المؤرخ عبد الجليل التميمي يدعو إلى وضع رؤية جديدة للتعليم    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    كريستيانو رونالدو: أنا سعودي...    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    اخبار كرة اليد .. قرعة ال«كان» يوم 14 نوفمبر    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    أزمة جديدة تهزّ المشهد الثقافي ... اتحاد الناشرين التونسيين يقاطع معرض الكتاب    سماح مفتاح: "المتشمت في المريض أو المسجون أو المتوفي مسكين لأن روحه غير سليمة"    عاجل/ قيمة ميزانية وزارة الخارجية لسنة 2026    المنتخب التونسي: سيبستيان توناكتي يتخلف عن التربص لاسباب صحية    اشتكتها هيئة السجون ... محاكمة سنية الدهماني .. تتواصل    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    بنزرت الجنوبية ... 5 جثث آدمية لفظتها الأمواج في عدد من الشواطئ    3 آلاف قضية    مع الشروق : زوال الاحتلال واحترام السيادة... شرطان لتسليم السلاح !    وزير الدفاع الوطني: الوضع الأمني مستقر نسبياً مع تحسن ملموس في ظل واقع جيوسياسي معقد    الدعارة في "إسرائيل" تتفشى على الإنترنت    عاجل/ سياسي جديد يدخل في إضراب جوع    عاجل/ فنزويلا تقرّر الرد على "الإمبريالية" الامريكية    صفعة عمرو دياب لشاب مصري تعود للواجهة من جديد    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    الفواكة الجافة : النيّة ولا المحمّصة ؟ شوف شنوّة اللي ينفع صحتك أكثر    11 نوفمبر: العالم يحتفل ب''يوم السناجل''    عاجل: تونس وموريتانيا – 14 ألف تذكرة حاضرة ....كل ما تحب تعرفوا على الماتش!    كونكت: تنظيم جديد لمحمّصي القهوة في تونس    تونس تتمكن من استقطاب استثمارات أجنبية بأكثر من 2588 مليون دينار إلى أواخر سبتمبر 2025    عاجل-شارل نيكول: إجراء أول عملية جراحية روبوتية في تونس على مستوى الجهاز الهضمي    الأخطر منذ بدء الحرب/ شهادات مزلزلة ومروعة لاغتصاب وتعذيب جنسي لأسيرات وأسرى فلسطينيين على يد الاحتلال..    علماء يتوصلون لحل لغز قد يطيل عمر البشر لمئات السنين..    من وسط سبيطار فرحات حشاد: امرأة تتعرض لعملية احتيال غريبة..التفاصيل    عاجل: اقتراح برلماني جديد..السجناء بين 20 و30 سنة قد يؤدون الخدمة العسكرية..شنيا الحكاية؟    رسميا: إستبعاد لامين يامال من منتخب إسبانيا    عاجل: منخفض جوي ''ناضج'' في هذه البلاد العربية    حجم التهرب الضريبي بلغ 1800 م د في صناعة وتجارة الخمور بتونس و1700 م د في التجارة الالكترونية    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل : تحرك أمني بعد تلاوة آيات قرآنية عن فرعون بالمتحف الكبير بمصر    QNB تونس يفتتح أول فرع أوائل QNB في صفاقس    عشرات الضحايا في تفجير يضرب قرب مجمع المحاكم في إسلام آباد    سليانة: نشر مابين 2000 و3000 دعسوقة مكسيكية لمكافحة الحشرة القرمزية    عاجل: معهد صالح عزيز يعيد تشغيل جهاز الليزر بعد خمس سنوات    غدوة الأربعاء: شوف مباريات الجولة 13 من بطولة النخبة في كورة اليد!    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    النادي الإفريقي: محسن الطرابلسي وفوزي البنزرتي يواصلان المشوار    بعد أكثر من 12 عاما من إغلاقها.. السفارة السورية تعود إلى العمل بواشنطن    المنتخب التونسي لكرة السلة يتحول الى تركيا لاجراء تربص باسبوعين منقوصا من زياد الشنوفي وواصف المثناني بداعي الاصابة    عاجل: حبس الفنان المصري سعد الصغير وآخرين..وهذه التفاصيل    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    النقابة التونسية لأطباء القطاع الخاص تنظم يومي 13 و14 ديسمبر القادم فعاليات الدورة 19 لأيام الطب الخاص بالمهدية    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضد المكان: نحو خطاب فلسفي مقاوم :الهادي حامد


تونس
لم يترك لي دق طبول الحرب على الحرية في فصلها الأخير مجالا للهو. فوجدتني ضمنها ومن موقع المتفرج الحائر و المشدوه إزاء ما يمكن أن يفعله الغباء بالتاريخ. وبعد أن قتلت الكثير من أعداء الإنسان في نومي الملتهب و يقظتي الهائمة، وقتلت مرات لا تحصى، أنسحب بحثا عن مكان أنسى فيه المكان..
المكان يجثم على الكيان.يخنق أنفاسه. يلتف حوله و ضمنه و ينتصب أمامه دائما رافعا شوكة الموت. ينتجه أشكالا متتالية منبسطة و معبأة باللحم. الانسان يظل دائما شبيه ذاته مطابقا لصورته وماضيه مستقبله. رحلته هروب بطيئ يائس من المكان و إليه. يتراكم في الموقع نفسه دون أمل في هوية جديدة خارجه و اللحظة. الفلسفة تتحسس هذا الضيق و تستكشف ميتا-المكان/جغرافيا لامكان. إنها لا تتحرك في فضاء الممكن و المرئي و المتوقع كما ايديولوجيا حب البقاء الغبية ، بل تلقي بنفسها في المجهول، وهذا أمكان إبداعي في حد ذاته. حينما تحاصر المكان تغوص في جذور ثورة الإنسان المعاصر/ الضحية و تضيء مساحات الفعل الضدي المقاوم.
حين لاحظ سقراط سوء فهم الإغريق للآلهة و الحياة و المعرفة وسوء فهمهم لأنفسهم و قدر التدافع المحموم داخل الكهف الضيق و المظلم، أنكر نفسه و تطلع الى الخارج ومارس عقيدته بتصميم نموذجي أضحى مرجعا و عبرة. إنه أول من مارس طقوس التقرب من لامكان ( غبر معرف لأنه غير معروف ) بعد النبي نوح على ظهر سفينته. ما يميزه أنه تطلع إلى مكان غير تقليدي ودون مستطاع مداركنا حينما لا نعيش الحالة ولا يتوافر لدينا الحافز نفسه. سقراط لعن الإغريق ومكانهم خصوصا حينما أصبح على مسافة منهم- وهو ضمنهم- ولم تعد تنفع معه أذاياهم بحيث إن مفعول الأذية العقابي يختلف بقدر اختلاف الرؤية بين الضحية و الجلاد. المكان ليس بيت سقراط، والدته، صحبه، شوارع أثينا. وإنما الملء الأسود الذي يطفح به هذا الإطار و يرتبط بهذه الرموز. إنه كيفية وجود غير عادلة وفقا لمقاييس الفيلسوف أو أنها إختمرت بالخطأ و الزيف و الوهم و الانحراف بحيث لا تحيل الا الى أفق استفحالها بينما اللامكان مشروع أو عقيدة و رؤية غير ذات تضاريس واضحة يكتسب مشروعيته من الحاجة إلى محاربة المكان و التحرر منه. إغرائيته تنبع من حجم الأذى الذي يلحقنا من المكان و قبحه. علينا أن نخرج إليه ونخالف القطيع في اتجاه سيره علنا نفوز بعبق الحيرة و الإرباك و تنطع الخيال بدل غبار الحوافر وما تفرزه البطون.
انه حيثما حملتنا الأسئلة و أيما كان قدر القلق الذي ينتابنا و الأفكار التي نتحسس تدافعها في كل لحظة من لحظات وجودنا، لاشك أن المكان بمضامينه ورموزه المتنوعة و المعقدة وفي ضوء قدريته المزعومة يشدنا إليه فنعود غافلين أو يائسين طمعا في هداياه. يسوقنا إلى أهداف استهلاكية وخلالها أو بعدها يقذفنا بالجمرات. الناس في لحظة وجودية قاتمة لا يكفون عن طلب امتلاك سيارة أو بيت أو وظيفة أو لباس أنيق..وهنا ينعم الشيطان الفولاذي المتوحش باتساع مجاله و فرض مشهد القتل الذي يتلذذ به و يرغمنا على المشاركة الفاعلة وفق آلية الصمت.إن عالمنا ، مملكة هذا الشيطان ، المكان الذي يطبق على الأنفاس ، مؤسسة و بنية. الأطراف ( المخالب) متصلة بالمركز عقيديا و تعمم عالميا خدعه ، شعاراته الزائفة ، استراتيجياته الإفنائية ، فينال كل إنسان نصيبه من الموت.ماذا نفعل بحياة كحياتنا و بعالم كعالمنا ؟؟ ما مبرر تصالحنا مع المكان وهو يضيق بنا و يتجاهل فطرة الحرية التي لدينا ؟ الا تبدو الآلهة قد حكمت علينا مسبقا باستحقاق العقاب و سارعت إلى تنفيذه مخالفة الوعد بالعدل ؟.هل يعد تحسس السبيل الىاللامكان تمردا عليها و افتكاك المبادرة منها؟..أيها الناس : هل ترون فحلا في الإستبداد يذرف دموعه على العدالة الضائعة ؟هل ترون جلادا يسعى لان يكون رحيما شفوقا؟ هل ترون مستعمرا يكف عن توجيه حرابه إلى البطون حيثما صادفها وان جثت الأجساد تقبل حديده؟ هل ترون إعلاما يسمي الأشياء بأسمائها أو يفسح المجال للأسماء وان اختلفت لتلاقي أشياءها؟ الاترون كل شعوب العالم علوجا و نعاجا تساق على دفعات وفي أوقات متزامنة إلى مسالخ المستبد و الجلاد والمستعمر و الإعلامي اللقيط؟؟..لايبدو السلاح النووي الإمكان الوحيد لإنهاء الحياة. الحياة تنتهي حينما يطرد منها الروح. حينما تكف عن أن تكون قيمة مقدسة في حد ذاتها ، ويكف الإنسان عن أن يكون قيمة مقدسة في حد ذاته. إني ألعن الحضارة التي خولت للجندي الأمريكي ثقب جمجمة شيخ برصاصة حاقدة في احد مساجد الفلوجة العراقية ،والامر بالنسبة إليه كمن يرمي علبة فارغة على قارعة الطريق.أي حرية وأي تحرير وأي عدالة؟..أي رسالة يمكن أن يشكر عليها هذا الغازي؟هذا القاتل ينتسب إليكم أيها البشر..له بكم صلة قرابة وتجمع بينكم الكثير من المشتركات..الإنسان أفسد العالم بغبائه و تجرده من القيم، أفقد الوجود عطره وحوله إلى كومة من الفضلات تنساب منها قوافل الحشرات وأسراب البعوض.
المكان حافل بالخطأ الخطيئة ، يفتقر إلى الروح ، منفتح للطابع الإنسكابي للموت الرخيص و المذل ولانكسار الإرادة. الشر في مركزه ويتدفق نحو الأطراف التي تعيد إنتاجه عبر المركز. ولما كانت الفلسفة تتابع هذه الحركية المدمرة وهذه الصفحة المؤلمة من تاريخ الإنسانية ، فانه لا يمكنها التأفف عن بذاءة الرد، لايمكن لخطاب ينتسب إلى سقراط أن يتحول إلى رافد من روافد السائد. هذا النص رسالة إلى أنصار الفلسفة كي يقطعوا مع الصمت و يحسنوا التصويب نحو الوحوش الفولاذية المنتشرة هنا وهناك، ويكفوا عن اللهاث خلف الألقاب و الأمجاد المزيفة و الزائفة.ان تجاهل ما يحصل للإنسان ولقيم الحياة مشاركة في الجريمة.انه شذوذ و تواطؤ لايمكن تبريرهما. تجاهل الفلسفة للسياسي قفز عن الواقع وهو خيار لافلسفي، فالعصر هو الذي ينتخب لها قضاياها و يحدد مجالها وحقل فاعليتها وهي تواجه أزماته و ظواهره الأكثر بروزا على قاعدة ما تعرف به من نزعة الفضح و التعرية وما تحتكم اليه من مبادئ الاختلاف، الحرية و الكرامة الإنسانية.قدر الفلسفة اليوم إن تكون في قلب المعركة ضد رموز المكان وما يطفح به من سياسات.من لا يستجيب لقدرها يحرم من شرف صحبتها.
نحن أمام معركة مصيرية أو في خضمها مع المكان الذي يعادينا و يلغينا و يؤثث بنا مسرحه، بل ويقتلنا مشهديا وبشكل احتفالي بوسائل فيها الكثير من الفن و السحر،مع سياساته و استراتيجياته التي يحملها حيث امتداداته وينفذها على حساب إنسانيتنا وضدها، ومع ما يبرر ذلك أو يصاحبه من إخفاء و تمويه، من تجميل للقبيح و تقبيح للجميل.معركة مع عدو غير مرئي وغير مشخص يكون خلالها أقوى على الحضور من قوى المقاومة وأكثر جاهزية منها، لذلك فهي صعبة وقد تأخذ من الزمن أحقابا. لكن التحولات التاريخية الحاسمة و الكبرى لاتأخذ شكل الوثبة إلا في فصلها الأخير الذي يحجب عنا حجم الجهد الإنساني الذي بذل لأجلها. إن تحسس السبيل إلى اللامكان الذي يقترن و يتزامن مع الثورة على المكان إعلان عن مولد تاريخ جديد أو هو تشبيب لصورة الحياة التي تهرمت. ما يبرر هذا الإمكان الفلسفي الوجودي هو نفاذ المعين الايتيقي للمكان: قوافل المعوقين واليتامى والمتسولين حيثما نظرت في خارطة العالم،المعتقلات، التعذيب بالمثقب الكهربائي، جثث الناس المكدسة في المزابل و أطراف المدن..ألا يبيح هذا المشهد تحول الكلمة إلى رصاصة و المفكر " الأنيق " إلى " إرهابي " ؟؟يجب على الفلسفة أن تجمع بين حكمة التعقل و حكمة الغضب، وان تغوص في عقول الأصدقاء و أحشاء الأعداء.....
إن الجغرافيا أو سياسة الأحلاف لم تعد تحول بيننا و الأذى، فكل من يدوس الكرامة الإنسانية وان كان في الأقاصي إنما يدوس كرامتي وهو عدو للحياة. هذا الوازع الإنساني الرفيع واللاايديولوجي هو الذي حفز البشر في كل دول العالم على التظاهر ضد غزو العراق ولا زالوا ينتظمون في اطر حركية- في حمى الاحتفال باوباما-منددين بفساد العالم وسقوط القيم رغم ما يبديه العرب من صمت وما يرمز إليه صمتهم من حياد وان كان قهريا. الثقافة بمختلف أشكالها يجب أن تشارك في صنع هذا المنعطف التاريخي الحاسم. المعركة الثقافية يجب أن تتسع لخطابات الضد. يجب اختبار قدرة الكلمة على تطهير العالم..لانعتقد أن الأدب بمختلف أشكاله في حجم هذا الرهان، فهو بطيء الخطى، غير ناري، خطابه خاضع للضوابط الجمالية ومدى فاعليته لا يبلغ حدود المكان مهما كان حالما. انه اقل اقتدارا من الأسطورة التي يعود إليها شرف أول مغازلة لللامكان رغم كون قضيتها ضعيفة إنسانيا وان كانت رمزيتها المعرفية قوية. إن قيد الأدب هو الجمالية وهي اشتراطات تهمش في كثير من الأحيان جدة الموضوع. لا يمكنه التأهل للعب دور ايجابي في هذا الصراع إلا إذا فاض المضمون على الشكل وهيمن البعد الإنساني و الوجودي على البعد الجمالي. حينما يكون الأديب محاربا تأسر حالته الإبداعية كيانه وتخرج عن حدود النص فيعيش القضية خارج الكتابة إبداعيا أيضا. إن التعاطف مع قضية الإنسان المعاصر خلفية وإطار ورافد من روافد إبداعية النص، لكن هذا النص يلامسها في مستواها الجزئي أو المحلي أو القطاعي فيظل ضمن مستوى الواقع وهنا لايرقى الإبداع الأدبي إلى كونيتها. إن تجنب الجمالية كغرض هو ما يمكن الأدب من ولوج ميدان الفلسفة وهو مانجح فيه الأديب والفيلسوف ألبير كامو. إن الفنون على اختلاف أشكالها مطالبة بالكف عن الترويج للمصالحة مع المكان من خلال شعار " القفز على الجروح والالام " ،الكف عن إعادة صياغته جماليا حتى لاتقع في تبرير شروره المتصلة به بنيويا. إن تقنية السخرية التي يمارسها الفن بأسلوبه الخاص دافع إلى إحباط تدافع المكان نحو المزيد من العداء و الإلغاء لنا وطاقة تسند اندفاع قوى المقاومة، وهي ضمن آليات الالتزام الفني بقضية الإنسان، آليات الجمع بين الجمال و القضية.هذه الظاهرة تذكرنا برسام عربي واجه الوحش منفردا فابتلعه المكان وهو ناجي العلي.هذا الفنان المقاوم الذي لا تحتفل به ثقافة المقاومة إلا ماندر قادته القضية إلى الفن.إن الاعتراض المركزي المفترض على مضمون مانكتب واتجاهه هو أن اهتمامنا يتعلق بالشأن السياسي وهو موضوع السياسة وليس أي خطاب آخر. ونرد وفق الترتيب التالي:
** أولا: إن الفيلسوف لا يفارق المدينة وان ربض على تخومها وبالتالي يصيبه مايصيب الناس أو يصيبه مضاعفا فيخترق وعيه وهنا يتشكل " الحدث " السياسي ضمن رؤية فلسفية لاتتوفر على البناء الهندسي المميز للإيديولوجيات، باحثة عن المعنى وليس عن الحقيقة ومحكومة بإرادة فهم وتأويل انسانوي.
**ثانيا: إن الفلسفة ليست خطابا تخصصيا من حيث موضوعها وان كانت كذلك من حيث آلياتها وأسلوبها وزاوية نظرها،ونذكر هنا مراجع فلسفية ذات ثقل مثل أفلاطون، أرسطو،الفارابي، فلاسفة الأنوار وغيرهم كثير.فقد فكروا في الشأن السياسي خارج السياسي وكانت لأطروحاتهم علاقة جد وطيدة بمعطيات اللحظة ماكان في مستطاعهم تجاهلها.
**ثالثا: إن الفلسفة خطابا حكما وليس تابعا، لاترتدي غير ثوبها.من منظورها يبدو خطاب السياسة غير ايتيقي، محض تقني وهو لايدرك السياق التاريخي والأبعاد الكونية لظواهره وبالتالي لرهاناته، فيقع في صنمية الحقيقة ويهمش المعنى.هذا الخطاب لايلتزم بقضايا الإنسان وبكليته، إنما بمصالح فئة، وهي مصالح " عقلية " ، " ثابتة " و "مقدسة " كما العقائد. رهانه على الإنسان ينطوي على مفارقة إذ يهمش في مستوى الواقع إرادته، ينمط أفعاله وردود أفعاله ويدمجها ماقبليا ضمن شبكة من التعليمات أو التوجيهات فتفرغه من اختلافه الخاص. يحوله إلى آلة تنفيذية بدل ذات فاعلة ومسؤولة. إن هذا الخطاب احد عناوين المشهد الذي نحاربه.
**رابعا :قضيتنا الإنسان ونحن نعنى في هذا النص كما في نصوص سابقة بأزمته الراهنة وهذا حقل فلسفي بامتياز. الأزمة مركبة ومعقدة، ذات أبعاد وتتمظهر في أشكال متعددة: إنها أزمة روح حيث أفرغت الحياة من مضمونها الجماليوغادرت قيمها عالمنا. أزمة فكر حيث بلغ الاتحاد ذروته بين لوغوس المعرفة ولوغوس السلطة،فأصبحت آليات الرقابة ذاتها إنتاجا معرفيا.أزمة وجودية تتمثل في تقطع الكيان ومظاهر القطائع خارجه فأصبح الإحساس بالضيق و اللامعنى مشتركا إنسانيا راهنا. أزمة سياسية تتمثل في إعادة صياغة العلاقات الدولية وفق مبدأ القوة وشرعنة نزوة الهيمنة. نشير هنا إلى التأسيس الديني لأطروحة " الفوضى الخلاقة " حيث تزعم الجهة التي تتبناها تنظيرا وممارسة أنها تتلقى الوحي من السماء..هذه العناصر، مضافة إليها أزمة التاريخ وأزمة البدائل مترابطة ويحيل بعضها إلى بعض، لذلك فان أي طرق لازمة الإنسان المعاصر لاشك يضعنا في مواجهة مأزق سياسي بماهو مظهر من مظاهرها.
إن ما دعانا إلى محاورة هذا الاعتراض الافتراضي هو إدراكنا لحجم التشويه الذي لحق ويلحق بالتفكير السياسي غير المؤسسي، غير الرسمي وغير الولائي. تشويه يهدف إلى تعميتنا عن كارثية واقعنا وخلق جيل يستهلك السياسات و الإيديولوجيات التي تنتج له في مخابر تعود ملكيتها إلى الآلهة..كل شيء مسموح به عدا إن تفكر. وفي المحصلة: لاشيء مسموحا به على الإطلاق.
إن مقاومة العدو الشبحي ( المكان ومفرداته ) يجب إن تكون إطارا للرفض الفلسفي الشامل وتمردا صريحا وعنيدا على المؤسسة ، انفلاتا واعيا من شباكها،خطابا اعتراضيا وخصاميا. المقاومة أن تحافظ على براءة الفكر وحرارة الإحساس بالآخر/الضحية.أن ننسى أنفسنا في لحظة يستثنى فيها الإنسان قيم الاستهلاك وان نتحلى بحكمة الغضب. أن نتحصن ضد كل احتواء و استقطاب. أن يكون الإنسان مقياسا ومرجعا وغاية في تقييم مفاصل المكان ومجرياته. المقاومة فلسفة وجود معاصرة يبررها واقع الهيمنة المعممة بماهي عقيدة إفناء للنماء و الإخصاب و البقاء.الفلسفة، كما في كل مرحلة من التاريخ، تلبي نداء الإنسان التائه و التائق إلى الخلاص وقد بنت أمجادها على هذه الروحية وهذا الالتزام. إنها اليوم أمام امتحان تاريخي صعب: مواجهة مايفعله " الغباء الخلاق " بالحياة والدفع نحو انكشاف حجم عدائه للحرية و العدالة والديمقراطية حجم عدائه للإنسان. سيسجل التاريخ صمت الصامتين وثورة الرافضين والقوى التي تتصارع على اتجاهه. إن الغباء المفسد للعالم مصيره الفشل وهو يتجه برموزه ومؤسساته إلى قبورهم. لم يلق التأييد إلا من الجبناء، الطامعين، المستبدين والمتاجرين بأوطانهم. إن بضاعة من يمتدح الإله الفولاذي الغبي هي وطن، والثمن هو منصب كرتوني وربطة عنق وزجاجة عطر.لقد حصل في منتصف القرن الماضي أن نصبت القوى الاستعمارية زمر عميلة لها في مؤسسات الحكم، لكن حركات التحرر الوطني قامت بكنسها. المشهد نفسه وربما بأكثر كاريكاتورية وفداحة يتكرر اليوم في العراق، فأدوات الاحتلال المنصبة تكيل بلا ملل أو كلل المديح للمحتل لقاء تحريره للبلد. ويناشدونه متوسلين الاستبسال في إسنادهم.أيعقل أن تنسكب حمم جهنم على رؤوس العراقيين حقدا على صدام حسين ؟؟..الم يعلم الرجل في لحظة رحيله كل التجار و السماسرة الذين يعج بهم العراق، المنطقة والعالم درسا في الإيمان بعدالة قضيته و الإنسان ؟؟..إن كل جرائمه المفترضة كانت ستكون حقيقية لو انكسرت روحه، لان التاريخ علمنا حجم جبن المستبدين.من يفقد الملك والولد و الأحبة و الحرية ولا تنكسر روحه يمثل في حد ذاته ظاهرة سيكولوجية جديرة بالبحث و التأمل ولا شك سيأتي زمن تحتفل فيه الثقافة بشموخ روحه على طريقتها باعتبارها روح مقاومة من المولد إلى حبل المشنقة...إن الأمة التي ينحر قائدها في ديارها يوم عيد أعيادها لاشك امة ساقطة ولقيطة، والشعب الذي يتفرج على رئيسه يذبحه الغازي لكونه قاومه بالولد والروح هو شعب لا يستحق الحياة. وهو بالتأكيد لا يقدر حجم العار الذي لحق به. أما صدام حسين فسيتحول إلى أسطورة في الضمائر الحية، ضمائر الأعراب العراة تحديدا، بعيدا عن مواخير شعبه وأمته الذين شربوا على نخب انكسار رقبته صمتا وخذلانا.لن يسجله التاريخ ضمن أبطال حركات التحرر بل ضمن الانبياء، معلمي الإنسانية العظام إن لم يكن ضمن ملائكة الرحمان الذين ترجلوا ورحلوا.
اني ارفض مكاني ( لغتي ، عباءتي وعصاي و الحشرجة من حولي) وأود الرحيل على طريقة الذين رحلوا. راحلتي هي الفلسفة وآفاقها آفاقي.فهي الأنثى التي تسكنني وتنطق بأوجاعي ولا يستطيع الفولاذ كبت همساتها الليلية الساحرة.إن الترحل الفلسفي عنوان كل رحلة/حرية تائقة إلى الخلاص أيما كان مرجعها المعلن لان الفلسفة هذا الفعل في حد ذاته. الفلسفة التزام مبدئي بالحرية خلافا للدين أو السياسة بماهما تجارة ومساومة على الإنسان مع المكان. فلسفة المقاومة ضد المكان من اجل السلام.ولا يتحقق السلام العالمي إلا بعودة دار السلام.
(هذا المقال نشر بمجلة " كتابات معاصرة " البيروتية العدد67 شباط-آذار 2008 )
ملاحظة : النص فيه جلد للعراقيين وللعرب عموما...ارجو المعذرة...فظروف كتابته كانت مختلفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.