بيان للهيئة الوطنية للمحامين حول واقعة تعذيب تلميذ بسجن بنزرت    لاليغا الاسبانية.. سيناريوهات تتويج ريال مدريد باللقب على حساب برشلونة    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    الاتحاد المنستيري يضمن التأهل إلى المرحلة الختامية من بطولة BAL بعد فوزه على نادي مدينة داكار    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    مع الشروق : كتبت لهم في المهد شهادة الأبطال !    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    حجز أجهزة إتصال تستعمل للغش في الإمتحانات بحوزة أجنبي حاول إجتياز الحدود البرية خلسة..    بايرن ميونيخ يتوج ببطولة المانيا بعد تعادل ليفركوزن مع فرايبورغ    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة: أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    عاجل/ بعد تداول صور تعرض سجين الى التعذيب: وزارة العدل تكشف وتوضح..    قطع زيارته لترامب.. نقل الرئيس الصربي لمستشفى عسكري    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الملاسين وسيدي حسين.. إيقاف 3 مطلوبين في قضايا حق عام    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    أهم الأحداث الوطنية في تونس خلال شهر أفريل 2025    الكاف: انطلاق موسم حصاد الأعلاف مطلع الأسبوع القادم وسط توقّعات بتحقيق صابة وفيرة وذات جودة    نهاية عصر البن: قهوة اصطناعية تغزو الأسواق    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    مبادرة تشريعية تتعلق بإحداث صندوق رعاية كبار السن    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إحباط عمليات تهريب بضاعة مجهولة المصدر قيمتها 120 ألف دينار في غار الماء وطبرقة.    تسجيل ثالث حالة وفاة لحادث عقارب    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    أريانة: القبض على تلميذين يسرقان الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أطفأ كأس العالم نيران الأزمات الإجتماعية في الجزائر؟
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 11 - 2009

اجتاحت أمواج بشرية طُوفانية شوارع المدن الجزائرية، بعدما انتزع المنتخب الوطني في الخرطوم ورقة الترشح لمباريات كأس العالم لكرة القدم، لكن الجماهير لم تخرج هذه المرّة لتدمِّر منشآت عمومية أو تحرق عجلات مطاطية وتسد منافذ الشوارع، مثلما اعتاد أن يفعل الغاضبون الذين لا يجدون، على ما يبدو، أسلوبا آخر للتعبير عن غضبهم.
فقبل النشوة التي بعثها الانتصار الكُروي في شرايين الجزائريين، كانت الأزمات الاجتماعية تجعل الدِّماء تغلي في عروقهم وتُفجِّر براكين الغضب، حتى في قرى صغيرة نائية، كلما عيل صبرها ممّا تعتبره إهمالا حكوميا لمطالبها الحيوية.
ولوحظ أن مباريات تصفيات كأس العالم وكأس إفريقيا، التي منحت الجزائر انتصارات مُتتالية، تحوّلت إلى مهدّئات تسكّن أوجاع الجبهة الاجتماعية وتخمد نيران الغضب والإحتجاجات الشعبية.
ورأى محلِّلون أن كرة القدم نجحت في صناعة البهجة والاحتفالات، بينما لم تُنتج الجبهة الإجتماعية طيلة العقود الماضية، سوى أعمال شغب وتخريب تسبّبت في سقوط قتلى وجرحى وتكبيد الخزينة العمومية خسائر فادحة.
وهكذا، صنع مدرِّب المنتخب الجزائري رابح سعدان ما عجزت عنه الحكومات المتعاقبة من مصالحة الجزائريين مع أنفسهم، بعد تفريغ شحنة الغضب المتحفّزة داخل كل واحد منهم، بسبب تردّي أوضاع السكن والتعليم والتزوّد بالماء الصالح للشرب أو بالتيار الكهربائي أو لسواها من الصواعق الكفيلة بإخراج المواطنين بالآلاف إلى الشوارع فجأة في أحد أحياء العاصمة أو في قرية نائية.
عود ثقاب
لكن يحدُث أن تنقلب مباريات كرة القدم إلى عود ثقاب يُفجّر غضبا مُدمرا يمر مثل الإعصار في شوارع العاصمة أو مدينة داخلية. ففي وهران سجلت سنة 2008 إصابة 70 شرطيا بجروح و40 متظاهرا وتوقيف 150 متورطا في أعمال شغب هزّت الشوارع، إثر تعادل نادي "المولودية" أمام نادي "الشلف" (1 مقابل 1)، مما انجَرّ عنه تراجُع مولودية وهران في الترتيب.
وسجل خلال تلك الأحداث تدمير أكثر من 120 سيّارة، إضافة إلى حرق مؤسّسات عمومية وتخريب محلاّت خاصّة، وهذه الأعمال محظورة طِبق القانون، إذ ينبغي التذكير بأن الجزائر خاضعة لقانون طوارئ ما زال ساري المفعول منذ فبراير 1992 بموجب مرسوم رئاسي كرّس حظْر المسيرات والتجمعات، إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الداخلية والجماعات المحلية، أو من الولاية (المحافظة) على الصعيد المحلي.
ما الفرق إذن بين احتجاجات المحرومين الغاضبين وأفراح الكرة؟ وكيف يُعقل أن تنجح "قطعة من الجلد المُكوّر" في ما أخفقت في الوصول إليه مفاوضات تحسين القُدرة الشرائية وترفيع الأجور؟ ثم لماذا يخرج مشجِّعو المنتخب الوطني للإحتفال بالنصر بطرق حضارية رافعين الرايات الخضراء ومُطلقين الأناشيد الوطنية، على عكس الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي، التي يطغى عليها السب والشتائم والشعارات غير الأخلاقية، بل والبذيئة في أحيان كثيرة؟
من الواضح أن مسيرات الفرح ليست سوى لحظات عابرة مثل السحب التي تُغطِّي المشهد الاجتماعي الحقيقي قبل أن يعود مجدّدا إلى الاحتقان. وفي رأي باحثين جزائريين، أن تلك الحركات الاجتماعية تحمل رسائل واضحة، لابد من قراءتها وفهْم دلالاتها العميقة.
ويقول الأستاذ زبير عروس، الباحث الاجتماعي الذي ألّف كُتبا ومقالات كثيرة عن تلك الظواهر، إنها تحمل مضامين سياسية واضحة، على رغم طابعها التلقائي. ويرى أن الناس الذين يُقاطعون الانتخابات ينحدِرون من بين تلك الفئات الغاضبة، ممّا يعني أن لديهم وعْيا سياسيا حادّا وأنهم فكّروا في مواقفهم مليا.
وعلق عروس على دوافع حركة الإحتجاج الأخيرة في حي ديار الشمس في بلدية "المدنية"، الواقعة في محيط العاصمة الجزائر والتي سبقت انفجار أفراح كرة القدم بأيام قليلة، بالإشارة إلى أن المواطنين يُبصِرون الثروة أمام أعيُنهم ولا يستطيعون الوصول إليها. وأكّد أن غياب التوزيع العادل لثروة البلاد، هو الذي يدفع الناس إلى اللجوء لتلك الأشكال من الاحتجاج، فهُم يرون أن بعض المواطنين يملكون بيتيْن أو ثلاثة، بينما هم ينتظرون في الأحياء القصديرية منذ سنوات من دون الحصول على شيء.
وشدّد على أن المشكل القائم في العاصمة الجزائر، هو نفسه في تيزي وزو وقسنطينة ووهران، مشيرا إلى أن تلك الحركات الإجتماعية تتّسم بطابع تلقائي، فهي غير مُهيْكلة ولا منظّمة، إذ لا يقف وراءها حزب سياسي ولا تنظيم ولا جمعية.
واعتبر عروس في تصريحه ل swissinfo.ch أن هذا الأمر ينطوي على مخاطر انتشار أي حركة من هذا النوع على صعيد البلاد، في ظل غياب تأطير واضح للاحتجاج، مما يجعل السيطرة على مثل تلك التحركات عملية مُضنِية وشاقة.
اختيار أم اضطرار؟
بهذا المعنى، يجوز التساؤل عمّا إذا كان الخروج إلى الشارع اضطِرارا أم اختيارا لدى أهالي المناطق المحرومة والمهمّشة؟ في هذا السياق، تساءل بعض الإعلاميين الجزائريين: هل الاحتجاجات وحتى الاحتفالات في الشوارع، تِلقائية أم موجّهة ومُفبركة؟ وهل للمحتجِّين والمحتفلين "ثمن" أو مقابل يقبضونه، أكان مادِّيا أم معنوِيا، أم أنهم متطوّعون يرقصون ويغنّون ويحرقون ويخرِّبون مجانا ولوجْه الله؟
وتساءل الإعلامي يحيى الرمضاني "مَن المستفيد من الاحتجاجات والاحتفالات التي تملأ الشوارع ضجيجا، سواء في الانتخابات أو الإضرابات أو الاحتفاء بانتصارات كرة القدم والرياضة؟ هل الخروج للشارع حتمية لتفريغ المكبوتات وشحنات الغضب، أم أنها مجرّد تفريغ للفوضى والعشوائية واللاّنظام، الذي يسكن عقول وقلوب أغلبية الجزائريين؟ هل ما يجري في الجزائر من "شوشرة" في الشوارع هي "حرب شوارع" وهوليغنز، أم هي مؤشر الإرتباط بين المناضلين والمناصرين وأحزابهم ومنتخباتهم الرياضية؟ لماذا انتقاد حالة الطوارئ التي رفعت في بداية التسعينات شِعار "العصا لمَن عَصا"، لكنها تغمض عينيها عن "مُنكر" الإحتجاجات وأعمال الشغب والتخريب؟ هل صحيح أن الحكومات المتعاقبة والسلطات المحلية لم تفهم الرسائل المشفّرة التي يوجّهها المحتجّون عبر الشارع؟ ومَن بوسعه وفي صلاحياته تفكيك القنابل الاجتماعية والاقتصادية والنقابية والسياسية والحزبية والانتخابية، التي تفخخ الشارع وتحرّض على الاحتجاج الذي يسلك في كثير من الحالات طريق الحبّة التي تأخذ شكل القبّة وتكون أحيانا حقا يراد به باطل؟
العنف ثابت من الثوابت الأساسية للهبات الاجتماعية حتى لو كانت هبات فرح وبهجة، مثلما كان الشأن في مظاهرات النشوة بترشح المنتخب الجزائري لمباريات كأس العالم، إذ تعرّضت مؤسسة "أوراسكوم تيليكوم" المصرية، وهي المشغل الأول للهواتف الجوالة، لأعمال تخريب نفّذتها جماعات من الشباب الغاضب، احتجاجا على ما تعرّض له أنصار المنتخب الجزائري في القاهرة.
وحسب حميد قرين، مدير الإعلام في شركة "جيزي" المملوكة ل "أوراسكوم"، اقتحم أكثر من خمسة آلاف شخص في حدود الساعة الحادية عشرة ليلا من مساء الخميس 12 نوفمبر 2009 مقرّ المؤسسة ولم توقفهم سوى التعزيزات الأمنية التي تم الاستنجاد بها لاحتواء الوضع، في حين أكّد أن كافة العاملين في المؤسسة من جزائريين ومصريين وأجانب، لم يتعرضوا لسوء على اعتبار أن الحادثة صادفت يوم عطلة للمستخدمين (الجمعة 13 نوفمبر)، الذين استفادوا أيضا من عطلة مدفوعة الأجر في اليوم التالي (السبت 14 نوفمبر) بمناسبة انتصار المنتخب.
وقدّرت "جيزي" الحصيلة الأولية لخسائرها بملايين الدينارات في انتظار جرد كافة التجهيزات والمُعدّات المخرّبة، عِلما أن أعمال التخريب طالت ما يناهز 15 مركزا وفرعا بالعاصمة، فضلا عن الأضرار المسجلة ببقية الولايات (المحافظات).
وتجدر الإشارة إلى أن الشركة تعرّضت لتلك الاعتداءات، على رغم الدّعم الذي خصّصته لتغطية مصاريف تذاكر الجزائريين الذين سافروا للسودان، إذ تبرّعت بملياري سنتيم للخطوط الجوية الجزائرية لمساندة المنتخب وتسهيل تنقل الأنصار إلى الخرطوم.
عقل مُنفلت من الضوابط
وفي محاولة لفهم ضخامة رد الفعل على المباراة المصيرية بين الجزائر ومصر، تساءل الإعلامي الجزائري فاروق زاهي عن السبب الذي جعل مواطنيه لا يكترثِون لانتصارات رياضية أخرى كبيرة ولا يبتهجون بها مثل هذا الابتهاج المُنفلت من ضوابط العقل. ونفى في تصريح ل swissinfo.ch أن تكون المسألة مُرتبطة بالشرف والكرامة الوطنية، مستدِلا بأن كرامة الجزائريين المهاجرين سِرا تُهدر يوميا على أسوار بلدان الضفة الشمالية للمتوسط.
ومضى يتساءل: لماذا لا نوجِّه هذه الطاقات الشبابية الجبّارة إلى ورشات ضخمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تضمن الكرامة لهؤلاء الشباب المُهمشين؟ وقارن ما تعيشه الجزائر من أزمة سكن بآلاف الأبراج السكنية التي يشيدها الصينيون يوميا، على رغم أن أوضاع حقوق الإنسان في بلدهم ليست على ما يرام.
لكن إعلاميين آخرين اعتبروا أن الرئيس المصري حُسني مبارك قدّم خدمة كبيرة للجزائر بدفعه إلى لحمة مقدّسة لم يسبق لها مثيل بين النظام السياسي والشعب منذ أكثر من عشر سنوات. غير أن الصحفي حبيب الخروبي، وهو من أنصار هذا الرأي، قال ل swissinfo.ch، مُحذرا "علينا أن نعرف إلى أين سيُوجه الحكم هذه الهِبة الشعبية العارمة: هل سيُواصل قيادة الشعب الجزائري بالأسلوب السابق، أي إبقائه على الهامش وتجريده من مقتضيات السيادة؟" وأجاب على السؤال بقوله "إذا كان الأمر كذلك في المستقبل، فسيكون إغواء خطرا، لأنه سيقود إلى نتيجة مُدمّرة وغير قابلة للإصلاح".
المستقبل... هو الشاشة التي لا يكاد أحد يتبين ما كُتب عليها خلْف غُبار مسيرات الفرح التي جابت جميع مدن الجزائر. والأرجُح، أن نزول درجة حرارة الحماسة والعواطف مع مرور الأيام سيجعل مارد الإحتجاجات الشعبية يستيقظ من قمقمه مجددا، ويستأنف جولاته عبر المناطق الجزائرية.
فقبل "الوحدة الوطنية"، التي صنعها أبناء رابح سعدان في الأيام الأخيرة، اتسم العقد الحالي بتفجر الانتفاضات والهزّات منذ المسيرة التي نظمها ما كان يعرف ب "عروش منطقة القبائل" في 14 يونيو 2001 بالعاصمة، والتي شكلت أكبر تحدٍّ لمرسوم حالة الطوارئ، إذ كسرت المحظور وسخرت من القانون للمرة الأولى منذ مسيرات "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة في موفى ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي.
وفتحت مسيرة العروش الشهيرة الطريق واسعة أمام ضحايا سوء التسيير والمهمّشين والمحرومين من أبناء الجزائر العميقة، كي يعبِّروا عن معاناتهم بصوت مرتفِع وبطرق وأساليب تجاوزت حدود حرياتهم وما يسمح به القانون، لأن المتضرّرين من احتجاجاتهم، كانوا مواطنين مثلهم طال ممتلكاتهم التخريب أو حرموا من التنقل لقضاء حوائجهم.
ومع ذلك، تجاهلت الحكومة مطالب هؤلاء، إذ حمل رئيسها أحمد أويحيى المسؤولية لمن أسماهم "أصحاب الريع والسياسويين"، وتعهّد لما كان بصدد التعليق على الاحتجاجات الأخيرة التي أعقبت آخر قرار برفع أسعار الوقود ب "تطبيق القانون بصرامة لاستعادة النظام والأمن".
ولم يكن هذا التصريح مجرّد موقف عابِر من حركة احتجاج بعينها، فقد عاد أويحيى في تصريح آخر ليهدّد المتسبّبين في "موضة" الإحتجاج عبر قطع الطرق، بتسليط أقصى العقوبات عليهم. ولم يتطرق إلى مسؤولية الجهاز التنفيذي في التوزيع العادل للثروة والمسؤولين المحليين في تعطيل المسيرة التنموية، مما دفع الناس إلى العِصيان.
ولم يكن تعاطي الوزير الأول مع الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة مُختلفا عن غيره من أفراد الطاقم الوزاري، إذ سبق لوزير الدولة وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين (يزيد) زرهوني، أن نحا باللائمة على الجمعيات ومكوّنات المجتمع المدني، متهما إياها ب "التقصير"، على خلفية عدم مساهمتها، كما قال، في تطويق الأحداث التي عاشتها مدينة وهران، بعد نزول فريقها الأول "مولودية وهران" إلى القسم الثاني.
والأرجُح أن مشاكل السكن والتوظيف وزيادة الأجور وضعف القدرة الشرائية والجامعة والمدرسة... صواعق تُفجر حركة الشارع بين وقت وآخر وتُهدد الاستقرار الاجتماعي. ويعتبر علماء الاجتماع الجزائريون أن قطاع التربية هو أكثر القطاعات تسجيلا للإحتجاجات وخروج موظفيه إلى الشارع. "فالوضعية المزرية للأستاذ ابتداء من الراتب الزهيد إلى الضغط الاجتماعي إلى أزمة الأساتذة المتقاعدين، دفعت بالمعلّقين إلى القول بأن الأساتِذة أصبحوا يقضون أوقاتهم في الشارع للإحتجاج أكثر مما يقضونها في الفصول للتدريس، بل هم نقلوا عدوى الإحتجاج والخروج إلى الشارع لتلامذتهم، إذ صنع تلاميذ الثانويات بمآزرهم البيضاء الحدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة بمسيرات تطالب بإصلاح إصلاحات بن بوزيد (وزير التربية)"، كما قالت ل swissinfo.ch الباحثة طاوس عبد الباقي.
أما الظاهرة الجديدة التي أشارت إليها طاوس عبد الباقي، فهي "التقليد"، الذي أصبح يسبق ويتبع مسابقات التوظيف في مختلف القطاعات، إذ كثيرا ما تندلع مظاهرات المتسابقين من خرِّيجي الجامعات الجُدد وحاملي الشهادات العليا، بعدما حاصرتهم البطالة والتهميش والفقر وباتوا يعيشون تحت ضغط هاجس قائمات الناجحين في المسابقات، إذ أنهم يشكون في أن تلك القائمات تُعد قبل إجراء المسابقة وِفق معايير الواسطة والزبونية والرشوة، وعادة ما تكون هذه المظاهرات ناجحة ومنظمة بدقة.
فقد سبق لهذه الفئة من المتظاهرين أن عبّرت عن مطالبها في الشارع، بعد أن ضاقت بها الجامعات أثناء التدرج في ظل مشاكل الخدمات الجامعية وتدني مستوى التكوين وابتزازات الأساتذة، وإن كانت مفردة "الحڤرة" (الإحتقار)، السبب الرئيسي في خروج أغلب الجزائريين إلى الشارع والإجماع على شعار "لا للحڤرة"، الذي كان أهم لافتة ترفع في مسيرات المتظاهرين.
قتلى وجرحى بالعشرات وتخريب بالمليارات
ولئن ثبطت حالة الطوارئ ومنع المسيرات، عزيمة الجزائريين في التعبير عن أفراحهم وأتراحهم في الشارع، فإن العُدوان الإسرائيلي على غزّة مطلع السنة الجارية، وحّد المصلِّين في مساجد العاصمة ليستجِيبوا لدعوة الشيخ يوسف القرضاوي ويشاركوا باقي المسلمين في عواصم العالم في مسيرات "جُمعة الغضب"، ويكسِروا بذلك قرار منع المسيرات في العاصمة بعد أكثر من ثمان سنوات من فرضه، ربّما لأن مكانة القدس والقضية الفلسطينية في قلوب الجزائريين، تحدّت كل الموانع السياسية.
ويمكن القول أن كثرة المسيرات التِّلقائية التي تتفجِر في الجزائر من دون سابق إعداد أو تخطيط، تُعزى إلى الموانِع التي يتضمّنها قانون حالة الطوارئ، وهو يستند على مرسوم رئاسي يحمل الرقم 92 44 ومؤرخ في 9 فبراير 1992 ويتكوّن من 12 مادة. ويحظى وزير الداخلية، حسب نصِّ المرسوم، بصلاحيات واسعة، بحيث يُمكنه أن "يأمر باعتقال أي شخص راشد يتّضح أن نشاطه يشكِّل خطورة على النظام والأمن العموميين أو على السّير الحَسن للمصالح العمومية". ويمنح البند السابع وزير الداخلية والولاة صلاحية "اتِّخاذ قرار الإغلاق المؤقّت لقاعات العروض الترفيهية وأماكن الاجتماعات، مهما كانت طبيعتها، وبمنع كل مظاهرة يُحتمل فيها الإخلال بالنظام والطُّمأنينة العمومية".
وبحسب صحيفة "الوطن"، بلغ عدد ضحايا أعمال الشغب والتخريب والإنزلاقات، التي تحدُث خلال الاحتجاجات والمظاهرات، أكثر من 200 جريح في صفوف قوات الأمن وخسائر بالمليارات تتكبّدها الخزينة العمومية سنويا، بينما تجاوَز مجموع الموقوفين لتورّطهم في أحداث الشغب والتخريب 150 موقوفا، إضافة إلى عشرات الجرحى في صفوف المواطنين في احتجاجات مختلفة ومتفرِّقة عبْر ولايات الجزائر خلال بضعة أشهر، انطلاقا من وهران إلى بريان إلى العاصمة والبليدة وغيرها من الولايات، وكانت آخرها، أحداث ديار الشمس في ضواحي العاصمة التي خلّفت 15 جريحا في صفوف قوات حِفظ الأمن خلال مواجهات بين السكان والشرطة، من بينهم رئيس أمن دائرة بئر مراد رايس، الذي نقل مباشرة إلى العناية المركّزة.
وانتهت الأحداث بتوقيف 15 متورّطا في الأحداث وإحالتهم على القضاء، ومن بينهم أربعة قُصّر أطلِق سبيلهم، وخمسة أشخاص آخرين من ذوي السوابق العدلية وُضِعوا رهْن الحبس، في حين استفاد الباقي من الإفراج المؤقت. وقال وزير الداخلية يزيد زرهوني حينها إنه "لم يتم تسجيل أي جريح بين المواطنين"، متأسِّفا لوجود عدد كبير من الجرحى في صفوف قوات حفظ الأمن.
هكذا سقط 168 جريحا عبْر البلاد خلال احتفالات الأنصار بفوز الخُضر على الفريق الرواندي قبل نحو أسبوع من الإنتصار على المنتخب المصري، كما خلّفت تلك المظاهرات مقتل 15 شخصا، منهم 9 في كل من العاصمة ووهران وتيارت وسعيدة وعين الدفلى، وأصِيب عدد من المُتابعين لهذا الحدث الكُروي بنَوبات قلبية، أفضت إلى وفاة 6 مناصرين، بينما تحدّثت وكالة الأنباء الجزائرية عن إصابة 71 شخصا، من بينهم ثلاثة أعوان من الأمن الوطني بجروح مباشرة عقِب اللقاء الكروي، وتم نقل الأشخاص المصابين نتيجة تعرّضهم للسقوط أو الاعتداءات بواسطة السِّلاح الأبيض إلى مصلحة الاستعجال، كما تعرّضت عشر وسائل نقل وآليات أشغال عمومية تابعة لمؤسسة كورية جنوبية بالمديّة للتّخريب على يد مجموعة من الشباب الذين استغلّوا الفرحة الشعبية العارمة التي تلت فوز الفريق الوطني لكرة القدم، لارتكاب أعمال تخريب.
كذلك سجّل جرح 30 عُنصرا في صفوف قوات الأمن في انزلاقات خطيرة ومواجهات عنيفة شهدتها مظاهرات التضامن مع غزة، عندما حاولت قوات الأمن منْع المتظاهرين من تنظيم مسيرة في الجزائر العاصمة، وتفجّر غضب المتظاهرين الذين حاولوا اختِراق الحاجز الأمني بالقوّة، وصعد عدد من المراهقين فوق بناية ما تزال قيْد الإنجاز تابعة لأحد الخواص، وبدؤوا يرشِقون عناصر الأمن من أعلى البناية بأعمدة من القُضبان الحديدية، وأمطر المتظاهرون عناصر الأمن بقِطع القرميد والحجارة والقضبان الحديدية والآجر والألواح وأعمدة النوافذ والأبواب ومختلف مواد البناء وأجزاء من الكراسي المهملة، وكل ما وجدوه أمامهم، ممّا خلّف أكثر من 30 جريحا في صفوف عناصر الأمن، وكلهم مُصابون على مستوى الوجْه والفكّ والأرجل والبطن والصّدر، كما سجِّل عشرات الجرحى في صفوف المتظاهرين أيضا.
الخروج إلى الشارع.. ثم ماذا بعد؟
وقال شهود عيان ل swissinfo.ch "إن مقابلات كُرة القدم، وخاصة مباريات الدربي (أي بين الأجوار)، تستنفر قوات مكافحة الشّغب وجميع السكان في مُحيط الملاعب الرياضية، حيث عادةً ما تشتعِل حروب مفتوحة بين المُناصرين بمجرّد خروجهم من الملعب وتدفُّقهم إلى الشوارع والأزقة، حيث تُخلِّف المواجهات الدّامية بين المشِّجعين فيما بينهم ومع قوات مكافحة الشغب خسائر بشرية ومادية فظيعة.
وأفاد زين العابدين جبارة، إن قوات مكافحة الشّغب وعناصِر حفظ الأمن العمومي، تُصنِّف المقابلات التي تجمع مولودية الجزائر باتِّحاد الحراش أو نصر حسين داي بشباب بلوزداد، في الخانة الحمراء، حيث تُطوّق قوات الأمن الطرق المؤدِّية للملاعب التي تحتضِن هذه المقابلات الرياضية، بعد أن أسقطت عنها المواجهات غير الرياضية بين المناصرين صفة اللِّقاء الرياضي.
وكما هو الحال في شمال البلاد، فإن منطقة الشرق الجزائري تشهَد اشتِباكات حادّة بين مناصري وِفاق سطيف وشباب أهلي برج بوعريرج، والأمر سيان قبل وبعد دربي شباب قسنطينة ومولودية قسنطينة. أما مواجهة مولودية بْجاية، لشبيبة بجاية، فتستدعي استنفارا كامِلا لقوات مكافحة الشغب لتفادي ثورة شعبية بين المناصرين، يذهب ضحيتها جيران الملعب والقاطنون على حافتَيْ الطُّرق المؤدِّية له.
قُصارى القول، أن الخروج إلى الشارع بات أداة أساسية للتّعبير عن الغضَب والاحتجاج أو الفرحة، وأصبح يطبع حتى المواعِيد السياسية، غير أن اللّجوء إلى الشارع في أعقاب المواعيد والإستحقاقات الانتِخابية يختلِف في مضمونه وشكْله عن الحالات الأخرى.
فلئن أصبح الشارع وِجهة المنتفِضين والغاضبين الجزائريين للتّعبير عن احتجاجاتهم على وضع معيَّن، والتي غالِبا ما تكون ذات علاقة بالأوضاع الإجتماعية، كأزمة السكن والبطالة والفقر، فإن الشارع أصبح كذلك الوِجهة المفضّلة لأعضاء الأحزاب والمشاركين في المواعيد السياسية والإستحقاقات الانتخابية، وربما يعود في يوم ما ساحة تتردّد فيها أيضا أصداء التيارات الإسلامية المنكفِئة على نفسها الآن.
رشيد خشانة - تونس - swissinfo.ch


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.