منذ أسابيع فاجأنا الشيخ الفاضل الدكتور سلمان العودة بمقال تعرض فيه لزيارة قام بها لتونس تحدث فيه عن مشاهداته هناك، وقد تبعت المقال ردود عديدة كان أكثرها استغرابا ونقدا لما حملته الورقة. ولن أخفي أني كنت مدركا لأهمية ما ورد فيه، وأردت تناول الموضوع لكني وجدت البعض قد سبقني مشكورا ورأيت أن لا فائدة كبيرة في تكرار بعض الحديث والتزمت الصمت وقد كنت في الحقيقة معنيا أكثر بما ورد في المقال من موقف جديد للشيخ العودة تجاه الحركة الإسلامية وأردت الكتابة في ذلك حالما ينهي أفكاره التي وعد أنه سيواصل الكتابة فيها قريبا وأنا مازلت في انتظار ذلك حتى لا نبخس الشيخ الفاضل حقه ونزداد علما ويكون الحوار ناضجا واعيا. في انتظار ذلك، أردت في هذه الورقة المتواضعة التعريج على موقف الشيخ الفاضل من زيارته لتونس على ضوء تدخله الأخير في برنامج إضاءات والذي يبدو لي فيه أن موقفا جديدا قد بدا يلوح في أطراف الحديث وأخذ ينسج أطرافه ولو ببعض الغموض أحيانا. حمل حديث الشيخ الفاضل في مقاله "الإسلام والحركات" بطريقة غير مباشرة موقفا حاسما وواضحا تجاه الوضع العام في البلاد التونسية وخاصة في بابه الشعائري والديني فقال : "أني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه. " كان هذا الوضوح في الموقف وكما عودنا الشيخ الجليل، رغم عدم ذكره لتونس مباشرة وقد زاد الموقف وضوحا فيما بعد في برنامجه الحياة كلمة لما أعاد ذكر سفره إلى تونس بالاسم، كان موقف الشيخ في الحقيقة جليا ولكن لفت بأطرافه بعض النقائص التي ولّدت بوعي أو بغير وعي هذه التركيبة الشخصية لمشاهدات الدكتور العودة : *كانت الزيارة قصبرة، يومان كما ذكر الشيخ الجليل *كانت زيارة موجهة وليست حرة وهذا لا يعتب عليه الشيخ فالرجل له قيمته وقامته... *كانت زيارة علمية ولذلك كانت ذات طرف واحد ولم يقع الاستماع إلى كل الأطراف، لأن المشهد لم يكن سياسيا وإن كان الموقف الذي تولد عنها سياسيا خالصا. كل هذه العوامل أنتجت حسب نظري المتواضع ترهلا في الموقف مع احترامي للشيخ الفاضل ونبع عنه كل هذه الأسئلة الحائرة والمتارة والتي جمعتها كتابات وأقوال وحوارات متعددة : هل كان الشيخ مطلعا بالشكل الكافي على الحالة التونسية؟ هل غير الشيخ رحله ودخل خيمة السلطان؟ هل أصبح حكوميا كما قال بعضهم؟ هل أخطأ الشيخ بتوطئة لمقال فكري بزيارة شابتها التباينات فنالت من الفكرة والمقال؟... لن أقف على معقبات المقال كما قلت، فما ورد تباعا كاف وزيادة، ولكني أريد التوقف قليلا حول الجديد الذي حمله التدخل الأخير للشيخ الفاضل في برنامج إضاءات هو بعض التردد والنسبية التي عوضت بعض الشيء منطق الإطلاق الذي شمل المقال، وخرجت بعض المفاهيم والمصطلحات الجديدة لتغطي الحسم الأول، وهكذا تتابعت الأقوال : ليست شهادة ولكن مشاهدة...هو انطباع ليومين...المقصود رسالة إلى الانفتاح بين البلدان... نميل في الحقيقة إلى مثل هذا الحديث في الاعتدال في الموقف والنسبية الغالبة في الحديث، فالحالة التونسية معقدة ولا شك ولكن كثيرا من ملامحها تبدو واضحة والحديث اليوم عن بياض عام يسودها، فيه كثير من التكلف وعدم الدقة، ونحن لا نبخس الناس أشياءهم ولا نعتبر السواد يحف بكل المكان، ولعل منهجيتي في التعامل مع الوضع التونسي قديما وحديثا يتواصل مع هذه النسبية حيث أفرق بين المشهد وبين فاعليه والمساهمين فيه. فالمشهد العام لا يمكن فصله عن المشهد السياسي، ومشهد الحريات العامة لا يمكن فكه عن حرية التحجب أو ارتياد المسجد حتى وإن سلمنا بوجوده. وإذا كان المشهد العام مرتبكا ويغلب عليه اللون الرمادي، فإننا نعتقد أن هناك في الضفة المقابلة رجال ونساء وطنيون يؤمنون بكرامة المواطن ويسعون قدر جهدهم في جذب المشهد نحو مناطق البياض، إلا أنه هناك أيضا من يجذبه نحو مناطق السواد ولعلهم اليوم هم الغالبون، ولقد ذكرت دائما أن التعميم سواء كان في مربعات البياض أو السواد لا يجدي ولا ينفع، بل يزيد الإطار ضبابية ويساهم في إعانة الطرف المعادي للهوية وكرامة المواطن وحقوق الإنسان. إن موقف الاعتدال الذي وصلنا إليه من خلال قراءتنا للحديث الأخير للشيخ الفاضل الدكتور سلمان العودة، والذي نحبذه ونتبناه، لا يجب أن يتمثل فقط في موقف نظري وإن كان تصحيحيا، ولكن يتنزل في حالة سلوكية وفعل عام، يتوجب هذه النظرة الثاقبة والتي تفصل ولا تعممّم، والتي تحدد موقعها ولا تعيش على الحياد، فموقف الاعتدال يتوجب تحديد الموقع وإن كان هذا الواقع متغيرا حسب تغيرات الحق والباطل. فإذا كانت السلطة خاطئة وجب على العالم وغير العالم التنبيه لذلك، وإذا كانت المعارضة مخطئة فلا تثريب من تصحيحها، فموقع الحق هو الثابت ولا يهم من حمله. وهي روح وفلسفة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحازمة، وهي التي تشكل حسب نظري ركنا أساسيا في النموذج الاجتماعي الإسلامي المنشود.. ختاما لقد وجدت بعض الصعوبة في مراجعة شيخنا الفاضل لما أحمله له من تقدير واحترام وحب، فالرجل بقامته وهامته وعلمه، وليتسع صدره أكثر وقد عودنا بذلك، لأني سوف أعود لاحقا إلى الموضوع الجوهر الذي عناه في مقاله وهو علاقة الحركة الإسلامية بالإسلام لما يستكمل الشيخ الجليل كتابته في المسألة كما وعد بذلك. بالتزامن مع موقع اللقاء www.liqaa.net 29ماي 2009 [email protected]