أعرف الصوت وأميّزه من بين آلاف الأصوات ولكنّي اليوم نكرته، فقد كان خافتا ضعيفا، وقد كان يصف حال رجل قويّ أرادوا له أن يكون ضعيفا... سألني ألم تعرفني؛ إنّي منصف!... أجبته - وقد عرفته – نعم عرفتك؛ وأخفيت أنّي في البدء لم أعرفه!... لقد اتصل بي ليقول كلمات قد يكون تعسّر فهمُها على غيري ممّن يرونه ولا يبصرونه ويعرفون ما به ولا يحسّونه... كلمات قليلة قالها؛ تكتب في مجلّدات كثيرة... أسوق أهمّ أبوابها وملخّصه أنّ في تونس رجالا يموتون لأنّهم فكّروا وصرّحوا ذات يوم أنهم يحبّون الحياة، ثمّ عملوا بجدّ وإخلاص كبيرين لتوفير مقتضيات تلكم الحياة! ولم يكونوا يعرفون – وهم بين أناس يكرهون لهم الحياة – أنّ في النّاس من يكره الحياة... وقد قرأت هذه الأيّام في صحيفة الصباح التونسية "المستقلّة" كتابات يتّهم مسطّرُها - وهو يرتزق وطنيا - بعض التونسيين - ممّن فرّ من الرّياضيين من جحيم تونس الواقعة تحت سلطة المغيّرين - ب"المرتزقون من الوطنية" (*)، في حين يتّهم آخر (تلميحا) البعض من الإطارات التونسية العليا ممّن آثر العمل خارج تونس بالأنانيّة والتكالب على جمع المال وذلك رغم تأكيد تلكم الكفاءات كلّها على أنّ ظروف العمل في تونس غير مناسبة أو هي لا تضمن الرّاحة المتوفّرة خارج تونس التي بها يتمكّنون من النبوغ والإبداع! ولم يكن العامل المادّي في كلامهم إلاّ ملحقا لا يقف أبدا عائقا أمام تحسين الظروف المتعلّقة بحريّة الرأي وحريّة البحث وحرّية التعبير وأمنهم وأمن أبنائهم وعائلاتهم (وهي عندهم الرّاحة) (**)، فقد آثروا الرّاحة والاحترام خارج بلدهم! ولو وجدوهما في بلدهم لحرّمت عليهم وطنيتُهم وقبلها دينُهم التواجدَ في خدمة غير المسلمين!... يقول هذا الصحافي مجيبا عن تساؤل وضعه بنفسه عن سبب عدم عودة الكفاءات رغم ما جمعوا من أموال تكفيهم – حسب رأيه الذي يبدو عليه حبّ المال وبريقه - وتكفي أبناءهم وأحفاهم : [... وأجمعوا على أنهم لا يرغبون في العودة لأنه لا مجال للمقارنة بين ما توفره لهم الجامعات الأجنبية من ظروف بحثية ملائمة ومن أجور مغرية وحوافز مشجعة وما يمكن أن تمنحه لهم الجامعات التونسية في صورة اختيارهم العودة إلى البلاد...]... وقد قال قبلها – مستنكرا أو غير قابل بالوضع الذي عليه الأمر: [هذه الكفاءات درست في تونس وأنفقت عليها المجموعة الوطنية أموالا طائلة لكنها بمجرد التخرّج التحقت للعمل بجامعات أجنبية..]... وأقول أنّ المنصف بن سالم من أرقى – إن لم يكن أرقى – الكفاءات التونسية التي درست في تونس وخارجها ثمّ لمّا حاولت جهات كثيرة استقطابه للعمل خارج تونس آثر طوع أمره الرّجوع والاستقرار ببلده لخدمتها، فلماذا يُعامَل هذه المعاملة الرّخيصة الخسيسة اللاّإنسانية، وهل يمكن بل هل يجوز لصحفيّ وطنيّ حرّ لا يرتزق من الوطنيّة – طبعا – أن يكتب بلهجة فيها بعض اللوم على كفاءاتنا التي آثرت العيش خارج البلاد وهو وهم جميعا يرون أو يسمعون ما يتعرّض له المنصف - مع أنّه قد يكون ساهم في تكوين الكثير منهم – من تحطيم ممنهج لا يقترفه إلاّ كاره لتونس محارب لعزّة أهلها... ولو كان الصحافي يكره المرتزقين من الوطنية كما أوهم لأشار بإصبعه إلى المرتزق الأوّل منهم، إذ كيف يمكن لعاقل ناهيك من رئيس دولة أن يرمي بنِتاج التكوين الرّفيع الذي تلقّاه المنصف بن سالم وأنفقت عليه – حسب تعبير الصحافي – المجموعة الوطنية أموالا طائلة؛ فيلقي بمنصف (الثروة) إلى الموت البطيء يأكله دون اكتراث... إنّها الجريمة المحروسة من رأس الدولة تزكّيها صحافة مرتزقة لم تقو إلى الآن على كلمة الحقّ التي بها تُبنَى الوطنيّةُ التي تمنع الرياضيين من "الحرق" والكفاءات العالية من العمل لمصلحة غير المسلمين... لعلّ المنصف لم يقرأ هذا الذي أوردته الصحافة، فقد كان بحضرة أمراض كثيرة يعاني أوجاعها ويذكر ولا يحصي آلامها ويراقب مضاعفاتها، سبّبها له عدم خوف "الوطنيين" وفي مقدّمتهم صانع التغيير من الله سبحانه وتعالى.... وقد سألته – وأنا أعلم من خلال ابنه البارّ عبّاس - عمّا صار إليه أمر العمليّة التي كانت بُرمجت لعينه! فبيّن أنّ العين لم تكن وحدها التي تأذّت من ارتفاع منسوب السكّر لديه، بل إنّ قلبه الحيّ الحسّاس قد تضامن معها فشهد اضطرابات كثيرة نمّتها فيه محاصرة "التغييريين الوطنيين التنويريين" لمّا منعوه العمل وحرّموا عليه القول والفعل والصلة (صلة الأرحام) ونفع الآخرين، ولمّا حاولوا إتلاف تكوينه وإبعاده عن يقينه ودوس كرامته وتغيير قناعته!... كما أصيب المنصف الحبيب هذه الأيام في البروستات (Prostate) ما جعله لا يستطيع تقنين أوقات تبوّله حتّى لقد كاد يمنعه ذلك (أو هو منعه) صلاة الجمعة....، والمنصف وهو بهذه الحال أو بما ذكرت أنا من حاله التي لا تصفها إلاّ أحاسيسه ولا يفسّرها إلاّ ضعف صوته الذي به خاطبني اليوم يتعرّض إلى مظلمة أخرى من المظالم التي اجتمعت ببيته وساحته، فقد ذهب حديثا إلى مصلحة البريد يرجوهم فسخ العقد الذي بينه وبينهم وإيقاف خدمات الإنترنت التي لم يغنم منها إلاّ دفع معلومها كامل السنة الماضية رغم قطعها عنه منذ سبتمبر 2008، غير أنّ المصلحة أجابته بتعذّر ذلك، إذ لا بدّ من الإخطار المسبّق ودعته إلى دفع سنة كاملة أخرى وبزيادة 80 بالمائة عن معلوم السنة الماضية!... وهي إذ تتمسّك بهذا الإجراء ترجو له الأيّام الهنيّة وتعبّر له عن عدم انخراطها أصلا في القضية، فالإنترنت عندها يشتغل وهو لديه رسميّا موجود بالصبح والعشيّة!.. فالقطع ليس من دأبها وإعفاؤه من المعلوم ليس من شأنها، وهو لديها بعد كلّ ذلك زبون طيّب وليس فيه ما يعيَّب!....
أخبر البروفيسور المنصف كذلك عن آلام حلقه فجعلتُها أنا سببا لتراجع صوته، وسألت الله الذي يسمع ما لا يسمعه منصف أن يبدله بدنا خيرا من بدنه وقلبا خيرا من قلبه وعينا خيرا من عينه ودما خيرا من دمه ويبارك له في علمه وفي ولده وفي كلمته وصوته... وقبل الإنهاء سألته إن كان قد اتّصل به المتّصلون هذه الأيّام، فرحّب وشكر ودعا للجميع بالخير والثبات... فعلمت أنّ الخيّرين قد قرأوا ما كتب واستجابوا لما إليه نُدب، فاستحسنت السؤال التالي: وهل من غير الاتصال شيء، فقال نعم قد دعا لي الجميع بالشفاء وهو عند المنصف كلّ المبتغى! ولكنّي قلت وأسررت في نفسي بعض ما قلت: جميل أن ندعو فلعلّ فينا مستجاب دعوة ولكن ما بال الألسنة قد نشطت وما بال الأيادي قد انكمشت وتراجعت، فإنّ المضطرّ منّا ينشد أكثر من الدّعاء!... فهلاّ تعاملنا مع حال المنصف بواقعية أكثر وهلاّ تجاوزنا الدّعاء إلى تبنّي قضيته سيّما بعد أن حكمت له المحكمة الإداريّة بما حكمت؛ فعملنا على تمكينه من جواز سفره وسارعنا إلى تسفيره باتّجاه مراكز الاستشفاء المشهود لها بالنّجاعة ثمّ حوّلناه على بلد عربيّ كقطر أو الإمارات مثلا (وقد أنشئت بهما بعض مراكز البحث العلمي) لاستغلال الخير الذي فيه وتمكين الأمّة من علومه النّافعة!... أحسب أنّها طلبات لا تمتنع عن همم أولي العزم، ووالله لو كنت غنيا أو ذا كلمة مسموعة في قومي لغيّرت شأنه بأمر الله تعالى إلى خير شأن... فسارعوا يرحمكم الله تعالى إلى البرّ ولا تقنعوا فيه بعمل الذين أُحصِروا...
(*): "المرتزقون من الوطنية"، جريدة "الصباح" (يومية – تونس) الصادرة يوم 13 جويلية 2009 (**): "أغرتهم الإمكانيات البحثية العالية والأجور المرتفعة، الكفاءات التونسية بالخارج تستبعد العودة النهائية"، جريدة "الصباح" (يومية – تونس) الصادرة يوم 30 جويلية 2009 عبدالحميد العدّاسي (الدّانمارك)