المؤتمر الثاني للمركز العالمي للتجديد والترشيد بنواكشوط يناقش الدكتور محمد سليم العوا: إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها الدكتور عبد الوهاب الطريري: شباب شنقيط هم من ينتصرون للدين في هذه البلاد البعيدة عن مهبط الوحي الشيخ سلمان العودة: لا ينبغي ملاحقة الناس بالوعظ المفرط وتقنيطهم من الرحمة والمغفرة نواكشوط معروف ولد أداع: شهدت العاصمة الموريتانية أشغال المؤتمر الثاني للمركز العالمي للتجديد والترشيد الذي يديره العلامة عبد الله ولد المحفوظ ولد بيه، ومقره في لندن. وقد اتخذ المؤتمر الحالي من ترشيد الأفكار والسلوك شعارا في وقت تشهد فيه الأمة الإسلامية تحديات علي رأسها الإساءة إلي الرسول الكريم وانتشار التطرف والغلو بين شباب المسلمين. وحضر اللقاء صفوة من علماء الإسلام من مختلف الأقطار من بينهم الشيخ سلمان العودة، المشرف العام علي مؤسسة الإسلام اليوم وأستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القصيم في السعودية، والشيخ عبد الوهاب الطريري، رئيس القسم العلمي في المركز العالمي للتجديد والترشيد، والمفكر الإسلامي المصري الدكتور محمد سليم العوا والداعية اليمني الشيخ الحبيب علي الجعفري والدكتور اليزيد الراضي، ممثل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والكتابة العامة للمجلس العلمي بالمغرب، ناهيك عن علماء موريتانيا أمثال العلامة محمد سالم ولد عبد الودود والشيخ محمد الحسن ولد الددو والعلامة حمدان ولد التاه ومحمد المختار ولد امباله ومحمد الامين ولد الحسن والداعية محمد ولد سيدي يحي. وأشاد رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد، ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، باستضافة موريتانيا وهي بلده لهذا المؤتمر، مذكرا بأن هذه الأرض احتضنت الإسلام منذ أكثر من ألف سنة واستضافت الكثير من العلماء والمفكرين علي مر الزمن. وأضاف ولد بيه أن الأفكار تحتاج إلي ترشيد كي تبتعد عن الغلو والتطرف والدعوة بغير الطريقة التي أراد الله أن تتم بها، موضحا أنه "بتداخل الأفكار والحوار سنصل إلي الصواب ونبتعد عن مختلف أنواع التطرف". واتهم الداعية الموريتاني ذو الصيت العالمي أطرافا في العالم الإسلامي وأخري في الغرب بمحاولة تقويض جهود التنمية في العالم الإسلامي عبر التقاء مصالح التكفيريين وبعض الأصوات غير المنصفة بالغرب. وناشد علماء الأمة أخذ زمام المبادرة لترشيد الطاقات والتعامل بأساليب مختلفة مع هذه التحديات. واستعرض الرجل وهو وزير سابق في حكومة أول رئيس لموريتانيا، المختار ولد داداه الأهداف التي أنشئ من أجلها المركز العالمي للتجديد والترشيد، فبين أن الهدف الأول يكمن في "تأصيل الطرح المعتدل من خلال رؤية إسلامية واعية بمقتضيات العصر ينيرها تراث الأمة من مصادر تشريعية كالقرآن والسنة وما توصلت إليه آراء المجتهدين الإسلاميين من مراجع الأمة الكبار". وأضاف أن الهدف الثاني يتمثل في "معرفة كيفية إيصال رسالة الإسلام إلي مختلف الأطراف المعنية داخل وخارج العالم الإسلامي". وحدد ولد بيه أولويات في هذا المقام من أهمها "الاتصال بأعيان المجتمع، وهو تقليد درج عليه دعاة السلف منذ عصر الإسلام" إضافة إلي وسائل الإعلام كأهم مقتضيات العصر لإيصال تلك الرسالة. أما الهدف الثالث فهو الحوار، أي "البحث عن أرضية مشتركة بين مختلف الأطراف سواء تلك الثلاثة المعلومة داخل المجتمع الإسلامي أو تلك الموجودة خارجه". وبين أن الأطراف الثلاثة داخل المجتمع الإسلامي هي "الجهلاء البسطاء، وأمرهم من أسهل الأمور، فغالبيتهم من عوام القوم، وهم عادة بحاجة إلي توفير العلم مع أسلوب بسيط" و"العالمون الجاهلون، وجهلهم مركب، فهم جاهلون وجاهلون بأنهم جاهلون، ومنهم الجماعات الجهادية التي يسيء فهمها للإسلام إلي الأمة الإسلامية ودينها الإسلامي ويشوه الجهاد ورسالته، وهؤلاء اتخذوا من الولاء والبراء ذريعة لاستباحة دماء المسلمين وتخريب العالم الإسلامي، تماما مثل حصان طروادة". أما الطرف الثالث بحسب ولد بيه فهو "فئة الضالين الذين تركوا الإسلام وراء ظهورهم". وطالب بمحاورة هؤلاء "بالعقل الذي يزكيه النقل". وعن غير المسلمين، شدد رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد علي ضرورة التمييز بين "فئة جاهلة بالإسلام تحتاج فقط إلي من يعرفها بالدين بلغتها من أجل تنويرها وبين فئة أخري حاقدة تتشابه في طرحها مع المتشددين في العالم الإسلامي الساعين إلي تخريب العمران والتشويش علي مسار التنمية". واتهم الرجل الطرفين بالتنسيق والرغبة في إشعال الفتن لوضع حد للأطروحات البشرية التنموية، خاصة في العالم العربي والإسلامي. من جانبها، تناولت محاضرة الدكتور محمد سليم العوا موضوع "ترشيد التجديد الفقهي" وركزت علي مفهوم التجديد في الإسلام وتأصيله الشرعي، مستدلة بالحديث الشريف "إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ". وهكذا اعتبر الدكتور العوا أن مفهوم التجديد في الدين عند جمهور العلماء يعني إحياء ما اندرس منه وتوجيه الناس إلي العمل بما ترك من شعائره، مذكرا بأن "فقهاء الإسلام لم يشترطوا في المجدد الظهور وحيدا علي رأس كل قرن كما هو شائع عند البعض وإنما يجوز أن يتعدد المجددون في قرن واحد". واسترسلت المحاضرة في شرح الحديث عن الصحوة الإسلامية المعاصرة، فاعتبرت أنها أنتجت تيارات متنوعة منها "المتشدد الجافي والميسر المعتدل ومن ركب أتباعه متن الغلو والعنف في الفكر والعمل ومنها من حمل أصحابه أنفسهم علي جادة وسطية الإسلام فجمعوا بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه". ويري المفكر الإسلامي المصري أن هذه الفئة الأخيرة نهضت بأعباء المشروع الحضاري الإسلامي الوسطي الشامل الذي "يستهدي بنور الإيمان ويتقوي بسلاح العلم ويستلهم في سعيه المستمر روح التجديد والاجتهاد الذي صنع به سلف الأمة نموذجا مشرفا كان طريق وهدي خير أمة أخرجت للناس". ويشتهر الدكتور محمد سليم العوا بمقولته في موضوع حوار الحضارات: " لا يحقق حوار الحضارات نجاحه المبتغي ولا يصل إلي هدفه المنشود ما لم تتوافر له شروط هذا النجاح ومقومات تحقيق هذا الهدف. وأول الشروط التي لا يتم الحوار أصلاً دون توافرها هو أن يكون كل من طرفي الحوار أو أطرافه معترفاً بالآخر أو بالآخرين. الدكتور عبد الوهاب الطريري الذي تحدث في الجلسة الافتتاحية باسم الوفود المشاركة حرص علي إطراء البلد المضيف، فقال "إن الإسلام في بلد شنقيط يتميز بحمل الشباب له وهم من ينتصرون له، وهذا مبشر علي هذا الدين في هذه البلاد البعيدة عن مهبط الوحي". وخاطب الدكتور الطريري مشاعر الجماهير الموريتانية التي غصت بها قاعات قصر المؤتمرات فقال: "عشت هذه المشاعر وأنا في هذا البلد الطيب الذي أري فيه عمق الانتماء للإسلام، رأيت العيون تشع حبًا لهذا الدين وللعلم والعلماء، فتذكرت قولة أعداء الإسلام "هذه ذبالة توشك أن تنطفئ". وأكد أن علي كل مسلم أن يسعد لهذه الأوبة القوية المندفعة لهذا الدين، مستدركا بضرورة ترشيدها وتوجيهها وتسديدها. وبدوره، تناول الكلام الشيخ سلمان العودة فاستهل محاضرته بمخاطبة الحضور قائلا: "جئتكم من بلاد نجد إلي بلاد المجد، يحدوني إليكم الحب والشوق والوله والوجد، إلي هذه البلاد التي خدمت الإسلام والعلم والحضارة لقرون طويلة". ثم بين أن الحديث عن الوسطية يقتضي تكوين مفهوم محدد عن ماهيتها، "لأنه لم يقع اختلاف بين طوائف الإسلام حول منهج الوسطية والدعوة إليه، وبالتالي فالوسطية منهج محمود وجميع طوائف الإسلام تدّعيه، حتي الخوارج علي غلوهم". وأضاف الشيخ العودة أن المشكلة دائمًا تقع في مفهوم الوسطية وما الذي نعنيه بها، لأنها، من حيث الإقرار والإيمان بها كمبدأ، هي موضع تسليم لدي الجميع. وذكر في هذا السياق بالآية الكريمة: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. وقال إن أعظم تأسيس لمفهوم الوسطية هو حديث البخاري: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه... الحديث. فهذا الخطاب النبوي يشرح المحاضر يمثل صياغة واضحة لجملة من المفاهيم المرتبطة بالوسطية، مذكرا بثلاثة مستويات للوسطية هي الإيمان بالوسطية كقاعدة شرعية، وفهم قواعد شرعية أخري متممة لهذا المفهوم، والفهوم أو الاجتهادات الخاصة غير المتفق عليها. وبين أن هذا الحديث يكرس قضية أساسية وهي أن الدين يسر، وبالتالي فالأمة في أمسّ الحاجة إلي تكريس مفهوم صحيح لليسر والوسطية. وشدد الدكتور العودة علي أن "الوسطية ليست مزاجًا شخصيًا أو تخلصًا من النص الشرعي، بل هي مرتبطة بالنصوص الشرعية، وهي تجسيد لأحكام الشريعة علي دليل من الكتاب والسنة، وبالتالي فهي لا تعني بحال من الأحوال اتباع الأهواء والشهوات. وأضاف أن البشر لا يمكن أن يكونوا دائمًا علي اتفاق، وعلي قلب رجل واحد، ومن هنا جاء التنبيه في قوله صلي الله عليه وسلم في الحديث: فسددوا وقاربوا الحديث. وتناول الشيخ العودة مسألة البشارة في الوسطية، فحذر من "ملاحقة الناس بالوعظ المفرط وتقنيطهم من الرحمة والمغفرة، وإنما المطلوب هو فتح أبواب البشري والتوبة والرحمة أمام الجميع". وأوضح أن العمل لهذا الدين مرتبط بالولاء لله ولرسوله، وأن الدين أكبر من أن يكون الولاء فيه لجهة أو طائفة معينة، مبرزا أن "الكثير من أشكال الخلاف بين الجماعات الإسلامية هو اختلاف في الجزئيات ومع ذلك ينتج عنه نوع من الاصطفاف ذات اليمين وذات الشمال". وقال المحاضر إن الوسطية ليست لونًا واحدًا ولا شعارًا يرفع فقط، "بل هي قواعد منهجية عامة، مبنية علي النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة وحسن الظن بالمسلمين والبحث عن أحسن المخارج لهم. واستعرض نقيض الوسطية وما يقابلها فبين أن ذلك هو التطرف بنوعيه، سواء كان تطرفًا في الغلو أو التطرف باتجاه الانفلات والتحلل من القيم والضوابط الشرعية. وأضاف الشيخ العودة أن الغلو بكل صوره وأشكاله هو "الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، أي قاعدة الوسطية والاعتدال"، وأكد حقيقة أن "التطرف يمثل أزمة في تاريخ الأمم والحضارات كلها، ولاشك أن رسالة الإسلام هي النموذج الأمثل والأكمل لمعالجة هذا التطرف". وفي نهاية المحاضرة، اقترح عددا من الحلول لمواجهة ظاهرة التطرف والغلو من أهمها تمكين العلماء من القيام بواجبهم وفتح وسائل الإعلام أمامهم، وإيجاد القنوات العلمية والدعوية والإعلامية التي من خلالها تظهر الصورة الحقيقية للإسلام، وإصلاح الأوضاع الأخلاقية في المجتمعات المسلمة، وضرورة تنقية المجتمعات كافة مما يخالف الإسلام عقيدة وأحكامًا، وضرورة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه. وقال إن "عملية إعادة الحقوق عمل إسلامي أصيل، والأمثلة علي ذلك كثيرة من التراث الإسلامي وتاريخ الأمة". وشدد علي أن هذه الحلول تمثل مطلبا موجها للجميع سواء الأنظمة السياسية والآباء والمدرسين والمسئولين الآخرين مهما كان مستوي مسؤولياتهم. وعلي المستوي الرسمي، حظي المؤتمر بعناية كبيرة حيث افتتح أشغاله الوزير الأول الموريتاني الزين ولد زيدان بحضور عدد من أعضاء الحكومة. واعتبر ولد زيدان في خطابه الافتتاحي أن هذا اللقاء يمثل مناسبة للإشادة بما يبذله المركز العالمي للتجديد والترشيد من جهود متميزة للتعريف بالإسلام في رؤيته الوسطية الصحيحة. وأضاف أن هذه الرؤية قادرة علي صياغة خطاب كوني ينسجم مع النظرة الإنسانية المبنية علي التنوع والاعتراف بالآخر في وقت تجتاح فيه العالم موجات من التشدد والتطرف والإقصاء. وخاطب الوزير الأول الموريتاني جمع العلماء قائلا: "انكم مسؤولون قبل غيركم عن توصيل وإشاعة رسالة الإسلام النبيلة بوصفكم أمناء الشريعة وحملة رايتها عبر العصور. وأكد أن موريتانيا تعتز باستضافة هذا المؤتمر المتميز في موضوعه ونوعية ضيوفه وكذلك الظرف الزمني المتميز الذي يتعرض فيه الإسلام الي إساءات خطيرة تساهم في توسيع الهوة بين الشعوب وتعرقل مسارات الحوار بين الحضارات والثقافات العالمية. وقال إن استضافة نواكشوط لهذا المؤتمر تمثل امتدادا طبيعيا لما ينفرد به أبناء هذا البلد من حمل لرسالة الإسلام وبث تعاليمه السمحة في أبعادها الخلقية والتعبدية.