بعد قُرابة ثلاثة أسابيع على بدءِ الانتخابات البرلمانية العراقية، أعلنت أخيراً المُفوضية المسؤولة، النتائج الرسمية التي تضمّنت انتصاراً رمْزياً غيْر مُتوقّع للقائمة العراقية بقيادة السياسي العِلماني (الشيعي) إياد علاّوي (91 مَقعداً من أصل 328). وجاء نوري المالكي، رئيس الوزراء وائتلافه دولة القانون في المرتبة الثانية (89) مقعداً، أي بفارق مقعديْن فقط، فيما حصلت القِوى الشيعية المُقرّبة من طهران والمتكتّلة معاً على (70) مقعداً، وحلّ التّحالف الكردستاني رابعاً ب (43) مقعداً. على الرغم من تلويح المالكي بالعوْدة إلى العُنف وبخطورة تدهْور الأوضاع الأمنية جرّاء احتجِاجه على النتائج، إلاّ أنّ أغلب الشهادات الخارجية والداخلية، تؤكِّد نجاح العراقيين في هذا الإمتحان العسير وبعلامة مُتميّزة. العراقيون نجحوا أولاً، في منح المشروعية للعملية السياسية والديمقراطية، وهي البديل الموضوعي الواقعي لموْجة العُنف التي اجتاحت العراق أغلب السنوات السّبع الماضية (ما بعد الاحتلال)، والعراقيون نجَحوا ثانياً، في الإختبار الديمقراطي والإبتِعاد عن أساليب التّزوير والتّدليس في الإنتخابات، فخسِر رئيسُ وزراء حالي لصالح آخر خارِج السلطة. وهم نجحوا أيضا في كسْر حِدّة النّزعة الطائِفية من خلال التّحالفات البينية، التي جعلت الشيعي يُصوِّت لسُنِّي، والعكس صحيح، وهم (العراقيون دائما) نجحوا ثالثاً، في تهميش القِوى الطائفية، التي لعِبت على وتَر الخلافات العقائدية والتاريخية والتجييش عليها، فأعطَوا أصواتهم للقِوى الأكثر عِلمانية (العلاوي والمالكي). اليوم، وبعد الانتخابات الحالية، يمكن القول أنّ العراق قطَع مسافة أخرى جديدة، بعيداً عن شبَح الحرب الأهلية والتّجزئة الداخلية، وهو يسير بخُطى أكثر وضوحاً وثباتا نحْو ترسيخ نموْذج ديمقراطي عربي، مَبني على الصِّيغة التوافقية بين الأدْيان والمذاهِب والأعراق والطوائف المشكّلة للعراق اليوم. ويؤكّد تلك الملاحظة جميل النمري، المحلِّل السياسي الأردني، المراقِب عن كثَب للمشهد السياسي العراقي، بتصريحات خاصة ل swissinfo.ch، إذ يقول "الإنتخابات كانت خُطوة نوعِية إلى الأمام، مع بقاء احتِمال أن يُخرّب بعض الأطراف نتائجها، بخاصة مع تلميحات المالكي واحتجاجاته على نتائج الانتخابات". ولعلّ أبرز دلالات النجاح، وِفقاً للنّمري، المشاركة الواسعة للعراقيين في الانتخابات، وهي مشاركة تتجاوز دُولا عربية عديدة مُستقرة وآمنة. ويرى النمري أنّ الشعب العراقي انتصَر للديمقراطية والأمن والسِّلم الداخلي، ورسم معالِم على طريق بناء الأمّة والدولة نحو المستقبل، وذلك لا يعني أنّ العراقيين تجاوزوا مرحلة الخَطر كُلِيّا، إذ ما زالت أمامهم أشواط طويلة غداً، على أعتاب عملية تشكيل الحكومة، وهي مسألة مركّبة ومعقّدة، نظراً لتقارُب عدد المَقاعد بين الكُتل الكُبرى، وأمامهم تحدّيَ الحفاظ على تماسُك الكُتل الحالية والتأكيد دوماً على الإحتِكام إلى البرلمان والقانون والمَنطق السِّلمي لا العنف والاغتيال والحرب الأهلية، وجميعها تحدِّيات ومصادر تهديد تلوح مع كلّ مرحلة يعبُرها العراقيون، وهم يكتشِفون ويختبرون المُنعرجات الدّقيقة الفاصلة بين خِيار الحرب والجُثث مقطوعة الرُّؤوس والإقتتال على الهوية، وخِيار العيْش المشترك ودولة القانون والمؤسسات. ما بعد الانتخابات.. الفُرص والتحدّيات تبدو المرحلة القادِمة واضحةَ المعالِم من جهة، وغامضة من جهة أخرى. فالنتائج الرسمية لا تُعطي الأغلبية لأحد التّحالفات (يحتاج إلى 164 مقعدا)، فضلاً عن أغلبية الثُّلثيْن (218 مقعداً)، ما يعني أنّ التكليف المتوقّع لعلاّوي، سيضعه أمام جوْلة معقّدة من المفاوضات والمُناورات مع التحالفات الأخرى للحصول على الأغلبية، ما يتضمّن (بالضرورة) تنازُلات مُتبادلة وأخطارا تُحيط بقُدرة التحالفات على الصُّمود، بخاصة تحالُف علاّوي، الذي يتشكّل من نفوذ سُنِّي كبير. إلى الآن، تَشي الاحتِمالات المطروحة والتّلميحات المُتداولة، وكل شيء متوقّع في العراق اليوم، بأنّ علاّوي سيُفضّل التفاوُض مع الائتلاف المُوحّد (بقيادة عمّار الحكيم)، المقرّب من طهران، على عقْد تحالُف بينه وبين المالكي، على الرغم من أنّ المالكي أقرَب إلى أجَندَته السياسية من "الإئتلاف الموحّد"، إلاّ أنّ التّنافس بيْن الرجُليْن على تقلّد موقِع الزعامة في العراق، يتغلّب على دوافِع الإلتقاء والوِفاق بينهما. مع ذلك، فإنّ وصول العراقيين إلى مرحلة التّفاوض السياسي والحِوار الداخلي ومنطِق المُساومات والصّفقات وما يرتبط بها من "حلول وسط"، يُمثِّل خُطوةً متقدِّمة في تحييد الخِلافات المذهبية والدِّينية، والسَّير إلى تطوير الكفاءة السياسية العراقية والتّحضير لعراقٍ جديدٍ، يتجاوَز عِراق دِكتاتورية صدّام حسين وعِراق الحرب الأهلية ما بعد الاحتلال، إلى عِراق التّوازنات الداخلية واللُّعبة السياسية. العرب السُنّة يحرزون الجوائز الذهبية! ثمّة عوامل متعدِّدة ساهَمت في نجاح العراقيين في عبُور امتحان الإنتخابات، لكنّ العرب السُنّة، هم العُنصر الحاسِم الذي منَح المشروعية اليوم للعملية السياسية، وفي الوقت نفسه، تمكّنوا من إدارة المعركة باقتِدار نادِر، فحازوا على "الجوائز الذّهبية" وقلبوا المُعادلة السياسية بصورة غير متوقّعة، ففاجؤوا الجميع بالنتائج. قبل الانتخابات، كان المشهَد السياسي العراقي يَشي بخريطة فُسَيْفسائية، بصورة خاصة لدى العرب السُنّة، الذين كانت المعلومات الأولية تُشير إلى وجود قِوى رئيسية داخلهم، ما تزال ترفض المشاركة في العملية السياسية، وتُصرّ على خِيار المقاومة المسلّحة، (على الرغم من إرهاصات خُروج الجيش الأمريكي والإكتفاء بما تضمّنته الإتفاقية الأمنية)، وكذلك إلى تشتُّت القِوى المُؤيّدة بين تحالُفات متعدِّدة، تقودها شخصِيات شيعية، باستثناء "جبهة التّوافق" التي يقودها الحِزب الإسلامي. النتائج النهائية جاءت مُغايرة تماماً لملامح ذلك المشهد. فقد بَدا الموقِف السُنّي تحديداً، أكثر تماسُكاً ووِحدة، فيما بدا الشِّيعة مُشتّتين بين القِوى والتّحالفات المُختلفة. العرب السُنّة مَنحوا أصواتهم إلى "القائمة العراقية"، التي وإن تصدّرها رئيس الوزراء الأسبق الشيعي إياد علاّوي، إلاّ أنّ عدداَ كبيراً من قياداتها هُم من السُنّة، ويتقدّمهم طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي السابق. السُنّة إذن، أدارُوا معركةَ الإنتخابات بصورةٍ استِثنائية مَنحتهم حُضوراً قوياً ونافذاً في اللُّعبة السياسية، وهُم الآن طرفٌ قويٌ وفاعِل، وليْسوا أقلية غاضِبة، كما كان عليه الحال خلال السنوات السابقة (الفترة التي تلت الإحتلال)، وهذا بحدّ ذاتِه بمثابة نقلة نوعِية في طبيعة المشهد السياسي العراقي وإحداثياته. الخاسر السُنِّي الأكبر في الانتخابات، هو الحزب الإسلامي الذي لم يستطِع تحقيق أي نتيجة، بعدَما كان طِوال السنوات السَّبع الماضية، المُمثِّل الأول والرئيس للسُنة، لكنه بخروج الهاشمي وتغيُّر خريطة المشهد السُنّي، تراجع كثيراً. والخاسر الثاني، هو القِوى السنية التي ما تزال رافِضة للعمل السياسي، وفي مقدِّمتها هيئة العُلماء المسلمين وجبهتَيْ الجِهاد والتغيير والجِهاد والإصلاح. وإذا كان يُمكن فهْم إقبال السُنّة المكثّف على الانتخابات، كما يرى جميل النّمري، باعتباره "مؤشرا واضحا على خِيارهم الإستراتيجي"، فإنّ هنالك مَن لا يزال يُؤمن بأنّ المُقاربة السُنِّية ما تزال مع الخِيار المُزدوَج (العملية السياسية والمقاومة)، وِفق منطِق تبادُل الأدوار وتوزيع المهامّ. ودلالة ذلك، أن أغلب القِوى المعارضة للعملية السياسية، أعلنت أنّها لن تقوم باستهداف المَقرّات الانتخابية ولن تمنَع الناس من التوجّه إلى صندوق الانتخاب. في حين تبدو دولة العراق الإسلامية (الإسم الرسمي لتنظيم القاعدة في العراق)، الخاسر الثاني الأهَم داخل السُنّة، إذ لم تستطع إعاقة الانتخابات، وبدت شعبِيتها وحضورها محدوداً جدَاً وضعيفاً للغاية داخل المُجتمع السُنِّي، ما يعني أنّ رِحلة أفُول القاعدة في العراق، تسير بانتظام نحْو التَّلاشي الكامل. "الالتزام بالمسؤولية التاريخية الوطنية" ويؤيّد الخُلاصة السابقة بقوّة، إبراهيم غرايبة، خبير الحركات الإسلامية وقضايا التّنمية والإصلاح، في تصريح خاص ل swissinfo.ch، ويُضيف أنّ "السُنّة في الانتخابات الحالية، اختاروا الالتِزام بالمسؤولية التاريخية الوطنية، فتحرّكوا على أساس عِراقيتهم ووطنيّتهم، لا على أساس البُعد الطائفي أو المذهبي". ويبدو أنّ السُنّة يستعِيدُون في نشاطهم بالعملية السياسية، إحساسهم المُتوارث "أنّهم حمَلَة المشروع الوطني العراقي، فتمكّنوا من اختِراق الشيعة وتجاوُز الأيديولوجيات المُضادّة، وانتصروا لعراق عِلماني ديمقراطي، يتشارك فيه الجميع". أمّا الشيعة، فقد انقسَموا بين القِوى المُتصارعة والمُتنافسة، الثلاث الكُبرى، دولة القانون (المالكي) والائتلاف الموحد (الجعفري والتيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق - عمار الحكيم وأحمد الجلبي). وإذا كان علاوي قد حاز بأصواتٍ مشتركةٍ من السُنّة والشيعة، فإنّ خِيار الشيعة بَدا أقرب إلى المالكي منه إلى الإئتلاف الموحد، المقرّب من طهران، ما يَشي بتراجُع التأثير السياسي الإيراني على المشهد العراقي، الذي بدا طاغِياً في عِراق ما بعْدَ الاحتلال. أيضاً، منْحُ الشيعة الأفضلية للمالكي هو انحِياز أكثر نحْو مشروع عِلماني وطني، مُقارنة بالنزعة الطائفية المذهبية الطاغية في خِطاب التيار الصَّدري والمجلس الأعلى، وإن كانت التّوازنات السياسية سترشِّح هذه القوى الدِّينية الشيعية للَعِب دوْر شبيه بالقِوى الدِّينية اليهودية (حزب شاس تحديدا) في النظام السياسي الإسرائيلي، وبقُدرتها على أن تكون "رُمّانة الميزان" وكفّة التّرجيح للاّعِبين الكِبار، وهو دوْر، وإن كان حيوياً، إلاّ أنه لا يمنحها الأغلبية ولا الأفضلية. هل يستردّ العراق مفهوم "النموذج الديمقراطي"؟ المفارقة التاريخية في الإنتخابات الأخيرة، هي أنّ العراق، الذي فشلت إدارة بوش في مشروعها ليكون نموذجاً ديمقراطياً ومِفتاحاً لتغيير المِنطقة، ينجح الآن مع إدارة الرئيس أوباما (الذي رفع شعار الإنسِحاب من العراق) في أن يأخذ سِمات هذا النموذج وينقلب من حالة فشل وانهِيار، إلى طريق النجاح والديمقراطية والبِناء، ممّا يُخالف، ليس فقط رِهانات الإيرانيين الذين يخشَوْن من نموْذج شيعي عِلماني، بعيداً عن نظام ولاية الفَقيه، بل حتى الدّول العربية الإستِبدادية، التي تخشى من انتقال عدْوى أيِّ تجربة ديمقراطية ناجِحة في المنطقة. محمد أبو رمان - عمّان - swissinfo.ch