أشم في بعض الكتابات المنشورة هذه الأيام محاولات للنيل من الدور التركي، والوقيعة بين أنقرةوالقاهرة. ما يحيرني في تلك الكتابات أنها تستخدم منابر محسوبة على بعض الأنظمة، ومنها ما هو ناطق باسم أجنحة نافذة داخل تلك الأنظمة. أدري أن الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحق قافلة الحرية المتجهة إلى غزة، حين انقضت عليها في المياه الدولية وقتلت بعض ركابها العزل أحرجت أركان وأبواق أصدقاء إسرائيل «المعتدلين» في العالم العربي، إلا أن محاولة تعويض ذلك الحرج ومداراته من خلال أمثال تلك الكتابات الخبيثة تعد موقفا مستهجنا سياسيا وأخلاقيا. صحيح أن ثمة صعودا تركيا مشهودا في المنطقة، كما أن ثمة تراجعا مشهودا بنفس القدر للدور المصري. ولكن الأول له أسبابه الموضوعية، التي لا تعد بالضرورة خصما على الدور المصري، كما أن التراجع الثاني له أيضا أسبابه الموضوعية التي لا علاقة لها بالصعود التركي. بكلام آخر، فإن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه لولا الصعود التركي لما كان التراجع المصري، وغاية ما يمكن أن يقال إن الأداء التركي كشف حجم ومدى القصور في الدور المصري. لكن ذلك ينبغي ألا يحسب على الأتراك، ثم إنه لا يعالج بالانتقاص من دور بلدهم أو تشويهه، وإذا كان لابد من الحديث عن علاج، فإن خطاب الغيورين والمخلصين ينبغي أن يتجه إلى استنهاض الدور المصري والدعوة لاستعادة مواضع القوة فيه. حتى إذا قيل إن الأتراك لهم مشروعهم وتطلعاتهم. فتلك ليست تهمة، لأن ذلك شأن أي دولة محترمة ولا غضاضة منه، ما دامت تطلعاتها لا تشكل عدوانا على الآخرين. من ثم فالمأخذ ليس أن يكون للدولة مشروع، في حين أن النقيصة الكبرى ألا يكون للدولة مشروع، من ثم فاللوم والنقد ليس لهما أن يوجها إلى الذين يعملون، وإنما يجب أن يكونا من نصيب القاعدين الذين لا يعملون. الأهم من ذلك كله أن الذين يتصورون أن النيل من الدور التركي يمكن أن يصبّ في مصلحة الدور المصري. لا يعبرون عن العجز وقصر النظر فحسب، وإنما أيضا عن جهل مطبق بحقيقة العلاقة بين البلدين، إذ رغم التباين النسبي في مواقفهما، فإن العلاقة بينهما تقوم على التفاهم والتوازي بأكثر مما تقوم على التنافس والتقاطع، ومعلوماتي أن تعاونهما نشط في مجالات عدة، وزيارة رئيس الأركان التركي لمصر في الأسبوع الماضي، التي كانت ردا على زيارة وزير الدفاع المصري لأنقرة في شهر ديسمبر من العام الماضي، مؤشر على آفاق العلاقات بين البلدين، التي شملت مجالات عدة يتقدمها النشاط الاقتصادي الذي تتقدم وتيرته بسرعة (260 شركة تركية تعمل في مصر الآن). معلوماتي أيضا أن مصر الرسمية كان لها دورها في إقامة علاقة إيجابية بين تركيا والجامعة العربية، أسفرت عن تأسيس المنتدى العربي التركي في سنة 2007، وفي ظلها أصبح السفير التركي لدى القاهرة سفيرا منتدبا لدى الجامعة العربية، في الوقت ذاته فثمة تنسيق بين البلدين في بعض الملفات المهمة، التي من بينها الملف الفلسطيني، وقد سمعت من وزير الخارجية التركي أكثر من مرة قوله إن أنقرة لا تريد أن تتجاوز الدور المصري في الموضوع الفلسطيني، وأن التشاور بين البلدين مستمر بخصوصه. الخلاصة أن محاولات الوقيعة والتهوين من شأن الدور التركي يقوم بها أناس مشكوك في معارفهم ومقاصدهم ومن أغرب ما صدر عنهم ادعاء أحدهم يوم الأربعاء الماضي بأن تركيا أصبحت في «أزمة» بسبب الغارة الإسرائيلية على السفينة «مرمرة». وأنها منحت إسرائيل نصرا بلا ثمن هكذا مرة واحدة! الغريب أن هذا الكلام نشر في مصر، في نفس اليوم الذي تحدثت فيه الصحف الإسرائيلية عن العاصفة التي ضربت الساحة السياسية جراء فشل الغارة الإسرائيلية التي تحولت إلى فضيحة أدت إلى تعرية إسرائيل أمام العالم أجمع، فقد نشرت صحيفة «معاريف» عنوانا يقول: فشل عملية الجيش الإسرائيلي أسفر عن ورطة دولية، وطالبت صحيفة «هاآرتس» في افتتاحيتها بتشكيل لجنة تحقيق في ذلك الفشل، وطالب أحد كُتّاب «يديعوت أحرونوت» سيفر بلوتسكر وزير الدفاع بالاستقالة، وكان عنوان مقالته: ليستقل باراك. وهي ذات الدعوة التي رددتها وزيرة التعليم السابقة يولي تمير، وطالبت فيها باراك بالاستقالة من رئاسة حزب العمل، وكانت تلك بعض أصداء «النصر» المزعوم الذي أهدته تركيا لإسرائيل! إن انفعال بعض المزايدين يجعلهم في بعض الأحيان يظهرون كما لو كانوا إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين. الرؤية الأحد, 6 يونيو 2010