وزارة العدل تغلق الباب أمام توثيق الطلاق خارج المحاكم...تفاصيل    جماعة الحوثي ل"المستوطنين": الرعب الحقيقي لم يبدأ    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق الكاتب العام السابق لنقابة قوات الأمن..    عاجل/ الاحتفاظ بمربي نحل من أجل هذه التهمة..    الكأس الذهبية: المنتخب السعودي يتغلب على نظيره الهايتي    جائزة كندا الكبرى للفورمولا-1: البريطاني راسل يتوج باللقب    تراجع رقم أعمال قطاع الاتصالات إلى 325 مليون دينار في أفريل 2025    عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق الطيب راشد..    بعد ترميمه: "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميًا لأول مرة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    كيف نختار الماء المعدني المناسب؟ خبيرة تونسية تكشف التفاصيل    من هو الهولندي داني ماكيلي حكم مباراة الترجي وفلامينغو في كأس العالم للأندية؟    منذ بداية السنة: تسجيل 187 حالة تسمّم غذائي جماعي في تونس    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    243 ألف وحدة دم أُنقذت بها الأرواح... وتونس مازالت بحاجة إلى المزيد!    كهل يحول وجهة طفلة 13 سنة ويغتصبها..وهذه التفاصيل..    قافلة "الصمود": الإفراج عن العديد من المعتقلين والمفاوضات مستمرة لإطلاق سراح البقية    معرض باريس الجوي.. إغلاق مفاجئ للجناح الإسرائيلي وتغطيته بستار أسود    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    الحماية المدنية: 536 تدخلا منها 189 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    صاروخ إيراني يصيب مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب..    كأس العالم للأندية: برنامج مواجهات اليوم الإثنين 16 جوان    اليوم الإثنين موعد انطلاق الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة بنزرت الشمالية    وفد من وزارة التربية العُمانية في تونس لانتداب مدرسين ومشرفين    طقس اليوم..الحرارة تصل الى 42..    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    الاحتلال يستهدف مقرا للحرس الثوري في طهران    باكستان تتعهد بالوقوف خلف مع إيران وتدعو إلى وحدة المسلمين ضد "إسرائيل"    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    النفط يرتفع مع تصاعد المواجهة في الشرق الأوسط.. ومخاوف من إغلاق مضيق هرمز    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    إطلاق خط جوي مباشر جديد بين مولدافيا وتونس    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراوغة الجدران :نسب أديب حسين
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 06 - 2009


عرض / جميل السلحوت الفجرنيوز/ خاص
نسب أديب حسين زهرة من قرية الرّامة في الجليل الفلسطيني في بداية العشرينات من عمرها، تدرس الصيدلة في الجامعة العبرية في القدس، صدرت لها رواية( الحياة الصاخبة) عام 2005 وهي في الثامنه عشرة من عمرها، وها نحن أمام مجموعتها القصصية الأولى " مراوغة الجدران " الصادرة عن دار الهدى في كفر قرع في نيسان 2009 وتقع في 188 صفحة من الحجم المتوسط، وتحوي خمس قصص قصيرة .
وزهرتنا نسب من عائلة مصابة " بفيروس " الأدب ، فعمها الأديب والناقد المعروف نبيه القاسم ، وقريبها الشاعر الكبير سميح القاسم، وأديبتنا لا تضع اسم العائلة في آخر اسمها ، وكأنها تريد الاستقلالية الذاتية ، ولا تريد أن ينظر الآخرون الى ابداعها مقروناً باسم قريب مهما علا شأنه ، وكأني بها تردد الحكمة القائلة :
ليس الفتى من يقول كان أبي *** انما الفتى من يقول ها أنا
ومع أنني أوافقها الرأي في ذلك ، الا أنه كان لا بد من الاشارة اليه لأن الانسان يبقى ابن بيئته، ولا مناص له في الابتعاد عن هذه البيئة، وبما أنني من المؤمنين بأن الأديب يكتب جزءاً من حياته أو من سيرته الذاتية في مختلف كتاباته ، وأنني من المؤمنين بأن معرفة القارىء لحياة الكاتب سيساعده في فهم نصوصه الابداعية كان لا بُدّ من ذكر أن أديبتنا الواعده عاشت يتيمة ، حيث توفي والدها وهي طفلة صغيرة، وقد انعكس ذلك بشكل واضح في كتاباتها، مستفيدة من تجربتها في اليُتم، سواء كانت تقصد ذلك أم لم تقصده، وهذا هو الابداع المولود من رحم المعاناة .
والقارىء لقصص أديبتنا سيجد أنها روائية أكثر منها قاصة، فالنفس الروائي يطغى على قصصها بشكل لافت، من حيث البناء القصصي أو الزمان الذي تدور فيه القصة، حيث أن بعض قصصها تدور على مدار عدة سنوات ، وفي عدة أمكنة ، كما أن طول بعض قصصها يعطيها بعداً روائياً ، فقصة " عاصفة في شراع " تمتد في أربع وثمانين صفحة، في حين قصة"مراوغة الجدران" تمتد في ست وسبعين صفحة، وتطرقها الى الأمور الصغيرة والعابرة ودقة التفاصيل، والخوض في المشاعر وأحاسيس أبطال قصصها كلها أمور من مقومات الرواية، ويبدو أن انشغال أديبتنا في دراسة الصيدلة، وضيق وقتها الذي يحاصرها كي تتفرغ لدراستها قد دفعها الى كتابة القصة، ومع ذلك فانني متأكد أن مستقبلها الابداعي سيكون مع الرواية لا مع القصة،وان كانت ستبدع في كليهما .
وفي مجموعة ( مراوغة الجدران ) القصصية التي نحن بصددها فإننا سنجد أن الكاتبة غرفت مضامينها من بحر الواقع الذي تعيشه هي وشعبها وأبناء أمتها، وهذا لا يعني مطلقاً أنها كانت ناقلة أمينة لهذا الواقع، وإلا لما كتبت أدباً ، لكنها استفادت من أحداث الواقع ، وأشغلت خيالها ولغتها الجميلين وأبدعت لنا قصصاً رفيعاً .
وكاتبتنا تفتتح مجموعتها بالاهداء : " الى من علمني التراكض بين الظل والنور وكيف أكون الى النور أقرب .. اليك .. " فمن هو معلمها هذا؟ وبغض النظر عمّن يكون الا أنه كان قدوة لها وله دور في حياتها، وقد فهمت من الاهداء الذي يحتمل عدة تفسيرات أن هذا المخاطب القدوة قد يكون من دفعها الى تحقيق ذاتها من خلال شدّه على يديها وتشجيعه لها في الكتابة الأدبية أو في التحصيل العلمي، أو في كليهما معاً، وهذا يعبر عن طموح الكاتبة أن لا تبقى في الظل، وأنها تطمح في النجومية، ونحن هنا لا يسعنا إلا أن نتمنى لها النجومية في عالم الابداع الأدبي وفي علم الصيدلة .
قصة عاصفة في شراع :
تتحدث القصة عن طفلين ماتت أمهما وكان كبيرهما وديع في السابعة من عمره وشقيقه مهند في الرابعة، واضطر والدهما للزواج من أخرى لأنه لم يعد في البيت من يعتني بالطفلين بعد زواج عمتهما، غير أن زوجة الأب هذه لم ترحم طفولتهما، كما لم ترحم فقدانهما لوالدتهما (راحت تزداد قسوة وصرامة، وتقوم بضربه وسحبه في دورة المياة لأتفه الأسباب.)ص 14 ولم يكن الوالد يعلم شيئاً من سوء معاملة زوجته لأبنائه، الى أن جاء يوم ماطر أجبرت فيه وديع على الخروج من البيت لاحضار أخشاب للمدفأة، وعندما لم يستطع حمل سوى قطعة واحدة لم تسمح له بدخول البيت وطردته ليحضر المزيد من الخشب، فهام على وجهه الى أن التقطه أحد أصدقاء أبيه وهو في وضع صعب،واصطحبه معه الى البيت، وعندما عاد والده الى البيت وسأل عنه، أجابته:(أنا لم أطلب منه هذا، بل هو أصر على الخروج) ص 17 وعندما اتصل الصديق بالوالد ليخبره أن ابنه عنده، وعرف من ابنه الحقيقة عاد الى البيت(صمت لحظة ليستجمع أنفاسه ثم صرخ بها: أنت طالق، طالق ،طالق) ص 21 وعاش الأطفال في كنف والدهما، وكانت عمتهما المتزوجة تزورهما مرة في الشهر، تنظف البيت وتغسل الملابس وتطبخ لهما، غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، حيث دخل والدهما السجن(بعد أن تم القاء القبض عليه بسبب ديون من خلال أعماله التجارية) وحكم عليه بالسجن عشرين شهراً ، ولم يحتمل زوج عمتهما مكوثهما في بيته أكثر من أسبوعين، فوضعهما دون ارادة زوجته في مؤسسة تعنى بالأطفال في مثل هكذا أوضاع، والتحقا بمدرسة القرية وكانا ينامان ويأكلان في مؤسسة رعاية الأطفال، وهناك كان يرفض أن يعامل بشفقة أو كأنه مسكين، وهناك شعر بمسؤولية كبيرة تجاه أخيه(انه الآن وحيد وتقع عليه مسؤولية الاهتمام بأخيه) ص37 وفي المدرسة وجد رعاية خاصة من المعلمة نور ووجد فيها الأمّ البديلة، وعندما عاد الى البيت في احدى الاجازات زار قبر أمّه، وهبط على القبر باكياً وصارخاً(آهٍ يا أمّي الحبيبة، ليتك تعودين) ص43 وفي عيد الأمّ أحضر زهرة برية وقدمها الى معلمته نور(وقال: كل عام وأنتِ بخير .. يا أمّي) وهنا رأى ينابيع من الحنان في عينيها ........ أخذت الزهرة وضعت اليد الأخرى على جبينه وقالت: شكرا يا بني) ص 59 وبعد الدوام المدرسي جمع باقة من الزهور البرية وركض تحت المطر باتجاه قبر أمّه، وعندما وقع بصره على القبر(صرخ بكل ما تبقى من قوة: آه يا أمّي الحبيبة .. وسقط) ص 61 وهنا تنتهي القصة .. ولا أفهم هنا معنى السقوط ، هل سقط نتيجة التعب والارهاق والألم؟ أم سقط شوقاً الى والدته وحزناً عليها؟ أم سقط مغشياً عليه أم سقط ميتاً؟ أم ماذا؟ ويلاحظ أن القصة انتهت قبل خروج الوالد من السجن ، وقبل نهاية العام الدراسي ، وقبل أن تستقر أوضاع الطفلين ، أيّ أن هذه النهاية مفتوحة وعلى كل قارىء أن يتصورها كيفما يشاء، فالكاتبة كتبت صفحات من حياة يتيم ، وانعكاس اليُتم على نفسية الطفل، وعذاباته الناتجة عن فراق والدته، وشوقه الى هذه الراحلة ، وعدم تقبل زوجة الأب لأبناء زوجها وكذلك عدم تقبلهم لها، وفي القصة دعوة غير مباشرة للآخرين بالعناية بالأطفال الأيتام بوعي وكواجب، وليس من باب الشفقة، لأن الشفقة فيها مسّ بالمشاعر ولا يقبلها اليتيم الطفل اليتيم.
أنين عند الشاطىء :
هذه القصة تشكل حالة انسانية انتقتها أديبتنا من أرض الواقع، وتكاد تكون موجودة في كل تجمع سكاني في بلادنا، وهي ترك أبناء الأسرة– وغالباً ما يكون الأخ الأكبر– للعمل قبل أن ينهي دراسته للمساعدة في تعليم بقية أشقائه، وعندما يتعلمون ويعلمون ويتبوأون مناصب رفيعة يديرون ظهر المجن للأخ الذي ساعدهم وحتى لوالديهم .
وقد اختارت أديبتنا لقصتها العم أبا جابر الذي انتهى به المطاف بائعاً للترمس والذرة على شاطىء عكا كي يعيل أسرته، بعد أن أفنى حياته يكدح في سبيل تعليم اخوته، وأحدهم " جاسر " أصبح طبيباً، ولم يقدم المساعدة المطلوبة لأخيه الذي علمه، خصوصاً بعدما(سقط أثناء عمله من على ذلك العلو الشاهق، استغرب كل من علم بالأمر كيف نجا وبقي على قيد الحياة، وحمد كل من أحبه ربه أن الأمر انقضى على كسور في رجليه وذراعيه وضلعين فقط) ص 72 ومع ذلك بقي يحمل هموم وأعباء تعليم شقيقته التي تحتاج الى عامين حتى تنهي تعليمها الجامعي، وتعليم أخيه الذي يقف على أبواب التعليم الجامعي. ورغم معارضته ذهبت والدته الى عيادة ابنها الدكتور جاسر لطلب المساعدة،وعندما عادت قالت بحرقة وألم:( لما دخلت غرفة الانتظار في عيادته، كان في مريض واحد برّه، ولما فات قلت للسكرتيرة اني أمّه وبدّي أشوفه، فاتت وأجت جايبيتلي عشرين ليرة .. وقالت إنو ما بقدر يشوفني لأنه مشغول كثير ما معه إسّا غير هذا.)
(وتصل العقدة ذروتها عندما توجه أبو جابر لعيادة أخيه لاستدانة بعض النقود لاصلاح عربته المعطوبة التي يبيع عليها الترمس والذرة، فما كان من أخيه الطبيب إلا أن أنكره، وسمعه يقول للموظفة في عيادته عندما سألته اذا كان هذا الشخص أخاه فعلاً:(كلا ليس لديّ وقت للمتسكعين) ص 75 عندها صرخ به أبو جابر (وصلت بك الحقارة أنك تخجل مني .. وتقول عني متسكع، لولاي ما حلمت أنك توصل لهذا المركز) ص 75 فرد عليه الأخ الطبيب: أنا لم أتعلم من تعبك أو من نقودك .. أنا تعلمت بحصتي من دكان أبي .. ولا تتظاهر بأنك مسكين .. فالله أعلم أين ذهبت بباقي ثمن الدكان.) وعندما تزوج أبو جابر في سن متأخرة في منتصف الثلاثيناتمن عمره، أنجب ابنه البكر وهو في الحادية والأربعين من عمره، وبقي يبيع الترمس والذرة في سبيل اعالة أطفاله، بينما عاش اخوته سعداء.
وتنتهي القصة بأن أبو جابر وابنه غابا وصخب موج البحر يعلو ليردد " تيرس " " ذرة " .. ترمس ص 85
وفي تقديري أن صخب البحر هنا هو صخب الحياة حيث يضيع فيها الانسان .
مرّ من هنا :
وهذه القصة مضمونها ينبض بالانسانية أيضاً، فبطلها حارس مدرسة، ترك المدرسة قبل أن ينهي تعلميه، وعاد يعمل فيها حارساً، تدور به الذكريات بعد أكثر من أربعين عاما، فيتذكر كيف كانت قريته، وكيف أصبحت وكيف تطور البناء المدرسي من ثماني غرف في زمانه الى أكثر من خمسة وثلاثين صفاً دراسياً الآن ، وبينما هو في هذه الذكريات قال لنفسه(حقاً ان شيئاً لا يبقى على حاله .. وكل شيء في تغير مستمر .. الا أنا بقيت أكثر من أربعين عاماً، وأنا في نفس المكان .. لم أتركه) ص 90
واذا كانت صورة المدرسة تتحول الى ذكرى عند الطلبة بعد تخرجهم ، ويدخلون مرحلة حياتية جديدة فإن (حياة العم خليل في حالة تجمد بمساحة مختصرة) ص 93 لأنه ترك المدرسة قبل التخرج، وعاد ليعمل بها ، وبالتالي ضاع عمره في المدرسة وخشي أن لا يتذكره أحد. الى أن دبّ به المرض وأقعده الفراش، وهنا يعلم أنه ما زال حيًا في الذاكرة عندما يأتيه الطلاب ليعودوه.
مراوغة الجدران :
بداية هذه ليست قصة طويلة، انها رواية تقع في 84 صفحة من الحجم المتوسط يمتد زمانها في أكثر من سبعين عاما، وتدور أحداثها في أماكن كثيرة منها الرّامة -قرية البطل الواقعة في الجليل الفلسطيني – حيفا، القدس، بريطانيا، لبنان، فيها وصف للأحداث الصغيرة، وفيها عدة أحداث لها علاقة بهموم الوطن، ويبدو أن قناعة الكاتبة الذاتية بأنها تكتب قصة لا رواية، قد أرّقتها من طول (قصتها)فأخذت تختصر نهاياتها التي جاءت على شكل تقرير اخباري .
وبطل هذه الرواية وائل درزي عربي من قرية الرّامة ، تطلق والداه وهو طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره، وتزوج كل منهما من آخر، بينما عاش هو أكثر أيامه في كنف جديه لأبيه، وفي نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، لجأت والدته وزوجها وأبناؤهما منه الى لبنان، ونجا هو ووالده من موت محقق، ليبقى شاهداً على ويلات النكبة، وما حلّ بشعبه الفلسطيني من قتل وتشريد، درس في دار المعلمين في يافا وعاد ليعمل مدرساً في قريته ، اختلف مع أبناء عمّه على بيت أوصى به له جدّه، فسافر الى لندن في العام 1957، وهناك تعرف على فنان مقدسي، وعمل معه في المسرح، وفي تلك الفترة زارت لندن نجوى ابنة الفنان المقدسي، فأحبت وائل وأحبها، ووقف اختلاف الدين بينهما جداراً عالياً حال دون زواجهما، لكنه لم يمنع حبهما الجارف، فالديانة الدرزية تنبذ وتحرم وتقاطع من يتزوج من أبنائها من ديانة أخرى، أو يتحول الى ديانة أخرى، كما أنها لا تقبل من يريد أن يعتنقها، وفي لندن تعرف على لبناني ساعده على التواصل مع والدته من خلال الرسائل، حتى عندما عاد الى وطنه بقي صديقه اللبناني يستقبل الرسائل من وائل ووالدته ويرسلها اليهما، وعندما وقعت حرب حزيران 1967 العدوانية (توحدت ) فلسطين تحت الاحتلال، وعلى غير ما يرغب به الفلسطينيون وباقي العرب، فزار وائل القدس والتقى بحبيبته التي لم تتزوج بعد، ثم ما لبثت أن تزوجت من ممثل شاب عمل مع والدها، كما أن وائل تزوج هو الآخر من فتاة درزية، وأنجب كلاهما وشب أبناؤهما، وتدور الأحداث وتقوم اسرائيل في العام 1982 باجتياح لبنان، وتواصل احتلالها لجنوبه حتى تحريره في أيار 2000 كما يعلم الجميع، ويقوم وائل بزيارة والدته واخوانه في جنوب لبنان، وتتواصل الأحداث بعد وفاة جدّيه ووالده، وزوجته، ووالد نجوى، ونجوى، ووائل نفسه .
أهداف الرواية :
يتضح من الرواية أن الكاتبة تتحلى بانتماء قومي وحسّ وطني لا تشوبهما أيّة شائبة فهي فلسطينية عربية من دروز فلسطين، ويؤرقها فرض الخدمة العسكرية في الجيش الاسرائيلي على أبناء الطائفة الدرزية، وما صاحب ذلك من اساءة فهم موقف الدروز الفلسطينيين، والتي ساهم فيها الاعلام الاسرائيلي بشكل كبير، خصوصاً في تركيزه على (وحدة الدم بين الدروز واليهود) ومحاولته الايحاء بأن الدروز قومية منفصلة لا علاقة لها بالعروبة. وان انطلت هذه الأكذوبة على البعض، فإنها لم تنطل على الكاتبة وعلى الكثيرين من الدروز الذين يرفضون الخدمة في الجيش الاسرائيلي ويسجنون جرّاء ذلك .
ففي نكبة العام 1948 تعرض الدروز الفلسطينيون الى القتل والتشريد والويلات كما هو حال بقية شعبهم، فلجوء والدة وائل وزوجها الثاني وأبنائهما الى لبنان ترك غصة ومرارة في قلب وائل، ولم ينقذه من القتل سوى طفولته حيث لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة في حينه، كما أن قوات الأمم المتحدة هي التي أنقذت والده وآخرين من القتل عندما اقتادتهم القوات الاسرائيلية لقتلهم خارج القرية- كما كانت تفعل مع بقية مواطني القرى الفلسطينية- كما أن أراضي الفلسطينيين الدروز صودرت هي الأخرى، ففي الحديث عن وائل عندما سافر عام 1952 الى يافا للدراسة في دار المعلمين، تتحدث عن جدّه فتقول:(والرجل العجوز الذي تركه كان قد هرم أكثر خاصة مع قرار مصادرة أرض كان يملكها في جبل الكمانة، وهو الجبل المقابل للقرية ..... وفي النهاية خسر الأرض كلها التي جاوزت خمسة وثلاثين دونماً) . ص 131 وتوفيت الجدة وفرض التجنيد الاجباري على الدروز(كل هذا ساهم في رحيل جدّه) ص 131 وكانت وصية الجدّ:(أرضك ما تتركها .. أرضك عرضك وأغمض عينيه.) ص131 والذي يعرف واقع الحياة في فلسطين لا يحتاج الى الكثير من الذكاء ليرى أن أوضاع الدروز فيها لا تختلف عن بقية أوضاع الفلسطينيين من حيث التمييز بل هي أكثر سوءاً حيث يتعرضون أيضاً الى استلاب قومي .
وقد كان واضحاً في الرواية أيضاً أن الدروز طائفة منغلقة على نفسها دينيا لا يسمحون بالتزاوج ما بينهم وبين أيّ ديانة أخرى، كما أنهم لا يقبلون أيّ شخص من ديانات أخرى اذا حاول اعتناق ديانتهم .
الجدران :
كانت الكاتبة ذكية جداً في اختيارها(مراوغة الجدران) اسماً لروايتها هذه وليحمل اسم مجموعتها القصصية، فالجدران جدران حقيقية ووهمية، فهناك جدران الحدود التي فرقت المرء عن والديه وأمّه وبنيه واخوته، وهناك جدران الديانات التي تمنع التزاوج خارج اطار الدين الواحد، وهناك الجدران الاجتماعية التي تحاصر الفرد،وهناك جدران التوسع الاحتلالي،وجدران الحروب والكراهية.
اللغة والأسلوب :
تمتلك أديبتنا لغة أدبية جميلة، لديها تشبيهات واستعارات لافتة، لغتها سلسة لا تعقيد فيها، وأسلوبها ينساب بعذوبة يطغى عليه عنصر التشويق .
يبقى أن نقول أننا أمام أديبة في بداية شبابها، وأمامها مستقبل واعد،ويسجل لصالحها أن رواية مراوغة الجدران هي العمل الأدبي الأول– حسب علمي- الذي يتكلم عن أوضاع الدروز الفلسطينيين، وعن انتمائم القومي والوطني .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.