الإهداء: إلى الشيخ حارث الضاري.. كتبها: زاهد منتصر نشرها السيد مبروك الفجرنيوز ما أكثر حروبنا القوميّة، ضدّ الاستعمار والتجزئة، وضدّ الاستبداد والقهر، وضدّ الجوع والاستغلال.. لكنّ الأكثر منها أسراب الضباع التي تخرج من جحورها بعد أن تكون هذه الحروب قد وضعت أوزارها أو تكاد.. الشواهد كثيرة على ذلك، أبعد من أن تتسع لها الكتب والمجلّدات.. للحرب رجالها وللبطولة مهر لا يقدر الجبناء وأنصاف الرجال على دفعه للغالية العزيزة الجليلة «الحريّة". مهرها غال..غال.. لا يقدّر بذهب أو فضّة أو زمرّد أو ياقوت أو مرجان.. مهرها الشهادة والسجن والحرمان، على مذبح النضال الطويل المضني والمنهك الذي يستنزف أعمار الرجال ويورثهم الفقر والتشرّد والجوع والهوان، في بلاد أغلب من فيها يسبّح باسم المستعمر أو باسم السلطان.. وعلى الطريق إلي فردوس الحريّة تنظم جماجم النشامى صلبان عزّ، وصوامع شرف، ترهب أصحاب القلوب الضعيفة والعقول الصغيرة الراغبة في نياشين من الأمجاد الزائفة يسترون بها ما في صدورهم من ذلّ وهوان .. يقدّم الشهداء أرواحهم على راحاتهم البيضاء الطاهرة وأكفّهم النظيفة نذرا وقربانا للحريّة. أمّا من كتبت لهم النجاة على دربها فينكفئون إجلالا لأرواح الشهداء البررة الذين دفعوا المهر كاملا من أعمارهم وأحلامهم ، ويعود كلّ أسد منهم إلى عرينه حارسا للمليكة والأميرة المبجّلة "الحريّة". ساعتها تزدحم الساحات -التي كانت فارغة إلاّ من قلّة صادقة مؤمنة بالقدر الذي انتدبها التاريخ له- بالضباع الجشعة المخاتلة التي طوّرت غرائزها الانتهازية النهمة خلال سنيّ سباتها الطويل، لتسرق أفعال الرجال، وتنهش بأنيابها المسمومة لحم الشهداء وتحرّف التاريخ وتزوّر سيرة الشرفاء.. هذا قدر وتاريخ العوالم المتخلّفة القابعة في كهوف الجهل ..ولذلك قيل قديما "بعد الحرب يكثر الأبطال". كلّ يزوّر له تاريخا، ويتخيّل سرديّة تحكي بطولاته الكاذبة.. في تاريخنا العربي تقف علامات فارقة استطاعت من خلال نضالاتها السياسيّة والمدنيّة أن تصحّح بوصلة المركب القومي التي دفعت به عواصف الردّة، وجزر أمواج الاستسلام إلى أتون محيطات من الاستبداد والقمع والدكتاتوريّة والاستغلال، وشواطئ من الخوف والتردّد واللامبالاة، نزعت عن الإنسان العربي إنسانيّته أو بالكاد تركت له بعض إنسانيّة ليشهد على أفول أمّة وتصدّع بنيان.. لم تكن هذه العلامات سوى رجال أحبّوا الأمّة بإخلاص وتفانوا في الدفاع عن استقلالها وعزّتها وكرامتها فاحتفظت الأجيال بأسمائهم تميمة مباركة تستحضرها عندما تزدحم الرزايا وتشتدّ الخطوب وتستهدف ملاك "الحريّة" ويحقّر الإنسان.. إنّهم شموس الحريّة، وأقمار العزّة، ونجوم الكرامة الذين أناروا عتمة الاستعمار والاستبداد و ظلمة القهر والجور وغلس الاستغلال في ليل الأمّة الطويل الذي امتدّ حتّى بدا الصبح سرابا خلّبا يخدع الناظر ويبعث اليأس في قلوب أبنائها الصادقين الشجعان.. لا فرق بين ألوان الرايات التي حملوها، ولا الشموع التي أضاءوا بها ليل الأمّة الداجي سواء كانت حمراء أو خضراء أو صفراء..ولا الميدان الذي أنارته سواء كان قتاليّا أو سياسيّا أو اجتماعيا، فأينما أبرقت طلقاتهم، وكيفما لمعت كلماتهم، فثمّة قطعة من الوطن الكبير عزيزة على قلوبنا.. لقد احتفظت لنا ذاكرة الأمّة بأسماء أسود "ضارية" تحرث بوار الأمّة، يزأر أصحابها فرسانا أشدّاء في الدفاع عن شرف "الحريّة" عندما يعلو نقيق الضفادع تبشّر بفتاوي الواقعيّة وتبرّر "الإحلال"(المصطلح الذي ابتدعه الخونة عندما احتلّ العراق).ولم تنس هذه الذاكرة أن تسقط من سجلاّتها أسماء الضباع وبنات آوى في مزبلة التاريخ وفي غياهب النسيان.. إلى أن تنتهي حرب الأمّة الطويلة الشاقة، ستلمع شهب خدّاعة في السماء، ولكنّها سرعان ما سيخبوا نورها وينكشف بريقها الخادع، وتترك الميدان لشموس وأقمار الحريّة تنير مجرّتّنا القوميّة على درب العزّة والكرامة والإباء والوحدة والإيمان بقيمة الإنسان ./.