احسان التعامل مع الواقع من خلال ضبط الموازنات وتحديد الأولويات، ومراعاة المقاصد والمصالح في نهاية المطاف. أما الذي يحفظ النصوص ويتعامى عن الواقع فهو المسلم الغبي، الذي لا يختلف في شئ عن كيس القطن.
هذا الكلام قرأته في كتابات آخرين من الأساتذة والشيوخ من امثال عبد الوهاب الخلاف وسلام مدكور ومحمد مصطفى شلبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي، الذي كان أكثر من فصل في الموضوع وأصل لفقه الأولويات والموازنات. وحين كنت أقلب في كتب الأقدمين كنت أجده مبثوثاً في جنباتها بصياغات مختلفة، خصوصاً في مؤلفات ابن القيم وابن تيمية وأبو حامد الغزالي والإمام الجويني وآخرين.
ومازلت احتفظ بكتاب صغير كنت قد قرأته في أوائل الخمسينيات (اشتريته بخمسة عشر قرشا) حول حق مقاومة الحكومات الجائرة في المسيحية والإسلام، لمؤلفه الدكتور محمد طه بدوي، الذي كان حينذاك أستاذاً مساعداً بكلية التجارة في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية لاحقاً) وتحدث عن موقف فقهاء المسلمين من أنظمة الحكم وانحياز أغلبهم إلى موقف درء الفتنة، اهتداء بمبدأ ترجيح المصلحة على المفسدة.
هذه الخلفية استعنت بها فيما كتبته لاحقا (قبل ربع قرن) عن فقه التغيير والانكار وهي المقالة التي أصبحت فصلاً في كتاب صدر لي في عام 1986 تحت عنوان "التدين المنقوص".
(2)
ما دعاني إلى استحضار ذلك التاريخ أنني حين أطلعت على" وثيقة ترشيد العمل الجهادي" التي شغلت الرأي العام خلال الأسابيع الأخيرة، وكتبها منظر الحركة الدكتور سيد إمام الشريف، الذي اشتهر بأسماء أخرى، وجدت أن الكلام المنشور ليس جديداً علىّ، وانتبهت إلى أن ما اعتبرته وسائل الإعلام فتوحات فكرية هو جزء من المعارف التي حصلها أمثالي من الشباب الذين انشغلوا بالشأن الإسلامي منذ نصف قرن على الأقل. بل كان جزءا لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية التقليدية لدى أهل السنة والجماعة.
لم أفاجأ مثلاً بالتنويه إلى أن التكليف منوط بالعقل والعلم والقدرة، ولا بالنهي عن استخدام العنف في مواجهة الحكام ببلاد المسلمين، أو بالنهي عن قتل المدنيين المسلمين أو التعرض بالأذى للأجانب السائحين. ولم أجد إضافة إلى معلوماتي في شأن تكفير المسلمين أو ضوابط وأسس التعامل مع غير المسلمين، التي ألفت فيها قبل عشرين عاماً كتابي "مواطنون لا ذميون". وهذه كلها عناوين أساسية في الوثيقة، تخلى فيها كاتبها عن الأفكار التي تبنتها مجموعات الجهاد الإسلامي في مشروعها. وحين قلت إنها لم تضف إلى معلوماتي شيئاً فأنني لا أتحدث عن أمر يخصنى وحدى، وإنما قصدت أنها لا تضيف شيئاً إلى معارف الباحثين المسلمين العاديين، ممن نهلوا من منابع ومراجع مدرسة الوسطية الإسلامية التي ينتمي إليها غالبية أهل السنة والجماعة.
ولا أريد أن أقلل من شأن الوثيقة، لأنها تمثل انقلاباً في أساسيات مشروع جماعات الجهاد، وانتقالا به من فكر الفرقة إلى فقه الأمة. وهي من هذه الزاوية مهمة للغاية لكافة الفصائل التي انخرطت في المشروع وانطلقت من تعاليمه. ولا تقل في أهميتها عن مراجعات الجماعة الإسلامية التي صدرت قبل عشر سنوات. وكلها تهدر فكرة العنف وترفض التكفير، وتتحرى سبلاً جديدة للتصالح مع المجتمع، تتوافق مع ما اصطلحت عليه الأمة وتعايشت في ظله منذ قرون .إلى جانب ذلك فمن الإنصاف أن نشيد بشجاعة الرجل الذي تبنى هذه المراجعات، ولم يتردد في نقد الأفكار التي سبق أن تبناها، مؤثراً العودة إلى الحق الذي أدركه، بدلاً من المضي العوج في الذي بدأه.
(3)
لماذا كان العوج ؟ ولماذا كانت المراجعات ؟ .. شغلتني إجابة السؤالين بأكثر مما شغلني محتوى الوثيقة رغم أهميته. وقد وقعت على إجابة السؤال الأول في ثنايا دراسة مهمة تضمنها كتاب دليل الحركات الإسلامية، الذي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام في العام الماضي 2006. والدراسة عن منظر حركة الجهاد وصاحب المراجعات التي بين أيدينا الدكتور سيد إمام، ونبهت إلى انطلاقه من فكر المدرسة السلفية التي تركز على مفهوم العقيدة، ويسيطر عليها تمثل نموذج الفرقة الناجية. وهذه المدرسة حين حصرت نفسها في ذلك الإطار فإنها انفصلت عن الواقع وميزت نفسها عنه، ومن ثم فإنها نفرت من المجتمع واشتبكت معه، فجرحت عقيدته وكان التكفير سبيلها إلى ذلك . ولأنها الفرقة الناجية، ولأن المجتمع في نظرها أصبح مرتداً وفاسد العقيدة، والكفر سمة أساسية لكل فئاته ومؤسساته وجماعاته - حتى الإسلامية منها - فإن مقاتلته وتقويض أركانه غدت رسالة الفرقة الناجية لتطهيره من الضلال الذي وقع فيه.
هذه هي الفكرة الجوهرية التي سيطرت على أهم كتاب للدكتور سيد إمام، الذي خرج في جزئين (ألف صفحة) تحت عنوان "الجامع في طلب العلم الشريف"، تولى فيه تأصيل تكفير المجتمع والخروج على حكامه ومقاتلتهم.
حدثتنا الدراسة عن أزمتين عانى منهما منظر الجهاديين، أولهما أزمة في الفكر تمثلت في استغراقه في مدرسة السلف واستسلامه لشعار الفرقة الناجية التي استعلت على كل ما حولها، وثانيهما أزمة لدى الشخص الذي استقال غاضباً من قيادة تنظيم الجهاد في عام 1993، فأوغل في تكفير الآخرين وتشدد في ضوابط تطهير المسلم مما يشوب عقيدته، لكي يصبح مؤهلاً للانضمام إلى الفرقة الناجية.
إذا حاولنا أن نجيب على السؤال لماذا كانت المراجعات، فسنجد أن السبب الرئيسي لذلك أن الرجل رأى بأم عينيه أن مشروعه حقق فشلاً ذريعاً وأنه كلف الأمة ثمناً باهظاً من دماء وأرواح أبنائها وعرض مجتمعاتها لويلات وأحزان كانت في غنى عنها. وهو ما صدمه وجعله يفتح عينيه على الدائرة الأوسع، متجاوزاً بذلك الفرقة الاستثنائية التي تقوقع في داخلها. وحين خرج من النصوص إلى الواقع، ومن ضيق الفرقة إلى سعة الأمة ،فأنه رأى المشهد من زاوية مغايرة تماماً. وكانت النتيجة انه قرأ النصوص التي انطلق منها من منظور مغاير رأى فيه الواقع بمتغيراته والتكاليف بأولوياتها وموازناتها، والمدارس الفكرية بثرائها وتعدد اجتهاداتها، وهو ما أوصله إلى مشارف فقه الأمة، الذي بدأ فيه فقه الفرقة مجرد نقطة في بحر كبير بلا شطآن.
(4)
هذا التحليل يستدعى بقوة سؤالاً لم نطرحه على أنفسنا هو: لماذا إستسلم قادة الجماعات الجهادية لتعاليم الفكر السلفي وفكرة الفرقة التاجية طوال تلك السنين، ولم يكتشفوا فقه الأمة إلا متأخراً جداً؟
فى تتبعى لمسار قادة التيار الجهادي لاحظت عدة أمور أحسب أنها تساعدنا في الإجابة على السؤال. منها مثلاً أن هذه المجموعات بدأت تتوالد في آواخر الستينيات، في أعقاب الصدام الثاني بين ثورة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين، الذي ترتب عليه اعتقال أعداد كبيرة منهم، الأمر الذي أخلى الساحة من أي وعاء يمكن أن يستوعب الشباب المتدين، الذي إتسعت دوائره في المناخ الذي أعقب هزيمة 67. وكانت تلك هى الأجواء التي تمدد فيها الفكر السلفى في أنحاء مصر ليملأ الفراغ المخيم على ساحتها، ملبياً أشواق أجيال من الشباب المتدين التي كانت تبحث عمن يأخذ بيدها.
لاحظت أيضاً أن أغلب مؤسسى المجموعات الجهادية والجماعة الإسلامية كانوا من النابهين في الكليات العملية (عدد غير قليل منهم كانوا من صعيد مصر الذي يعد أحد منابع الغلو). فسيد إمام صاحب المراجعات وأيمن الظواهرى وناجح إبراهيم تخرجوا من كلية الطب. وعبد السلام فرج كان مهندساً وكذلك صفوت عبد الغنى. وأسامة رشدى تخرج من الصيدلة. وشكرى مصطفى تخرج من الزراعة. وكرم زهدى درس التعاون الزراعى وعصام القمرى كان ضابطاً وكذلك عبود الزمر.. وهكذا. هؤلاء جميعاً إتصلوا بالعلوم الشرعية إما أثناء دراستهم في الجامعات أو بعد تخرجهم، ولأنه لم يتوافر لهم نصيب من الثقافة الإسلامية الوسطية، التي صاغها فقه الأمة ولأن الفكر السلفي المعنى بشؤون العقيدة وسلوك الناس والمتشدد في التعلق بالنصوص، هو الذي توفر لهم في الساحة التي غابت عنها أوعية مدارس الوسطية، فقد كان طبيعياً أن ينجذب أمثالهم من الشباب إلى ذلك الفكر ويوغلوا فيه، إلى الحد الذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه.
هذا التحليل إذا صح، فإنه يقودنا إلى خلاصة مهمة تتمثل في إننا حين لم نوفر للشباب سبل تحصيل حد معقول من الثقافة الإسلامية، فإننا دفعناهم دفعاً إلى الارتماء في أحضان الفكر السلفى. كما أنه ينبهنا إلى فشل بل خطورة فكرة "تجفيف الينابيع" التي تبنتها بعض الأطراف المشتبكة مع التيار الإسلامي، حيث أثبتت التجربة التي نحن بصددها أن ذلك التجفيف من أهم العوامل التي تشجع على التطرف والإرهاب، في حين أن التدين الرشيد هو الذي يقوى مناعة الشباب ويحصنهم ضدهما.
ثمة خلاصة أخرى يتعين الإنتباه إليها، وهي أن هذا الجيل من الشباب الذي كان يحلم بالمجتمع المثالي، وإندفع في طريق العنف ليحقق التغير الذي ينشده، حين يكتشف خطأ الطريق الذي تنكبه، فإننا ينبغي ألا نكتفى بذلك، وإنما يجب ان نوفر له طريقا بديلا يعطيه أملاً في إمكانية إحداث التغير المرجو بالطرق السليمة، لأن تيسير الحلال هو أنجع الأساليب لقطع دابر الحرام.


القضايا التي تطرحها مراجعات الجهاديين أهم بكثير من المحتوى الذي قدمته، الأمر الذي يدعونا بدورنا إلى مراجعة الكثير من مواقفنا وحساباتنا.
(1)
في منتصف الخمسينيات حين كان الشيخ محمد أبو زهرة يلقي علينا محاضراته في الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق ،سألنا ذات مرة عن الفرق بين المسلم الكيِّس الفَطِن، والمسلم كيس القطن. ولم ينتظر منا إجابة لأنه اجاب قائلاً إن الفرق بين الاثنين هو ذاته الفرق بين المسلم الذكي والمسلم الغبي. وقد تطرق إلى الموضوع حين استطرد ذات مرة ليشرح لنا مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال إن المسلم "الغشيم" هو الذي يندفع إلى محاولة التغيير باليد لشيء لا يقدر عليه، أو ينهي الناس عن أمر فيتحولون إلى ما أسوأ منه. وروى لنا في هذه المناسبة قصة ابن تيمية في الشام، حين مر على قوم من التتار كانوا قد شربوا حتى سكروا، فقال له أحد أصحابه لماذا لا تنههم عن شرب الخمر، فرد عليه قائلاً: دعهم كما هم، لأنهم إذا أفاقوا عاثوا في الأرض فساداً. وخلص من القصة إلى أن ابن تيمية استخدم عقله في تعامله مع الواقعة، حين وازن بين المصلحة والمفسدة، وبين الضرر الأدنى والضرر الأكبر، وعلمَّ من حوله أن المسلم الكيِّس والرشيد هو من يملك عقلاً يمكنه من احسان التعامل مع الواقع من خلال ضبط الموازنات وتحديد الأولويات، ومراعاة المقاصد والمصالح في نهاية المطاف. أما الذي يحفظ النصوص ويتعامى عن الواقع فهو المسلم الغبي، الذي لا يختلف في شئ عن كيس القطن.
هذا الكلام قرأته في كتابات آخرين من الأساتذة والشيوخ من امثال عبد الوهاب الخلاف وسلام مدكور ومحمد مصطفى شلبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي، الذي كان أكثر من فصل في الموضوع وأصل لفقه الأولويات والموازنات. وحين كنت أقلب في كتب الأقدمين كنت أجده مبثوثاً في جنباتها بصياغات مختلفة، خصوصاً في مؤلفات ابن القيم وابن تيمية وأبو حامد الغزالي والإمام الجويني وآخرين.
ومازلت احتفظ بكتاب صغير كنت قد قرأته في أوائل الخمسينيات (اشتريته بخمسة عشر قرشا) حول حق مقاومة الحكومات الجائرة في المسيحية والإسلام، لمؤلفه الدكتور محمد طه بدوي، الذي كان حينذاك أستاذاً مساعداً بكلية التجارة في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية لاحقاً) وتحدث عن موقف فقهاء المسلمين من أنظمة الحكم وانحياز أغلبهم إلى موقف درء الفتنة، اهتداء بمبدأ ترجيح المصلحة على المفسدة.
هذه الخلفية استعنت بها فيما كتبته لاحقا (قبل ربع قرن) عن فقه التغيير والانكار وهي المقالة التي أصبحت فصلاً في كتاب صدر لي في عام 1986 تحت عنوان "التدين المنقوص".
(2)
ما دعاني إلى استحضار ذلك التاريخ أنني حين أطلعت على" وثيقة ترشيد العمل الجهادي" التي شغلت الرأي العام خلال الأسابيع الأخيرة، وكتبها منظر الحركة الدكتور سيد إمام الشريف، الذي اشتهر بأسماء أخرى، وجدت أن الكلام المنشور ليس جديداً علىّ، وانتبهت إلى أن ما اعتبرته وسائل الإعلام فتوحات فكرية هو جزء من المعارف التي حصلها أمثالي من الشباب الذين انشغلوا بالشأن الإسلامي منذ نصف قرن على الأقل. بل كان جزءا لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية التقليدية لدى أهل السنة والجماعة.
لم أفاجأ مثلاً بالتنويه إلى أن التكليف منوط بالعقل والعلم والقدرة، ولا بالنهي عن استخدام العنف في مواجهة الحكام ببلاد المسلمين، أو بالنهي عن قتل المدنيين المسلمين أو التعرض بالأذى للأجانب السائحين. ولم أجد إضافة إلى معلوماتي في شأن تكفير المسلمين أو ضوابط وأسس التعامل مع غير المسلمين، التي ألفت فيها قبل عشرين عاماً كتابي "مواطنون لا ذميون". وهذه كلها عناوين أساسية في الوثيقة، تخلى فيها كاتبها عن الأفكار التي تبنتها مجموعات الجهاد الإسلامي في مشروعها. وحين قلت إنها لم تضف إلى معلوماتي شيئاً فأنني لا أتحدث عن أمر يخصنى وحدى، وإنما قصدت أنها لا تضيف شيئاً إلى معارف الباحثين المسلمين العاديين، ممن نهلوا من منابع ومراجع مدرسة الوسطية الإسلامية التي ينتمي إليها غالبية أهل السنة والجماعة.
ولا أريد أن أقلل من شأن الوثيقة، لأنها تمثل انقلاباً في أساسيات مشروع جماعات الجهاد، وانتقالا به من فكر الفرقة إلى فقه الأمة. وهي من هذه الزاوية مهمة للغاية لكافة الفصائل التي انخرطت في المشروع وانطلقت من تعاليمه. ولا تقل في أهميتها عن مراجعات الجماعة الإسلامية التي صدرت قبل عشر سنوات. وكلها تهدر فكرة العنف وترفض التكفير، وتتحرى سبلاً جديدة للتصالح مع المجتمع، تتوافق مع ما اصطلحت عليه الأمة وتعايشت في ظله منذ قرون .إلى جانب ذلك فمن الإنصاف أن نشيد بشجاعة الرجل الذي تبنى هذه المراجعات، ولم يتردد في نقد الأفكار التي سبق أن تبناها، مؤثراً العودة إلى الحق الذي أدركه، بدلاً من المضي العوج في الذي بدأه.
(3)
لماذا كان العوج ؟ ولماذا كانت المراجعات ؟ .. شغلتني إجابة السؤالين بأكثر مما شغلني محتوى الوثيقة رغم أهميته. وقد وقعت على إجابة السؤال الأول في ثنايا دراسة مهمة تضمنها كتاب دليل الحركات الإسلامية، الذي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام في العام الماضي 2006. والدراسة عن منظر حركة الجهاد وصاحب المراجعات التي بين أيدينا الدكتور سيد إمام، ونبهت إلى انطلاقه من فكر المدرسة السلفية التي تركز على مفهوم العقيدة، ويسيطر عليها تمثل نموذج الفرقة الناجية. وهذه المدرسة حين حصرت نفسها في ذلك الإطار فإنها انفصلت عن الواقع وميزت نفسها عنه، ومن ثم فإنها نفرت من المجتمع واشتبكت معه، فجرحت عقيدته وكان التكفير سبيلها إلى ذلك . ولأنها الفرقة الناجية، ولأن المجتمع في نظرها أصبح مرتداً وفاسد العقيدة، والكفر سمة أساسية لكل فئاته ومؤسساته وجماعاته - حتى الإسلامية منها - فإن مقاتلته وتقويض أركانه غدت رسالة الفرقة الناجية لتطهيره من الضلال الذي وقع فيه.
هذه هي الفكرة الجوهرية التي سيطرت على أهم كتاب للدكتور سيد إمام، الذي خرج في جزئين (ألف صفحة) تحت عنوان "الجامع في طلب العلم الشريف"، تولى فيه تأصيل تكفير المجتمع والخروج على حكامه ومقاتلتهم.
حدثتنا الدراسة عن أزمتين عانى منهما منظر الجهاديين، أولهما أزمة في الفكر تمثلت في استغراقه في مدرسة السلف واستسلامه لشعار الفرقة الناجية التي استعلت على كل ما حولها، وثانيهما أزمة لدى الشخص الذي استقال غاضباً من قيادة تنظيم الجهاد في عام 1993، فأوغل في تكفير الآخرين وتشدد في ضوابط تطهير المسلم مما يشوب عقيدته، لكي يصبح مؤهلاً للانضمام إلى الفرقة الناجية.
إذا حاولنا أن نجيب على السؤال لماذا كانت المراجعات، فسنجد أن السبب الرئيسي لذلك أن الرجل رأى بأم عينيه أن مشروعه حقق فشلاً ذريعاً وأنه كلف الأمة ثمناً باهظاً من دماء وأرواح أبنائها وعرض مجتمعاتها لويلات وأحزان كانت في غنى عنها. وهو ما صدمه وجعله يفتح عينيه على الدائرة الأوسع، متجاوزاً بذلك الفرقة الاستثنائية التي تقوقع في داخلها. وحين خرج من النصوص إلى الواقع، ومن ضيق الفرقة إلى سعة الأمة ،فأنه رأى المشهد من زاوية مغايرة تماماً. وكانت النتيجة انه قرأ النصوص التي انطلق منها من منظور مغاير رأى فيه الواقع بمتغيراته والتكاليف بأولوياتها وموازناتها، والمدارس الفكرية بثرائها وتعدد اجتهاداتها، وهو ما أوصله إلى مشارف فقه الأمة، الذي بدأ فيه فقه الفرقة مجرد نقطة في بحر كبير بلا شطآن.
(4)
هذا التحليل يستدعى بقوة سؤالاً لم نطرحه على أنفسنا هو: لماذا إستسلم قادة الجماعات الجهادية لتعاليم الفكر السلفي وفكرة الفرقة التاجية طوال تلك السنين، ولم يكتشفوا فقه الأمة إلا متأخراً جداً؟
فى تتبعى لمسار قادة التيار الجهادي لاحظت عدة أمور أحسب أنها تساعدنا في الإجابة على السؤال. منها مثلاً أن هذه المجموعات بدأت تتوالد في آواخر الستينيات، في أعقاب الصدام الثاني بين ثورة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين، الذي ترتب عليه اعتقال أعداد كبيرة منهم، الأمر الذي أخلى الساحة من أي وعاء يمكن أن يستوعب الشباب المتدين، الذي إتسعت دوائره في المناخ الذي أعقب هزيمة 67. وكانت تلك هى الأجواء التي تمدد فيها الفكر السلفى في أنحاء مصر ليملأ الفراغ المخيم على ساحتها، ملبياً أشواق أجيال من الشباب المتدين التي كانت تبحث عمن يأخذ بيدها.
لاحظت أيضاً أن أغلب مؤسسى المجموعات الجهادية والجماعة الإسلامية كانوا من النابهين في الكليات العملية (عدد غير قليل منهم كانوا من صعيد مصر الذي يعد أحد منابع الغلو). فسيد إمام صاحب المراجعات وأيمن الظواهرى وناجح إبراهيم تخرجوا من كلية الطب. وعبد السلام فرج كان مهندساً وكذلك صفوت عبد الغنى. وأسامة رشدى تخرج من الصيدلة. وشكرى مصطفى تخرج من الزراعة. وكرم زهدى درس التعاون الزراعى وعصام القمرى كان ضابطاً وكذلك عبود الزمر.. وهكذا. هؤلاء جميعاً إتصلوا بالعلوم الشرعية إما أثناء دراستهم في الجامعات أو بعد تخرجهم، ولأنه لم يتوافر لهم نصيب من الثقافة الإسلامية الوسطية، التي صاغها فقه الأمة ولأن الفكر السلفي المعنى بشؤون العقيدة وسلوك الناس والمتشدد في التعلق بالنصوص، هو الذي توفر لهم في الساحة التي غابت عنها أوعية مدارس الوسطية، فقد كان طبيعياً أن ينجذب أمثالهم من الشباب إلى ذلك الفكر ويوغلوا فيه، إلى الحد الذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه.
هذا التحليل إذا صح، فإنه يقودنا إلى خلاصة مهمة تتمثل في إننا حين لم نوفر للشباب سبل تحصيل حد معقول من الثقافة الإسلامية، فإننا دفعناهم دفعاً إلى الارتماء في أحضان الفكر السلفى. كما أنه ينبهنا إلى فشل بل خطورة فكرة "تجفيف الينابيع" التي تبنتها بعض الأطراف المشتبكة مع التيار الإسلامي، حيث أثبتت التجربة التي نحن بصددها أن ذلك التجفيف من أهم العوامل التي تشجع على التطرف والإرهاب، في حين أن التدين الرشيد هو الذي يقوى مناعة الشباب ويحصنهم ضدهما.
ثمة خلاصة أخرى يتعين الإنتباه إليها، وهي أن هذا الجيل من الشباب الذي كان يحلم بالمجتمع المثالي، وإندفع في طريق العنف ليحقق التغير الذي ينشده، حين يكتشف خطأ الطريق الذي تنكبه، فإننا ينبغي ألا نكتفى بذلك، وإنما يجب ان نوفر له طريقا بديلا يعطيه أملاً في إمكانية إحداث التغير المرجو بالطرق السليمة، لأن تيسير الحلال هو أنجع الأساليب لقطع دابر الحرام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.