على جمال الدين ناصف الفجرنيوز بورسعيد - مصر لى صاحب أنعم الله عليه بالثراء فى المال فكان يمتلك مصنعا كبيرا وضع فيه كل ما يملكه من مال عن حصاد سنين العمر ، فقد أصابه النار فأتى عليه بكامله و قدرت خسائره بالملايين . فصاحبى هذا فى السنين الاخيرة من عمره ، ليس له قوة الشباب ولا أمل الشباب ، إذ كانت ثروته الضائعة هى ثروة العمر و حصاد جهد و مجهود العمل .
جاءه من يسأله عن هذه الكارثه و أسبابها و مقدارها ، فأجابه : " لست أفكر فى شئ من ذلك ، و إنما يملك علىٌ كل فكرى الآن : ماذا أنا صانع غدا ". لقد نال من إعجابى هذا الاتجاه العملى فى التفكير ، فأنه دليل الحياة و عنوان القوة ، و مبعث النشاط ، فما دمت حيا عليك أن تفكر دائما فى وسائل الحياة و وسائل السعادة فى الحياة ، فتلك كلها أمامك لا خلفك و هى فى الغد لا فى الأمس 0
إن ما أجاب به صاحبى يؤكد أنه يمتلك عقليه أقوم مما إبتلعته النيران ، و نفسية خالدة لا تفنى بفناء المال ، لذلك يتبدى أمامنا أن الحياة الناجحة تفكر فى الغد و الحياة الفاشله تبحث فى الأمس ، و لعلى فى هذا السياق أتذكر ما قالوه قديما " إذا أفلس التاجر فتش فى دفاتره القديمه " . فلأمر ما خلق الله عز وجل الوجه فى الأمام ولم يخلقه فى الخلف ، و جعل بقدرته العين تنظر إلى الأمام و لا تنظر إلى الخلف ، فقد يلوى الانسان عنقه لينظر الى الوراء إذا دعت الضرورة ، ثم يعود إلى سيرته الاولى و ماكان عليه من النظر الى الامام ويمضى قدما لشأنه ، فإننا لم نرى إنسانا طبيعيا قد لوى عنقه بصفه دائمه ونظر الى الخلف دائما . و قد شاءت قدرة الله علينا أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام و إلى الخلف معا ، فيكون نظره للخلف وسيلة لحسن النظر إلى الامام ، فالبعض من الناس ينظرون بعقولهم إلى الخلف و قد عكسوا الوضع فجعلوا النظر الى الخلف غاية لا وسيلة .
إن هؤلاء الناس ما إن حدثتهم فيما هم صانعون غدا ، حدثوك عما صنعه أباؤهم الأولون ، كيف كانوا محاربين ذو شأن عظيم ، كيف إنتصروا فى أعتى المعارك و اشدها ، كيف سادوا العالم وتسيدوه ، و كيف و كيف ..الخ .
لا نختلف مع هؤلاء الناس فى ذلك كثيرا أنه حق لو أتخذ وسيلة لعمل مستقبل ، و لشحذ الهمه لعمل مستقبل ، أما أن يكون غرضا فى نفسهم ، فإنه يشكل حديث العجزة و من أصابهم الفقر العقلى وضعف الارادة .
فهؤلاء الناس اللذين يثيرون العداوات و الاحقاد القديمة بين رجال الامه و قادتها ، فإن طالبتهم أن ينظروا إلى الامام ، تجدهم يأبون ألا يذكرون لك تاريخ و حزازات و سخائم الامس ، و هم بذلك لا يدرون أنهم يعطلون مصلحة و خير المستقبل ، فليس من الصح أن ينظر فى الامس إلا لتجنب أخطاء الغد ، و الانتفاع بصواب الامس و خطئه فى الغد .
إن هؤلاء الناس وقفت عقولهم و إعتقادهم بأن كل شئ كان خيره فى الامس و شره فى الغد ، فخير البلاغة عندهم ما قال به الجاحظ ، و خير الفلسفه عندهم ما قاله إبن سينا و إبن رشد و الفارابى ، و خير النحو أيضا ما وضعه سيبويه ، و خير الاخلاق أخلاق آبائنا و خير صور الدنيا ما سبق من العصور ، و أنه لم يتبقى فى هذا الزمن إلا الحثاله من كل علم و أدب و خلق ... الخ ، و أنهم يعتقدون أن العالم كله سائر إلى التدهور فى الغالب ، فالامس خير من اليوم ، و اليوم خير من الغد ، فهذه العقلية لا تنفع للحياة أو للجهاد أو لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا فى سلم الحياة ، إنما تنفع للفناء و ما نحوه .
أن ما يجب أن ننشده هو المستقبل لا الماضى ، أن نسعى دائما إلى اللغه التى تصلح لنا و تؤدى مطالبنا فى الحياة هى فى المستقبل لا فى الماضى ، فليس لنا فى الماضى إلا ما يصلح للمستقبل بعد أن ننقيه من غباره و إبعاد ما تعفن منه فالخير دائما إن كنت فى ظلمة أن تأمل فى طلوع الشمس غدا من أن تذكر طلوعها بالأمس ، فترقب طلوع الشمس غدا هو الامل و الطموح إلى ما هو آت ، و فى هذا معنى الحياة ، و فى تذكرك طلوعها أمس حسرة على ما فات و ألم من خير كنت أنت فيه إلى شر صرت فيه ، و فى ذلك معنى الفناء .
أن شر ما نلحظه على هؤلاء الناس حنينهم الشديد إلى الماضى ، لا أملهم القوى فى المستقبل ، و إعتقادهم أن خير أيامهم ما سلفت لا ما أقبلت ، و إعجابهم الشديد بأعمال الماضى و إهمال الحاضر ، أعتقد أن هؤلاء لهم منظاران : منظارمكبر يلبسه إذا نظر إلى الماض ... و منظار مصغر أسود يضعه إذا نظر إلى الحاضر و المستقبل ، يتلذذون فى أن يطيل البكاء على الميت ، ولا يلذهم أن يتدبرون فيما يجب أن يفعله الاحياء . كل ذلك يلائم ما فى نفسهم من تعظيم الماضى و تحقير أو تدنية الحاضر و المستقبل ، أنهم يعيشوا فى أحلام ، ولا يريدون أن يعيشوا فى حياة واقعة ، و حول هذه المعيشه الحالمة ، تراهم ينسجون دائما ما يوافقها و يمازجها و يجاريها ، و يكتفون بالأمل أن ينعموا بالآخرة ، و ماذا عليهم إن عملوا لينعموا بالدنيا و الآخرة.