عبدالله الزواري :خاص الفجرنيوز صديقنا دخل السجن و لم يبلغ الثامنة عشر ربيعا، كان تلميذا بالمعهد الثانوي أحمد التليلي بقفصة في الصف الخامس تحديدا، وقع إيقافه سنة 1991 و حكم عليه بثمانية عشر شهرا سجنا، قضاها متنقلا بين سجني قفصة و القصرين الذي نقل إليه معاقبا و قضى به ثلثي المدة... و أطلق سراحه في 1993 أي في القلب من سنوات الجمر التي شهد فيها التنكيل و التشفي من الإسلاميين و الإسلام أوجه... غادر السجون في تلك الظروف العصيبة حين ضاقت الأرض بما رحبت على السائرين على درب المبعوث رحمة لعالمين،و تدبر أمره في تلك الظروف التي استنسر فيها البغاث... حاول مواصلة تعليمه و في سنة 1996 يترك الدراسة جانبا و يبدأ رحلة البحث عن عمل ... و في سنة 1999، يعود إلى السجن لا لشيء ارتكبه غير أنه لم ير الوظيف مهما سما مبررا للدوس على القانون أو غمط الناس –مهما سفلوا- حقوقهم... إثر احتكاك بسيط قام به ابن عمه مع سيارة موظف سام في موقف السيارات بالمستشفى الجهوي بقفصة، أوعز بعضهم إلى هذا الموظف بأن من كان يخاطبه قبل حين إنما هو معارض عرف السجن سابقا... فأراد هذا الموظف أن يعين عليه نوائب الدهر و مخالبه... فقال ما يجب قوله... و ما يحترمه كل من يضع القانون سيدا يفصل فيما يختلف الناس فيه.. لكن خصمه لم يكن من أولائك.. و التجأ إلى ما يلتجئ إليه عادة ضعفاء الحجة و البرهان، فقوّل صاحبنا ما لم يقل، و ما لم يتعود النطق به من فاحش الكلام... وأسرعت " الشرطة " للانتصاف من هذا المجرم الخطير الذي سولت له نفسه الاعتداء على الأخلاق الحميدة و التلفظ بما ينافي الحياء و ما إلى ذلك من التهم الجاهزة... و كم كانت مفاجأتهم عظيمة عندما اكتشفوا أن المشتكى به هو سجين سياسي سابق خبروه طويلا حتى أيقنوا أنه ليس من طينة من ادعى عليه السيد الموظف السامي... لم يعهدوا صاحبنا فحاشا و لا لعانا او فاجرا، بل عهدوه ذا أخلاق فاضلة لا تسمح له بالسوقي من الكلام و فحشه، نعم قد يغضب لكن قاموسه يبقى خاليا مما أورده الشاكي... كان خصيمك الحاكم شكون.......؟؟ و مثل صاحبنا أمام المحكمة... التي أصدرت حكما في حقه يقضي بسجنه مدة أربعة أشهر... كان ذلك من ماي 1999 إلى شهر أوت... و غادر السجن الصغير... لكن صاحبا كان و لا يزال من الذين لم يتنكروا لماضيهم النضالي، و لم يتبرؤوا من أيام خلت قضاها داعيا مجاهدا صابرا مصابرا، لم يغير و لم يبدل لا خوفا و لا طمعا بل إيمانا بأنه كان و لا يزال على الطريق السليم الذي يرضي رب السماء و إن أغضب أرباب الأرض... لم ير في ضيق الدنيا عليه ذريعة ليولي وجهه وجهة أخرى غير التي عهدها عليه إخوانه الذين قضوا... و كشأن كل من أبى التبديل و التغيير كان محل سخط أولي الأمر و غضبهم، وجد نفسه مرة أخرى في صدام مع أولي الأمر...و يحال على المحكمة التي لم تر فيما أحيل بسببه مبررا لسجنه فحكمت عليه و على بعض رفاقه بعدم سماع الدعوى... و كان المنتظر من ممثل النيابة العمومية أن تعقب... و مرة أخرى تصدر المحكمة حكمها بعدم سماع الدعوى، و تعيد النيابة العمومية ما فعلته ثانيا... و و للمرة الثالثة تقر المحكمة ببراءة الماثلين أمامها، وتعقب النيابة للمرة الثالثة و تجلس الهيئات الثلاثة للنظر في تعقيب النيابة من جديد.... و بعد ذلك نصدر المحكمة حكما بسجن صاحبنا لمدة ثلاثة عشر شهرا رفقة كل من المجاهدين لطفي الداسي و مضر بن جنات و علي الشرطاني و محمد الفوراتي و ..... و قد كان الأخوان علي و مضر قد أتما عقوبتهما و لا تزال القضية تراوح بين محكمة التعقيب و استئنافية قفصة... و كانت التهم الموجهة إليهم الاحتفاظ بجمعية غير مرخص فيها و جمع أموال بدون رخصة... قضى صاحبنا كامل المدة المحكوم بها عليه في سجن قفصة في جزئه المعروف بالحديقة (Jardin)... و حول الفترة التي قضاها كان لنا معه الحديث التالي: - حمدا على السلامة؟ - أهلا و سهلا بك. - هذه زيارة جديدة؟؟ - نعم، البعض يذهب إلى البقاع المقدسة كل أربعة أو خمسة سنوات ليرجع كما ولدته أمه نقيا من الذنوب و المعاصي... أما أنا فيعيدوني إلى هناك تكفيرا لما قد اقترفت يداي من تقصير في حق إخوتي داخل السجون و خارجها، و شحذا للهمة كي تواصل المسيرة... - كيف وجدت الديار؟؟ - الديار؟ و هل تبقى الديار على حالها إن لم يقع تعهدها و إصلاحها و ترميم ما يستحق ترميما؟؟ من الطبيعي أن تسوء حالها، و تتردى أكثر فأكثر لعدم الرعاية المناسبة... - أفصح، شغلتني؟؟ - أول ما يجلب الانتباه العدد المهول للمراهقين، يعني من 17 سنة إلى 20 أو 21 سنة... مئات من هذه الفئة العمرية.. نعم عرفت هذه الديار سنة 1991 و 1999 و 2007، و بالتالي أقول بصراحة: لم أر هذا العدد الهائل من الشباب مثل ما رأيت هذه المرة... إنه نذير و لا شك... إن المجتمع ينزلق نحو الجريمة... كان من المفروض أن يكون هؤلاء في المعاهد و المدارس و مؤسسات التكوين المهني و غيرها لا في السجون... لم أكن أتوقع أن أرى مثل هذا العدد... - هل تعلم ما قضاياهم التي سجنوا من أجلها؟؟ - أنا ليس لي إحصائيات دقيقة و أرقام إلى غير ذلك من الأدوات... لكن يمكن أن أقول: إن السرقة بمختلف مراتبها من نشل و اختلاس و سرقة مجردة أو موصوفة تمثل الجريمة التي ارتكبها العدد الأوفر من الشباب، ثم تأتي قضايا العنف بمختلف تصنيفاته، ثم بقية المخالفات أو الجرائم من سكر و تشويش و اعتداء على الأخلاق الحميدة و عقوق إلى غير ذلك... - هل يعني هذا أن السجن لا يزال يشكو اكتظاظا؟؟ - نعم، بل اكتظاظ مهول... يكفي أن أصف لك الغرفة التي أقمت فيها، و هي تعتبر لدى الإدارة غرفة مثالية... - ماذا تعني غرفة مثالية؟؟ - أي الغرفة التي يزورها الضيوف الذين يريدون الاطلاع على وضعية السجناء و السجن عموما، سواء من الإدارة أو غيرها. تفضل حدثنا عن هذه الغرفة المثالية؟ هذه الغرفة يوجد بها 12 سريرا مزدوجا، أي 24 سرير فردي، أما عدد النزلاء في هذه الغرفة لم ينزل تحت عدد 45 سجينا، و قد تبلغ في فترات 55 و أكثر من ذلك... و كالعادة يقتسم كل سجينين سرير فردي و البقية تنام في الكدس... و المقيمون فيها هم المساجين الذين يعملون داخل السجن من حلاقين و طباخين ... - من كنت تقتسم معه الفراش؟؟ - بصراحة كنت الوحيد في الغرفة الذي يتمتع بسرير فردي... - و الأكلة؟؟ - الحمدلله الذي أغناني عنها... - يعني؟؟ - كانت عائلتي تجلب لي قفة كل يومين، و بالتالي كنت أنظم وجباتي الغذائية حسب المتوفر لدي و إن نفد أكتفي بالزيت و بعض ما أقتنيه من مغازة السجن... - فطور الصباح اعتبروه إنجازا تاريخيا، هل مازال العمل ساريا به؟ ممّ يتركب؟؟ - لا شك أن هذا حق تأخروا كثيرا عن العمل به... و يمكن مع ذلك القول " خير من بلاش" مم يتركب؟ - بعض الأحيان يتمثل في بيضة، و حينا آخر في قطعة كايك أو قهوة... - قهوة؟؟ - اعتبرها "قهوة"... - و الحليب؟؟ - إن فقده المواطن من المساحات الكبرى، هل تراه موجودا في السجون؟؟؟ - لا شك أنك تمتعت هذه المرة بالتلفزة على عكس مدة سجنك الأولى سنة 1991؟؟ - التلفزة أولا مقتصرة على "تونس7" و في أحسن الحالات على "ضرتها" تونس 21.. و القناة الأولى الإيطالية التي يتابعها المساجين خصوصا في برامجها أو أفلامها الساخنة... و كنت أحاول المحافظة على صحتي التفسية و العقلية فكنت اكتفي بالقليل من الأخبار ثم أفر منها فرار المجذوم من الأسد لأصنع عالمي الخاص: مراجعة قرآن،قراءة صفحات الوفيات بالجريدة و أشياء تجلب الانتباه... - على ذكر الجرائد؟؟ -الجرائد توزع حينا و تحجز حينا آخر... - و الكتب؟؟ - نفس السياسة منذ 1991، يعني لا كتب تجلبها العائلات، بل عليك بكتب المكتبة إن كنت تريد المطالعة... - هل لاحظت كتبا جديدة في المكتبة بين 1999 و 2007؟؟ - في الواقع لم ألاحظ شيئا جديدا ذا أهمية..نفس الكتب تقريبا... - و المصاحف؟؟ - الحمدلله كان معي مصحفي يوم إيقافي، أما عامة المساجين فلا يسمح لهم بذلك بدعوى أن المصاحف موجودة في المكتبة... - و كيف كنت تؤدي صلاتك؟ - صلاة الجمعة ممنوعة كما كان الأمر منذ عشرين سنة تقريبا، أما صلاة الجماعة فيمنع أن يؤديها أكثر من اثنين معا... - إذا كانت العائلة تزورك أسبوعيا؟؟ - نعم، و قد شهدت قاعة الزيارة تحديثا، لكن التحديث قد يكون نحو السلب و التخلف... كيف؟؟ عوض الحاجز الحديدي أصبح هناك حاجز من البلور و نتبادل الحديث مع الزائرين عبر آلتين مثل الهاتف و تكون الآلة الثالثة لدى العون الذي يراقب الزيارة، يستمع للحديث و يسجل في كراس خاص ما يقدر أهميته أو خطره أو غموضه لا أدري... - و هل هذا تطور إيجابي أم سلبي؟؟ - يا أخي: كنت قبل البلور و الهاتف، أكلم كافة أفراد العائلة- أي الذين يأتون لزيارتي- فيسمعوني جميعا مثلا عندما أحدثهم عن صحني أو مشاغلي أو عندما أطلب منهم طلبا يتعلق بالأكلة أو الملابس.. الآن أصبحت مضطرا أن أسأل كل واحدة من زواري نفس الأسئلة لأن هناك جهاز هاتفي واحد لدى الزوار بقطع النظر عن عددهم... - هل كانت لك فرصة التحادث مع أخيك لطفي الداسي في السجن هذه المرة؟؟ - من المؤسف أن تبقى نفس التراتيب معمولا بها إلى الآن... الحديث مع لطفي يعتبر كبيرة الكبائر... نعم هو يقيم في غرفة أخرى بنفس السجن لكني لا أستطيع محادثته ، بل لا استطيع مجرد رؤيته من بعيد... يبذل الأعوان ما يستطيعون من جهد للحيلولة دون مجرد رؤيته و لو على بعد عشرات الأمتار... و ببدو أنهم وضعونا معا في نفس الجزء من السجن (وليس في نفس الغرفة) لا لشيء إلا لكون القسم الآخر من السجن يوجد به بعض المحالين بموجب "قانون مكافحة الإرهاب"... و عن يومه الأول بعد السجن قال: فقدت يوم خروجي من السجن أحد أقرب أصدقائي، و كنت تعودت منذ زمن، كما تعود بذلك الأهالي، أن أدعو للميت في المقبرة... يوم الأربعاء كان يوم دفن صديقي، فحضرت الجنازة دعوت له كما كنت أفعل منذ أمد بعيد... بعد يومين تستدعيني "الشرطة" و تطلب مني الامتناع عن الدعاء للموتى مستقبلا... نعم عدم الدعاء للموتى... فهل تراهم يمنعوني من الدعاء على الأحياء؟؟ - ختاما ألا أقول لك ذنب مغفور... - غفر الله لنا جميعا تقصيرنا نحو إخواننا.... جرجيس في: 14 أفريل 2008 عبدالله الزواري