لا شك في أن المسلم المتدين العادي المتابع للأحداث يعاني هذه الأيام حيرة شديدة، فهو لا يدري من يصدق، وبمن يقتدي. لقد تعددت الفتاوى الصادرة عن شيوخ، لا تنقصهم المعرفة الدينية ببعديها العقائدي والفقهي، ولكن الذي يفرقهم عن بعضهم عوامل عدَّة من بينها: الموقف السياسي، والعلاقة بالأنظمة، وطبيعة المصالح التي يدافعون عنها، وتباين مناظيرهم لمصلحة الأمة ومصلحة الإسلام. هذا الأمر ليس جديدا؛ إذ عرفه المسلمون في مختلف عصورهم الذهبية والبائسة، لكن وتيرته تكثَّفت في الفترة الأخيرة، وتجلت بالخصوص من خلال أحداث ثلاثة خطيرة على الأقل. تعلق الحدث الأول ببناء الجدار الفولاذي الذي سيفصل مصر عن غزة على أكثر من صعيد، وسيبقى علامة فارقة في تاريخ هذه المنطقة. وبهذه المناسبة صدر بيان باسم مجمع البحوث الإسلامية قرأه شيخ للأزهر في جلسة رهيبة. ولم يكتف هذا البيان بوضع المبررات الدينية لإضفاء الشرعية على هذا الإجراء السياسي، وإنما اعتبر أيضا أن كل من يخالفه يجد نفسه معارضا لأحكام الشريعة الإسلامية، أي: أن صاحب أو أصحاب هذه الفتوى قد جعلوا من عملية بناء الجدار ثابتا من ثوابت الأحكام الشرعية لا يجوز الاعتراض عليه، وإلا عوقب من سولت له نفسه أن يخالفه ويشكك في شرعيته. وقطعا فإن هذه الفتوى قد أدخلت الذين يتخذون من الذين أصدروها قدوة لهم في وضعية إيمانية شاذة وقاسية. هل ينصاعون لشيوخ كبار، يتلقون منهم كيف يعبدون ربهم ويتقربون إليه، وبالتالي يبررون معهم بناء هذا السور الذي سيزيد بالتأكيد من معاناة سكان غزة ويعرضهم لمخاطر شديدة ولابتزاز دولي لن يتوقف إلا بانهيار سكانها، أم أنهم يحكمون عقولهم وعواطفهم، ويرون في ذلك عملية صادمة لوجدانهم الديني والوطني؟ حتى الأصوات العلمية الأخرى التي نادت بالنقيض مثل الشيخ القرضاوي الذي أفتى بحرمة بناء هذا الجدار، فهي على أهميتها ووزنها، إلا أنها قد تكون غير كافية وحدها لكي تزيل الحرج عن قطاع واسع من المتدينين؛ لأن هذه الأصوات المضادة والمعارضة بقوة لتوظيف الدين من قِبَل الأنظمة، قد كشفت عن أن الفتوى يمكن أن تنقلب بنسبة قد تفوق 180 درجة. وهو ما من شأنه أن يصيب المرجعية الدينية في العمق، ويفقدها المصداقية والجدية، ويزيل عنها تلك الهالة المعنوية التي أكسبتها ولا تزال سلطة ونفوذا على المتدينين. أما الحادثة الثانية، فهي تخص ما يجري في إيران منذ أشهر، فهذه الأحداث ليست سوى تعبير عن صراع سياسي بامتياز بين فريقين متنافسين على السلطة، لكل منهما وجهة نظر ومصالح يدافع عنها. وعندما ارتفعت أصوات إصلاحية تنتقد المرجع الديني الأعلى آية الله خامنئي، انتفض خصومها من المحافظين، وقام حجة الإسلام أحمد خاتمي في صلاة الجمعة بطهران ليعلن أن (الراد على الولي الفقيه كالراد على الإمام المعصوم وهو كالراد على الله، فمخالفة الإمام تعني الإشراك بالله). قيل ذلك في حين أن الدستور الإيراني لم يؤله ولي الفقيه، ولم يجعله فوق النبي كما يدعي البعض، والدليل على ذلك أن هذا الدستور تعرض لحالات العجز التي يمكن أن يصاب بها، ووضع أيضا آلية لاستبداله. ولا شك في أن الذين حظروا خطبة حجة الإسلام أحمد خاتمي تعرضوا بدورهم لامتحان إيماني قاسٍ. فهم يمكن أن يكونوا من أنصار النظام بناء على اقتناعهم السياسي الوثيق بشرعيته وبشرعية قياداته الدينية والسياسية، واعتقادهم بأن النظام القائم حاليا هو الأفضل لإيران في هذه المرحلة التاريخية، لكن إمام الجمعة قد حاول إقناعهم بأن الاختلاف مع ولي الفقيه حول مسألة سياسية قد يوقعهم في الشرك، وبالتالي عليهم أن ينظروا إلى معارضي النظام ليسوا باعتبارهم خصوما سياسيين وإنما أيضا باعتبارها عصاة بالمفهوم الديني، نظرا لوقوعهم في الشرك عندما تجاوز بعضهم الخطوط الحمراء وقام بمناقشة ولي الفقيه أو الاعتراض على بعض مواقفه وقراراته السياسية. أما الحادثة الثالثة، فتتمثل في الخطبة النارية التي ألقاها إمام وخطيب جامع البواردي في الرياض الشيخ محمد العريفي (41 عاما)، والذي يعتبر حاليا من بين أكثر دعاة المملكة العربية السعودية تأثيرا في شبابها المتدين. ففي تعليقها على ما يجري في اليمن، انتقد الخيار العسكري لمجمعة الحوثيين، لكنه فجأة انتقل من المجال السياسي ليشن هجوما عنيفا ضد الشيعة كفرقة إسلامية، معتبرا أن أساس مذهبهم هو المجوسية، واصفا المرجع الديني المعروف آية الله السيستاني بالزنديق والفاجر، مؤكداً أن عقائد الشيعة باطلة. وبذلك أعاد العريفي العلاقة بين الشيعة والسنة على نقطة الصفر، وسكب البنزين على خلاف سياسي ومذهبي له الآن أكثر من أربعة عشر قرنا. وقد كان مهما أن يحتج على هذا المنطق الطائفي شيوخ سعوديون لهم وزنهم في الحقل الديني الشعبي والرسمي مثل الشيخ عبدالمحسن العبيكان المستشار في الديوان الملكي السعودي، والذين شجبوا مثل هذا الأسلوب التحريضي. لكن رغم ذلك، فإن اللجوء إلى منطق التجييش الديني لأغراض سياسية من شأنه أن يؤدي إلى كوارث مثل تلك التي حدثت في العراق أو في باكستان. الخلاصة أن هذه الأحداث وغيرها تستوجب تفكيرا جديدا وعميقا حول كيفية تحرير الإسلام من لعبة السياسة والسياسيين. فالمعارك السياسية لها فضاءاتها وآلياتها وأصحابها، وهي معارك يجب أن تقنن وأن تدار ضمن قواعد جاءت الديمقراطية لتوضيحها وتنظيمها. أما المسائل الدينية فلها أيضا مجالاتها وعلومها ومنطقها الداخلي، ووضع لها الكثير من الأصوليين قواعد لإدارة الخلاف بين أصحابها. والذين لا يحترمون هذه الفروق المهمة بين المجالين، فإنهم طال الزمن أم قصر سيكونون في النهاية ضحية من ضحاياها. *كاتب وصحافي تونسي العرب القطرية 2010-01-16