أحياناً يبدو المقال «فنتازيا» أكثر منه تحليلاً سياسياً مع أنه يضغط باتجاه تُحجّم فيه مشاعر الحق الإنساني المطلق تجاه أطراف الأزمة والقضية السياسية التي يُكتب عنها حتى يُحافظ المقال على مهنيته الإعلامية، هذا الأمر برز لي بقوة في كل تفاصيل المشهد الفلسطيني الحالي، فلا يوجد أي تبرير واقعي بالإمكان أن يساوي بين حركة مقاومة وطنية ممتزجة إنسانياً ووجوديا مع شعبها مع تكتل بشري عزلته قوى الاحتلال عن وطنه وقضيته ثم أعادت توظيفه للمهام الخاصة القذرة الأكثر بشاعة في تاريخ الإنسانية الحديث، ومن المفارقات أو الموافقات العجيبة أنّ برنامج سلطة أوسلو وقيادة فتح المُركّز والمُعد سلفاً لإحباط تحول مشروع الإدانة لتقرير غولدستون إلى ردّ فعل سياسي وإنساني يخترق لأول مرة حصونا كبيرة أُنشئت بتحالف تاريخي بين المشروع الاستعماري العالمي والمشروع الصهيوني قد تزامن مع رسالة كتبها الشاب الفلسطيني البراء بمناسبة مرور عيد الفطر عليه بعد رحيل والده أحد قيادات حماس وشهداء الشعب، وهو الشيخ نزار ريّان الذي ارتحل مع عائلته في وجبة واحدة من 15 فردا كانت إحدى الدفعات المتتالية التي قدمتها حركة حماس لمشروع التحرر الوطني الإسلامي والإنساني وضريبة الردع المتتالي الذي تقدمه الحركة في سبيل هذا الشعب وقضيته. وهُنا تبرز قضية الجدل الفلسفي الذي أشرت إليه في صدر المقال، وهو ما كان يضجّ به ساسة أوسلو وفتح في أروقة الإعلام من أنّ حماس برفضها التنازل للسلطة الأمنية والابتزاز الدولي وجدار الحصار الوحشي وممانعتها من أن تستسلم وتُسلّم المقاومة لسلطة أوسلو والرعاية الأمنية المصرية إنما هي تتاجر بدماء الشعب.. هكذا يرددون، ولأن العقل والحس الإنساني يُعطّل عند آلية هذا التحالف القذر الذي تحدثنا عنه إبان مقالات مرحلة العدوان ومنها مقال «غزة والعدوان الثلاثي» فإن الخطاب الغوغائي يهدف إلى قلب الصورة بين المجرم النازي الشريك وبين طليعة الشعب الفدائية التي هي أول من يُراق دمها ويستشهد قيادة أبنائها كما هو في حالة نزار ريّان وأسرته وأبناء الزهار ووزير الداخلية الشهيد سعيد صيام وأخيرا يوسف أبوزهري والقائمة تطول، وهي بالمقابل بارزة في عقود الهاتف الخلوي ومقاولي جدار الفصل ومؤسسات شركات الحماية الأمنية لإسرائيل في رام الله.. هنا يبرز جليا ما ذكرتُه حين يُسمّى الطرفان فريقين وطنيين..!! أليس الأمر فنتازيا؟ لكن من المهم أن نعود إلى تحليل المشهد في زواياه الصغيرة التي أُهملت، ولم يُلتفت لها كما يجب ثم ربطها بأصل مسيرة المشروع الذي في اعتقادي يَربط ورقة الاتفاقية الأمنية التي ترعاها القاهرة بذات برنامج العدوان الحربي وتفاصيل انكساراته ومحاولة أطراف العدوان مُجدداً إلحاق الهزيمة ليس بحماس بل والشعب في قضيته المركزية، ولم يتوقف كثيرٌ من المراقبين عند إعادة طرح تقرير غولدستون من قبل نفس السلطة ثم مروره والتصويت عليه في حين أنّ سلطة رام الله وبصوت مرتفع تمثّل بمحمود عباس وعزام الأحمد وممثل المنظمة في مجلس حقوق الإنسان أنكروا في التصويت الأول، أي دور تنفيذي لهم في تأجيل التقرير وأن القرار مر بآلية خارج قدرتهم وإن وافقوا عليه، في حين تغيّر المشهد في الطرح الثاني بعد أن اضطروا إلى تبني الموقف إثر نقل الإعلام الموقف الإسرائيلي وطلبه المباشر من رام الله القيام بآلية إحباط المشروع. وأمّا التفصيل المهم فهو الانطلاقة المباشرة من السيد خرابشة ممثل المنظمة في المجلس، وكذلك عضو اللجنة المركزية لفتح الجديد ناصر القدوة وغيرهم من معسكر أوسلو في أحاديث إعلامية عديدة تَحوّل لديهم الخِطاب فيها وبتركيز شديد وحسب تعبيرهم إلى إدانة المقاومة وليس إسرائيل، وذلك في قولهم: الآن قلبنا الصفحة في تقرير غولدستون فماذا على حماس أن تصنع مع مقاوميها المتهمين بالجرائم في التقرير، بحسب زعم فريق أوسلو، أي أنهم استمروا حتى بعد التصويت على القرار في التركيز على رغبتهم الشديدة في تطوير الإدانة الخاطئة المجملة للجانب الفلسطيني وليس جرائم الحرب الإسرائيلية الكُبرى، أي أنّ اندفاع فريق السلطة هو لإدانة حركة الحماية والدفاع عن الشعب وليس جريمة الحرب التاريخية، وإن اضطرهم المشهد لبعض أدوات الحراك الدولي للتعاطي مع الملف خروجاً من مطاردة الموقف الإنساني المتصاعد الذي أصبح حتى خارج الإطار العربي الشعبي يتجسد له موقف فريق أوسلو كجزء أمني مباشر لحلقة الحرب، وليس فريق متعاطف ولو إنسانياً مع غزة. هنا أود أن أخلُص إلى نتيجة مهمة جداً كان يُدركها ساسة فتح المتواطئون مع الحرب وفريق الرعاية الأمنية المصري الخارج بالمطلق عن تاريخ مصر القومي ومشاعر شعبها العربي، هذه الخلاصة تفيد بأن سلطة أوسلو كانت حريصة جداً على تصفية البعد الإنساني لجرائم الحرب على غزة وطمرها، وذلك في اتجاهين الأول حجم الشراكة التنفيذية لسلطة أوسلو الذين دعا أقطابها في حينه وبرصد مباشر وحتى قبل تسريب الفيلم الإسرائيلي الذي تضمن دعوات الطيب عبد الرحيم لباراك وقيادة الجيش الإسرائيلي لتصفية عشرات من آلاف المدنيين في غزة، فقبل ذلك كانت تصريحات نمر حماد وغيره التي كانت تتوافق مع شن العدوان، ولو أضفنا إلى ذلك شراكة المؤسسة الأمنية المصرية في وقت العدوان وقبله وبعده وخاصة خرق كل الحقوق الإنسانية للشعوب التي تفرض على الدول المجاورة إيجاد مساحة آمنة لسلامة اللاجئين وقت الحروب وتسهيل نقل المؤن الإنسانية في حين توجهت القاهرة لتشديد الحصار على الجانب الإنساني في أول أيام العدوان، وهو ما يعني أنّ الإدانة الإنسانية الدولية وخاصة المؤسسات الحقوقية ستصل إلى دور هذه الشراكة في حجم الجريمة، وبالتالي تصنيف أطراف العدوان بين الفعل والدعم المباشر له من الجهات المتورطة، وعليه فإن هذه الحرب السرية من سلطة أوسلو على الجانب الإنساني لقضية غزة كانت دفاعاً عن متهم أصيل في القضية، فكيف يكون هذا المتهم شريكاً في عقد وطني؟. العرب 2009-11-04