أجمع المشاركون في الندوة العلمية الدولية التي نظمها مجلس الجالية المغربية بالخارج أيام 20-21 يونيو في مدينة الدارالبيضاء والموسومة تحت شعار: "الإسلام في أوروبا: أي نموذج؟" على مساءلة الإسلام وأهله في أوروبا، ومدى قدرتهم على التكيف مع الواقع الأوروبي الذي مهما تعددت أشكال الممارسة فيه وأنماطه السياسة والاجتماعية، فهو يخضع في قاعدته لاحترام مبادئ الحرية والديمقراطية والعلمانية. إشكاليات مطروحة انطلقت الندوة -التي شارك فيها ثلة من علماء الاجتماع الديني والفاعلين في الحقلين الدينيين الأوروبي والمغربي- من أرضية مهمة ترتبط بالإشكالات الفكرية والاجتماعية النابعة من محاولة "تبيئة" الإسلام داخل تربة ثقافية واجتماعية تتسم بالعلمانية والتعددية في أوروبا. ولعل من أبرز هذه الإشكالات التي بسطتها أرضية الندوة: مسألة المرجعية والنموذج اللذين بمقدورهما تأطير هذا الوجود المطرد بشكل يأخذ بعين الاعتبار السياق الأوروبي بملامحه وسماته؛ المختلفة بنيويا عن ملامح وسمات المجتمعات الإسلامية تاريخيا وحاضرا. وتنبع أزمة وإشكالية النموذج والمرجعية أساسا من عدم الإدراك والاستيعاب الدقيق لطبيعة الفروق الجوهرية بين التراث الفقهي الإسلامي الذي تم إنتاجه ضمن سياق ثقافي إسلامي وفي مرحلة زمنية معينة، وبين الواقع الأوروبي الذي يتطلب صياغة نموذج نابع من رحم وعمق هذا الواقع وليس نابعا من واقع آخر، وقد أدت هذه الأزمة إلى سقوط الفقه الإسلامي، المتعلق بواقع المسلمين في المجتمعات الأوروبية، في نوع من الارتباك والاضطراب وغياب التماسك والاتساق على مستوى بنية الخطاب الإسلامي في الغرب بشكل عام. خريطة الإسلام في أوروبا وتطرقت عروض المحور الأول في هذه الندوة الدولية إلى محاولة رصد ملامح خريطة الإسلام في أوروبا، انطلاقا من الجغرافيا التاريخية للإسلام في أوروبا خاصة مع استحضار النموذج الأندلسي الذي ما فتئ يستلهم الباحثين باعتباره جَسَّد لحظة من لحظات التواصل البناء بين الإسلام وغيره من الأديان في فضاء أوروبي، نتجت عنه حضارة أندلسية بنيت في أصلها على مذهب مالكي عرف كيف يتعايش مع غيره من أهل العقائد ويتطور في الغرب، بل وينتقل فيما بعد إلى فاس التي حملت مشعله في الغرب الإسلامي قرونا من الزمن. وركز المشاركون في الندوة أيضا على "الجغرافيا الاجتماعية" للإسلام في أوروبا التي تُبين انطباعًا لدى مجتمعات الاستقبال الأوربي يربط بين الإسلام كدين وصور اجتماعية يغلب عليها طابع الهشاشة والتهميش والآفات الاجتماعية التي تعاني منها الجماعات التي نتجت عن الهجرة؛ ولعل ذلك ما جعل الإسلام في عمومه يرتبط في تصور مجتمعات الاستقبال بالهجرة كظاهرة وبالإنسان المسلم كنتيجة أصبحت شبه لصيقة بتلك الظاهرة؛ حتى ولو كان الأمر يتعلق بمواطنين أصليين اعتنقوا الإسلام، كما هو الشأن في الولاياتالمتحدة مثلا. وأكد علماء الاجتماع الديني حضور مقاربة جغرافية أخرى تتمثل أساسا في تطور التيارات الإسلامية بدء من إسلام تقليدي يتلخص في ممارسة الشعائر وتلبية الحاجة الروحية لمعتنقيه، وممارسوه هم في الغالب مهاجرون من الجيل الأول الذين لم يفكوا ارتباطهم الروحي بأوطانهم الأصلية، مرورًا بما يسمى "إسلام الدعاة" خلال الثمانينيات من القرن الماضي، إلى إسلام تعبوي حول شعارات معينة (كشعار الإسلام الشمولي مثلا سنوات التسعينيات)، ثم إلى التنافس الحاد أحيانا بين تيارات مختلفة المشارب والمآرب (بداية الألفية الثالثة). وأفضت هذه التيارات إلى تطور العلاقات بين الإسلام في أوروبا مع الفقه ومع المصادر الأصلية للإسلام، وبالتالي إلى تزايد الغموض والصعوبات لدى المسلمين في أوروبا وخاصة منهم الشباب، وأدى أحيانا إلى ظهور بعض الصراعات، فواقع الحال يقول إن هؤلاء الشباب أصبحوا يجهلون أي منحى يتبعون خصوصا وأنهم يفتقرون إلى الأدوات والإطار النقدي الذي يسمح لهم بمقاربة الإسلام مقاربة صحيحة ومواجهة التيارات الأكثر تطرفا. المرجعية والممارسة وتعرض الباحثون المشاركون في هذه الندوة إلى إشكالية المرجعية باعتبار طبيعة العلاقة التي تجمع بين الإسلام وبين المجتمعات الأوروبية التي تطغى فيها الحداثة واللائكية (العلمانية)، وسيادة مبدأ استقلالية الفرد في علاقته بالدين، والتي قد تبدو أحيانا عائقا في سبيل تكيف الإسلام مع هذه المجتمعات، بما أنه يفترض علاقة جدلية بين الفرد والمجتمع. وسجل المختصون في هذا المحور الثاني الموقف "السلبي" الذي يمارسه المسلمون في أوروبا، حيث يكتفون بالتفرج عن أخذ المبادرة، وهو الأمر الذي أفضى إلى "بروز نوع من التقوقع عبر الإسلام ومن خلاله ضمن المجتمع؛ على درجات تنطلق من الإسلام المبني على الإيمان والموضوعية إلى إسلام الذين يقدمون أنفسهم كمسلمين سابقين، أو ابتداع صفات جديدة للتعبير عن الانتماء تحاول الجمع بين الخلفية السوسيو ثقافية والواقع الثقافي لمجتمعات الاستقبال (الإسلام اللائكي/ العلماني على سبيل المثال). وأكدت المداخلات أن إشكالية المرجعية ترتبط أساسا بجوانب معرفية تجسدها تلك القطيعة المعرفية لدى المسلمين عن غيرهم من الديانات الأخرى، نظرا لتراجع روح المبادرة إلى استكشاف الآخر من خلال مصادره وتراثه الخاص، وهو ما عرفه العالم الإسلامي في عهوده السابقة، بل إن القطيعة تمس الآن الشباب المسلم في أوروبا الذي تعوزه الوسائل إلى مباشرة المعرفة عن الإسلام من خلال مصادره وفي غياب مرجعية معتمدة. نموذج الإسلام في أوروبا وأدت هذه العوامل كلها إلى تعدد المرجعيات الممكنة خاصة مع اتساع فضاء الإسلام عبر القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، وظهور العديد من الأسماء التي كادت أن تغطي بحضورها المرجعيات التقليدية التي ظلت مرتبطة بالأوطان الأصلية للمسلمين بأوروبا، وزاد من حدة ذلك ضعف أو غياب الهياكل المؤطرة للإسلام في أوروبا، وعدم قدرتها على فرض نفسها كمرجعية للمسلمين في تلك البلدان. وفي ما يتعلق بمسألة نموذج الإسلام في أوروبا، لمس المشاركون في هذا المحور من الندوة غياب دراسة مقارنة بين مختلف المجتمعات الأوروبية واتجاه ما قد يتوفر منها إلى الاهتمام ببعض الجوانب كالحجاب مثلا عوض الاهتمام بالمرأة المسلمة في أوروبا كموضوع يهتم بمختلف أوجه حياتها اليومية وأبعاد كينونتها ضمن المجتمع، أما بالنسبة للفئات العمرية الأكثر شبابا، فقد عاد موضوع التربية بشقيها الأسري والنظامي (المدرسة) ليطغى على الاهتمام وهو ما يتطلب تأهيل منظومة الأسرة التي تعتبر المجال الحيوي المبدئي للأفراد، ورد الاعتبار لمواردها الثقافية من خلال ابتكار طرق جديدة في التكوين مثلا، والاهتمام بمواكبة الأطفال في المدرسة من أجل إيجاد حلول من شأنها أن تسلح الأفراد بالقيم التي تسمح لهم بممارسة حياتهم ضمن فضاء الإسلام باطمئنان. السياق الأوروبي والنموذج المغربي وتساءل المحاضرون أيضا عن مدى قدرة النموذج المغربي للتدين على المساهمة في بناء جسر يربط الوجود الإسلامي في أوروبا بالمجتمعات الأوروبية، وذلك بسبب تعدد المرجعيات والنماذج المؤطرة للمسلمين في أوروبا. وأبرز المتدخلون في المحور الأخير أنه من الناحية النظرية يمكن الحديث عن نموذج مغربي يملك من المقومات المعرفية ما يمكنه من استيعاب التحولات والتحديات التي يعرفها السياق الأوروبي خاصة بشقيه الثقافي والاجتماعي؛ وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية التي راكمها تفاعل المذهب المالكي مع محيطه العالمي. لكن على مستوى الواقع، سجل المحاضرون المختصون أن هناك نقصا كبيرا في تحويل أسس وروح النموذج المغربي إلى واقع يجيب على تطلعات المسلمين في أوروبا؛ وهذا ما يتطلب بذل جهد نظري وميداني من أجل تجاوز المعيقات التي تحول دون استثمار أسس وأصول النموذج المغربي المتسم بالانفتاح والتعدد وقبول الآخر.. يذكر أن هذه الندوة تشكل الحلقة الثانية في سلسلة الندوات التي يشرف على تنظيمها فريق العمل المكلف بمباشرة التفكير والتأمل والتشاور حول الديانات والتربية الدينية بالمجلس، والتي انطلقت منذ أشهر بندوة مماثلة انعقدت بفاس حول موضوع "الوضع القانوني للإسلام في أوروبا..". ------------- حسن الأشرف صحفي مغربي مهتم بالشأن الثقافي. 27-06-2009 مدارك