بقلم: جيلاني العبدلي الفجرنيوز في مقهى البريد بالعاصمة شاءت الأقدار أن ألتقي في وسط العاصمة بزميل قديم، ممّن عرفتُ خلال مسيرتي المهنية. وقد انطلقنا لشرب شاي في مقهى البريد المقابل لمركز البريد بنهج أنقلترا، وكنت يومها أحمل في يدي مجلة فكرية بعنوان " الفكر العربي المعاصر". وما إن تجالسنا نخوضُ في السؤال عن الأحوال، وننبشُ في الذاكرة المشتركة، حتّى طاف علينا من السّماء طائفٌ مجهول، ونحن منشغلون مستغرقون: اقترب منّا شخص في زيّ مدنيّ، سُرعان ما انحنى عليّ هامسا في أذني، يُخبرني بأنّه عون أمن، وأنّ عليّ أن أرافقه إلى خارج المقهى للقيام بالتحرّيات اللازمة. رفعتُ إليه رأسي، وحملقتُ في وجهه ثم رحّبتُ به وسألتُه في أدب: " أليس من المفروض أن تستظهر ببطاقتك المهنية أولا؟ ". فما كان منه إلا أن وجّه إليّ سهام نظرات فوقية، فيها تعال وصرامة واستنكار -كأنني قد تطاولت على مقامه الرفيع حين سألته - ثمّ خاطبني قائلا: " رافقني إلى خارج المقهى بعيدا عن الحرفاء، وهناك يكون حديثنا ". قلتُ له بوضوح: "لا يمكن أن أرافقك قبل أن أعرف من أنت، عرّف بنفسك أولا". عضّ على شفتيه، وقطّب جبينه، وعلى مضض مدّ يدهُ إلى الجيب الخلفي لبنطلونه، وأخرج منه بطاقته مُلوّحا بها من بُعد، ثم أعادها إلى جيبه دون أن أتوصّل إلى قراءتها أو فحص صورة حاملها، قائلا بلغة سُوقية: "هي ذا بطاقتي وس...دين والديك" وطالبني بأن أمكّنه من بطاقة هُويتي فورا. أمسكتُ عن محاورته لتخفيف تشنُّجه، وسلمّته بطاقتي وأنا أردّد في نفسي: " اللهمّ صرّف يومي على خير، واجعل بيني وبين أعوان الأمن حجابا ". مسك صاحبنا البطاقة فقلّبها جليّا ودقّق فيها مليّا، ثم سألني بلغة رفيعة جميلة : ما هي همنتك يا سي...؟ فأجبته: مهنتي منصوص عليها في بطاقة هُويتي، أليس الأمر واضحا؟ قال لي: "إذا كنت فعلا تشتغل أستاذا بالتعليم الثانوي كما هو مدوّن هنا، فاستظهر بما يثبتُ ذلك". قلتُ له: " يا رحمك الله، أليست بطاقة التعريف الوطنية أقوى إثبات؟ أليست كافية لإثبات مهنتي؟ " ردّ عليّ، وقد ضاق صدره بمجادلتي: لا تعلّمني يا سيّدُ قواعد عملي، عليك أن تستظهر ببطاقتك المهنية لتأكيد وظيفتك، فمن يُؤكّد لي أنّك ما زلت على قيد التدريس، ربما تكون قد انقطعت أو طُردت، و بطاقة الهُوية لا تُجيب على ذلك". قلتُ له: "حسنا، فهمتُ الآن من كلامك أنّ البطالة جريمة، وأن العاطل عن العمل مُتّهم، فإذا كان الأمر كذلك، وما دامت وزارة التربية والتعليم لا تُمكّن إطاراتها من بطاقات مهنية، اعتبرني مُجرما بصفتي لا أشتغل، وخُذ ضدي الإجراءات القانونية المناسبة. تبرّم ذاك العون من أجوبتي وحرفاء المقهى يسترقون السمع، وأحسّ بحرج شديد من مجرى الحوار لإحساسه أنني قد تجرّأتُ عليه، ولم أمتثل لأوامره، وأمرني بالوقوف في الحال لمرافقته إلى مركز الأمن. خرجتُ أصحبه إلى حيث دعاني، وزميلي الذي كان يواكب فصول الواقعة في صمت يتبعنا بخطى وئيدة من غير حيلة، ولما ابتعدنا عن المقهى توقّف غير قريب منّي، وتولّى الاستعلام عنّي بواسطة جهازه اللاسلكي، ثم دنا منّي يُقرّعني بلسان سليط ومفردات مُخلّة بالآداب، قائلا: " أنت... مُربّ تُؤدّب الصبيان ولكنك غير مُؤدّب، تجادلني في عملي وفي الوقت نفسه ترفض الإدلاء ببطاقة هُويتك، سأُلقّن ...والديك درسا في المجادلة وعدم الامتثال". واصلنا طريقنا حتى بلغنا مركز الشرطة بنهج شارل ديقول، وفي مدخله صفعني مرة أولى، ثم مرة ثانية وهو يدفعني أمامه، مُشنّفا أذنيّ بقبيح الألفاظ إلى أن أدخلني إحدى الغرف، وأغلق بابها عليّ. أمضيتُ حوالي ساعة أرثي لحظّي، وأنا أتأمّل ما انتقش في ذاكرتي من صور قبيحة للبوليس التونسي، وللدور السلبي الذي يلعبه داخل المجتمع. وبينما أنا كذلك أسبح في كوابيسي، إذ فتح أحد الأعوان باب غرفتي، ودفع إليّ ببطاقة هُويتي، وأذن لي بالخروج. ولمّا غادرتُ مركز الأمن وجدتُ زميلي في الانتظار، وكان قد تدخّل لدى بعض الأعوان يتوسلهم لإطلاق سراحي، وأنا مدين له في الحقيقة بعتق رقبتي في ذلك اليوم. قال لي- سامحه الله - وهو يُشاكسني، عندما كنّا نمشي على الرصيف: "حمدا على السلامة، ودفع الله ما كان أعظم". في ذلك اليوم قدّم لنا عون الأمن درسا عمليا في حفظ الأمن في الوطن، وفي إشاعة الاطمئنان في النفوس، حين تدخل في الوقت المناسب لينغّص علينا جلستنا، ويحول دون تحييننا لعلاقتنا. قلتُ من ناحيتي لزميلي وأنا أُودّعه: " معذرة على سوء الضّيافة، وإلى أن يُخرّب مجلسنا ويُعكّر صفونا بوليس آخرُ، في يوم آخر، في مكان آخر، أتركك بخير.