ما فتئت الصورة تسجّل حضورا ملحوظا في المجتمعات المعاصرة بل أصبحت قادرة على تكييف سلوك الفرد و الجماعة عبر مسار جديد من التنشئة الاجتماعية بعد أن ارتبطت مرحلة الحداثة و ما قبلها بسحر الكلمة فان المرحلة المعاصرة تركز أساسا على جاذبية الصورة فلا يخلو بيت اليوم تقريبا من وجود جهاز تلفاز يتصل الناس بواسطته مع عوالم أخرى ويستخبرون به عن أحوال الناس في كثير من الأصقاع و العوالم فتعاظمت أهميّة هذا الجهاز واحتلت الصورة القدرة العجيبة على استقطاب العقول بل وضعت نفسها بديلا عن اطر التنشئة التقليدية الأخرى لهذا أصبح من الأهمية بمكان اثارة الجدل حول موضوع التلفزة والصورة وعلاقتهما بالتربية وهذا الحوار هو في نفس الوقت اثارة لجدل عام وشامل حول اكراهات الايديولوجيا والرهان التربوي والأجهزة الإيديولوجية و حول أجيال الطفولة و الشباب البالغين الذين يمثلون شريحة استهلاكية واسعة وقابلة للتشكل والتأثر أكثر من غيرها و هي أيضا استكناه لغايات الممارسة الفنية عامة و تفعيل لأسئلة التلفزة والتربية التي تهم عطب الشخصية وهوية الانسان التربوية وأهداف التسلية وشخصية المتلقي والدور التعليمي للصورة. وهذا الحديث عن التلفزة يقودنا حتما الى الحديث عن المنتوج الذي يقدم للمشاهد بمختلف فئاته العمرية و هو في نفس الوقت حديث عن غايات عديدة ابداعية و جمالية وفكرية وفرجوية و ايديولوجية و تربوية يجسدها الفلم أو المسلسل باعتباره استثمارا لمجموعة من المعارف الفنية (من موسيقى واضاءة وديكور و سيناريو) و الفكرية والمعيشية و التخييلية، الا أن هذه الغايات وخاصة التربوية منها بقيت حبيسة التنظير و لم يعد لها معنى أو وجود اليوم بالرغم من كثافة المنتوج الذي أصبح خاضعا لحاجيات السوق أكثر منه تفكيرا في الجودة .إن المشهد التلفزي مهما كان نوعه يضيف للمتلقي أثرا ما سواء كان ايجابيا أو سلبيا يضاف إلى التراكم العام الذي يحصل لدى الفرد في مشوار حياته مما يجعل من تاريخ المشاهدة عاملا أساسيا في بناء ملامح الهوية الخاصة في بعض أوجه السلوك أو طريقة تنظيم الحياة و التفكير أو ممارسة العلاقات الاجتماعية. إن الحقيقة المؤكدة أن الصورة تؤثر بشكل كبير على تربية الطفل خاصة وعلى توجه سلوكه واهتمامه إلى جانب مؤسسات أخرى كالأسرة والمدرسة والشارع لهذا علينا الاهتمام بخلفيات المشهد التلفزي والصورة المقدمة قبل البث لتأثيرهما الواضح اليوم في بناء شخصية أطفالنا حاضرا وشبابنا في المستقبل بحيث يخضعهم بشكل متكرر لقصف انفعالي يمكن أن يخلف تأثيرات مؤذية و مخلّة بالتوازن خاصة عندما تعرّض هذا الطفل لمداهمات الصورة و عنفها و تعدّ ه كذلك إلى اكتشاف مبكّر للعلاقات الاجتماعية الأكثر بربرية في حياة البشر. وعند هذه النقطة بالذات وفي معايشة قريبة لواقعنا و مشهدنا التلفزي الذي نريد له أن يحقق النجاح والامتياز المطلوب نقف لنتساءل عن إضافة برامجنا في هذا الشهر الذي اعتدنا انتظار مسلسلاته وبرامجه كل عام بلهفة وشغف لا لشيء إلا لأنها تدغدغ واقعنا وتعايش مشاكلنا لنكتشف اليوم على غير العادة أن بعض المواضيع المطروحة في هذه البرامج هي مواضيع بعيدة كل البعد عن قضايا التونسي ابن الفئة المتوسطة الحال هذا بالاضافة الى الأطر التي اختارتها سلط الاشراف ان تكون في السجون، فما علاقة هذه الأطر بشهر رمضان أولا؟، وكيف يفرض علينا إعلامنا أن نقضي سهراتنا الرمضانية في مثل هذه الأوساط ؟، بل أكثر من ذلك كيف تغيب الأخلاق في شهر الدين والقيم ليحضر جو التهكم والسخرية والرّداءة وتكون الضّحية هي الأطفال والشباب معا ؟، فكيف نريد لهذا الطفل وللغته إذن أن تكون ؟ وكل المثيرات التي تحيط به مثيرات خطيرة تستهدف لغته وثقافته وهويته بالأساس وأين نصيب الأطفال من هذه البرامج خاصة وأنهم في جو عطلة مدرسية لماذا نضطرهم لمتابعة برامج ومسلسلات الكبار التي ستضر بنفسيتهم وتنشئتهم فيما بعد و لماذا لا ننسج على منوال "امي تراكي ناس ملاح" وبرنامج "افتح يا سمسم" ؟رغم أن زادنا الإبداعي زاخر وطاقاتنا التخييلية اليوم تستحق الاحترام والعناية. كيف اندثرت هذه الروائع الأصيلة بمثل هذا الشكل و الثمن البخس؟ فلم يعد لبرامجنا معنى وغاية واضحة غير التسلية والتهريج بالاضافة الى غياب التصنيف و الخلط العمري بين مختلف الأجناس والأجيال في حين أننا يمكن أن نجعل من هذه البرامج وسيلة للنفع والتفعيل الايجابي عندما نحسن التعامل معها و نرجع ضرورة إلى متطلبات كل مرحلة عمرية ونصنّف البرامج حسب الموضوع وأثره في نشر قيم العنف أو الجنس غير المناسبة أو التّعابير الصوتية القبيحة. وهنا نؤكد على دور الأسرة في حراسة البوابة و ذلك بوصف اللقطات والمشاهد و توضيحها للطفل وان نبين له الواقع من الخيال لنطور لديه ملكة النقد والحصانة الفكرية في التعامل مع الصورة أي كان مصدرها وننظم دورات تدريبية للأولياء حول التربية على وسائل الإعلام . إذن نخلص أخيرا إلى أن تلفزتنا وبرامجنا وسيلتنا في صنع طلائع المستقبل و صقل أنماط السلوك والتفكير كما أنها قادرة بامتياز على جلب فوائد جمة للفرد إذا وقع التعامل معها بطريقة واعية وممنهجة.