مرة أخرى تتعرض علاقة الحكومات العربية بالمجتمع المدني إلى اختبار مدى قدرتهما على إدارة حوار يفضي إلى نوع من الوفاق. حدث ذلك بمدينة الرباط المغربية، بمناسبة انعقاد الورشة الإقليمية لما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط الموسعة وشمال إفريقيا حول «الديمقراطية والحكامة المحلية»، وذلك في إطار الإعداد لورش منتدى المستقبل لسنة 2009 الذي سينعقد من جديد بالمغرب يومي 4 و5 نوفمبر القادم، والذي سيجمع وزراء الخارجية لمجموعة الدول الثماني إلى جانب نظرائهم بالعالم العربي. وقد نظمت الورشة بالتعاون بين (المنظمة المغربية لحقوق الإنسان) والجمعية الإيطالية (لا سلام بدون عدالة). وكان الهدف من الورشة حسب ما ورد في نص الدعوة «التداول في قضايا وتحديات الديمقراطية والحقوق الإنسانية»، إلى جانب «تقييم مستوى التمتع بالحقوق الإنسانية ذات الصلة بحرية التعبير والتجمع والمشاركة في إدارة الشأن العام» وتبادل الرأي في «قضايا المصالحات والسلم المدني»، وأخيراً «التداول حول شراكة متكافئة بين فاعلين حكوميين وغير حكوميين لإقرار مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان». ولتعميق الحوار حول هذه المحاور تمت دعوة مندوبات ومندوبين حكوميين من المنطقة العربية ومجموعة الدول الثماني وشركاء آخرين، إلى جانب ممثلي المجتمع المدني و «المؤسسات العالمية والجهوية وفاعلين في مجال الديمقراطية». وقد انطلقت الورشة منذ البداية في أجواء اعتبرت إيجابية، حيث عبر الحكوميون وغير الحكوميين عن أملهم في أن يسهم الحوار بينهما في تحقيق شراكة. ودعوت أنا شخصيا إلى ضرورة إنهاء حالة الاشتباك والشك المتبادل بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، والتحول بسرعة إلى مستوى التعاون والشراكة، خاصة أن هذه المنظمات قد أدركت في السنوات الأخيرة أنها ليست بديلا عن المعارضات، وأن دورها مختلف بالتأكيد عن دور الأحزاب. وعندما تم الانتقال من مستوى التعبير عن النوايا إلى مستوى مناقشة القضايا والحالات، أخذت الهواجس والشكوك تخيم على أجواء الورشة، التي لم تحضرها وسائل الإعلام المحلية أو العربية والأجنبية حفاظا على الأجواء الداخلية للورشة. وبدأ تململ ممثلي الحكومات من سفراء ومسؤولين سامين بوزارات الخارجية، عندما قدمت ورقة تحت عنوان «الديمقراطية واحترام الحقوق الإنسانية ذات الصلة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط الموسع». وهي محاولة لرصد حالة الحريات في المنطقة، ورغم أن صاحب الورقة كان حذرا في استعراض الأمثلة، معتمدا على تقارير بعض المنظمات الدولية، فإن الردود جاءت نافية لحصول التجاوزات المذكورة في التقرير، أو متهمة صاحبه بالاختزال والانتقائية. ورفض أحد السفراء تحويل منتدى المستقبل إلى مرصد لقياس عملية الإصلاح في المنطقة, كما أن هناك نزعة ملحوظة من قبل الحكومات العربية نحو رفض تقييدها بأجندة زمنية تلتزم فيها بتنفيذ خطوات محددة لدعم الحريات وتوسيع الممارسة الديمقراطية, فهي تقبل فقط بإصدار إعلانات أو بيانات عامة تؤكد من خلالها على إيمانها بالإصلاح والتحديث, كما فعلت في أعقاب قمة تونس. بعد ذلك انفجر ممثلو الحكومات عندما تم الشروع في استعراض التوصيات التي أسفرت عنها لجان العمل, وبدون ترتيب مسبق، كانت ضربة البداية مع لجنة نزاهة الانتخابات، التي أكدت على ضرورة المراقبة الدولية، وعدم إضفاء الشرعية على أي انتخابات لا تحترم القواعد الديمقراطية، وتقييد ترشح الرؤساء بدورتين فقط. عند هذا الحد، لم يعد بإمكان المشاركين من الرسميين أن يستمعوا لتوصيات بقية اللجان، وهي لجنة الحق في تأسيس الجمعيات والتظاهر، ولجنة المصالحة والسلم، ولجنة حرية الرأي والتعبير. واعتبروا ما استمعوا له «مزايدة»، وقال أحدهم: لم نأت هنا للقيام بدور «شهود زور»، وكاد الاجتماع أن ينفجر، لولا تدخل الكاتب العام لوزارة الخارجية المغربية، الذي اقترح حلا وسطا، سرعان ما أيده بعض ممثلي منظمات المجتمع المدني، من بينهم د.سعدالدين إبراهيم الذي قال مازحاً «من علامات الساعة أن أتفق مع سفير بلادي مصر على رأي واحد». الحوار بين منظمات المجتمع المدني والحكومات خيار استراتيجي لا فكاك منه، إذ كلاهما في حاجة إلى الآخر، ذاك هو مسار التاريخ المعاصر. لكن يبدو أنه -خلافا لما تحقق في كثير من بلدان كثيرة- فإن بناء الثقة بين الطرفين في العالم العربي سيحتاج إلى وقت أطول في انتظار استكمال بناء الدولة الديمقراطية. العرب القطرية 2009-10-12