الإسلام في سويسرا بين المد والإنتكاس أبو الفضل محمد بن هندة الفجرنيوز أستاذ القانون والعلاقات الدولية باريس
مقدمة تعتبر سويسرا من أكثر البلاد في العالم استقرارا ورخاء وأمنا وسلاما، وكذلك احتراما لمواطنيها ولأرآئهم والدفاع عن مصالحهم في الداخل والخارج. فالقوانين السويسرية تسن بطرق شعبية وحكيمة . كذلك تعتبر الدبلوماسية السويسرية ورجالها من أحذق الدبلوماسية في العالم. ولعل ذلك يرجع إلى تكوين واستقرار الإتحاد السويسري ومكانته العريقة في أوروبا ودول العالم. فالإتحاد السويسري يعتبر من أقدم من النظم الدستورية والأتحادية وأرسخها في العالم. فقد أعلنت الجمهورية في سويسرا في نهاية القرن الثالث عشر ( 1291) بعد انفصالها عن النمسا في عهد أسرة هابسبورج. وذلك في زمن كانت تئن فيه أوروبا تحت نير نظام الإقطاع والإستبداد الملكي. وتجنا للحروب والصراعات بين الدول الأوروبية اختارت سويسرا نظام الحياد ، الذي جعلها تعيش في أمن وسلام. ويبلغ اليوم تعداد سكان سويسرا حوالي 7 ملايين منهم مايقارب النصف مليون أجني ، وعاصمتها الأتحادية بيرن. وسكانها خليط من جنسيات وأعراق مختلفة، فمنهخم الإيطالي والفرنسي والألماني والنمساوي والعربي. ولهذا السبب للسويسرا عدة لغات رسمية. انتشار الإسلام في سويسرا الإسلام هو أحد أبرز الديانات السماوية في سويسرا. فوفق إحصاءات 2001، بلغ تعداد المسلمين أكثر من 310 ثلاثمائة وعشرة آلاف، وبذلك يشكلون ما يزيد عن الأربعة في المائة من مجموع السكان، ومع ذلك فالإسلام غير معترف به رسميا في البلاد وذلك رغم التواجد الإسلامي في سويسرا منذ ما يزيد عن العشرة قرون. فقد دخل الإسلام إلى سويسرا، قلب أوروبا، عن طريق إيطاليا وفرنسا في بداية القرن العاشر الميلادي حوالي سنة 939 وذلك عن طريق مدينة سان غال التي تقع اليوم في سويسرا. ومنها أرسل الفاتحون عدة حملات إلى باقي البلاد السويسرية، وأقاموا فيها ثغورا متفرقة في أعالي جبالها، جبال الألب ، الأمر الذي حدى بإمبراطور الألمان إلى إرسال سفارة بشأنهم إلى الخليفة الأموي في الأندلس ، عبد الرحمن الناصر. وقد تعزز هذا التواجد بعد سقوط الأندلس، حيث لجأ إليها عدد كبير من المسلمين فرارا من الاضطهاد الديني والتعصب المسيحي ومحاكم التفتيش. لكنهم ، بمرور الزمن اندمجوا في السكان الأصليين واندثر كيانهم المتميز. وفي عصرنا الحاضر، لجأ كثير من المسلمين خاصة بعد الحرب العالمية الأولى إلى سويسرا طلبا للحماية والأمان من بطش الحلفاء فرنسيين كانوا أو ألمان. ومن أبرز أولئك الأمير شكيب أرسلان ثم بعد ذلك سعيد رمضان، حيث أسس هذا الأخير، بعد هروبه من مصر، بعد الثورة المصرية ،المركز الإسلامي في جنيف الذي يعتبر من أولى المراكز الإسلامية في أوروبا. وبفضل جهود الإسلاميين وبزوع فجر الصحوة الإسلامية المباركة دخل عدد كبير من السويسرين إلى دين الله عن قناعة وطواعية، وانتشر في ربوع سويسرا عدد كبير من المراكز الإسلامية والمساجد والمصليات وصار تواجد المسلمين أمرا واقعيا يفرض التعايش السلمي بينهم وبين الأديان الأخرى. لكن تنامي الإسلام في سويسرا وتزايد أعداد المسلمين خاصة والأجانب عامة ثار حفيظة كثير من السويسرين. فالكثيرون منهم يرون أن ظاهرة هجرة الأجانب وتعدد أعراقهم ودياناتهم ومظاهر تواجدهم صار يهدد النسيج الأصلى للسكان وعاداتهم وتقاليدهم وأديانهم. فظهرت ردود فعل متفاوية بين السكان والتيارات السياسية والاجتماعية والدينية، حتى أصبحت ظاهرة رفض الأجانب مطية لبعض الأحزاب السياسة التي تتطلع إلى السلطة من خلال جلب أصوات الناقمين والمعادين للأجانب وخاصة المسلمين منهم. فمن ما لا شك فيه أن تصرفات الغالبية من المسلمين لا تعكس القيم والأخلاق الإسلامية الحميدة والمادئ العليا التي ينادي بها الإسلام الحنيف ، الأمر الذي جعلهم أكثر من غيرهم عرضة للتنامي العنصري والكراهية الاجتماعية ، ومن ذلك الموجة المعادية لرفع المآذن في المساجد. وتحت ضغط كبير لجأت الحكومة السويسرية إلى أسلوب حضاري يتماشى وتقاليدها وقوانينها وهي الإستتفتاء الشعبي حول رفع المآذن في المساجد في الإتحا السويسري. فكانت نتيجة الاستفتاء بنسبة تفوق 57 في المائة وقد جاءت ردود الفعل على هذه النتيجة، في داخل سويسرا وخارجها متفاوتة، بين مناهض وشاجب لها وبين متعقل ومتروي. فإذا كانت هذه النتيجة تظهر لا محالة مناهضة الأغلبية لرفع المآذن في المساجد، ومن ثم التواجد الإسلامي، فإنه من الحكمة والتعقل احترام رأي الأغلبية وعدم معارضتها بطرق منافية للقانون، خاصة وأن رفع المآذن في المساجد غير واجب في الإسلام. فأن ما يعود على الإسلام والمسلمين في سويسرا أكثر بكثير من ما يعود عليهم برفع المآذن. فالمسلمون في سويسرا يمارسون شعائرهم واجتماعاتهم بحرية وكرامة ودون اعتداء عليهم. إن على المسلمين في سويسرة أن يهتموا بأمور أخرى سامية ، أنفع وأجدى لهم كتربية أبنائهم وتعليمهم وتحصينهم من الانسلاخ والذوبان ليكونوا بذلك قدوة يحتذى بهم في التربية والأخلاق والسماحة والعلوم . فيتبوؤون بذلك المراكز المرموقة في المجتمع، بفضل جهودهم ومسامحتهم، في توجيه وتطوير المجتمع السويسري. أما ردود الفعل المتشنجة والغير متكافئة و الغير مسؤولة فإنها لا تجدي نفعا، وإنما تسيء إلى المسلمين، فتظهرهم بأنهم متعصبون ولا يحترمون القانون ويريدون أن يفرضوا ووجودهم في بلاد لا يكونون فيها لا أغلبية سكانية ولا مكانة علمية ولا اقتصادية. أما ردود الفعل الحقيقية من طرف الدول الإسلامية فغير منتظرة في أيامنا هذه. فحالهم اليوم يندى له الجبين، تأججهم النعرات الجاهلية وتكاد تندلع بينهم الحروب لأتفه الأسباب كاللعب بكرة القدم التي لا ترفع من قدر أمة ولا تحط من شأنها. فعلى المسلمين في سويسرا أن يتحلوا بالحكمة ويعتصموا بحبل الله المتين ويعملوا ويصبروا ويصابروا حتى يأتي الله بأمره، وهو أحكم الحاكمين. قال تعالى في محكم التنزيل :هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.