الناشر: دار الشروق- القاهرة- مصر سنة النشر: الطبعة الثانية- 2007 م صدرت حديثًا طبعة جديدة من كتاب «تيارات الفكر الإسلامي» للدكتور محمد عمارة ويأتي الكتاب في وقت العالم الإسلامي أحوج ما يكون إلى مثله فليس تاريخ الأمة الإسلامية تاريخ الخلفاء والسلاطين فقط، وإنما الفكر الإسلامي الذي أبدع الحضارة الإسلامية هو أعظم إنجازات الإسلام والمسلمين، بل إنه صانع السياسة والخلفاء والسلاطين، ولن ندرك حقيقة تاريخنا الحضاري إلا إذا أدركنا حقيقة التيارات والمدارس والمذاهب الفكرية التي صنعته والتي تصارعت فيه، بل إننا لن ندرك تيارا ت الصحوة الإسلامية المعاصرة إلا بإدراك جذورها في هذا التاريخ... وليس ثمة شكّ أن لأمتنا العربية الإسلامية تراثًا حضاريًا غنيًا وعريقًا ورغم ما اعترى مسيرته من جمود وتوقف وانحطاط إلا أنه قد ظلّ تيارًا ساريًا في عقل الأمة وضميرها ووجدانها فلم يصبح مجرد تاريخ فتواصلت مسيرتها الحضارية كما تواصلت حلقات مسيرتها التاريخية واستعصت بذلك على محاولات الاحتواء الحضاري التي تحدّاها بها أعداء كثيرون على امتداد تاريخنا الطويل... وهذا الكتاب ظهرت بوادره الأولى منذ أكثر من ربع قرن حيث صدر في شكل كتاب صغير عن دار الهلال المصرية عام 1982م ثم ظهرت الطبعة الجديدة عن دار الشروق عام 1991م ثم تأتي هذه الطبعة التي بها إضافات كثيرة.. والكتاب يؤرخ لتيارات الفكر الإسلامي التي ظهرت نتيجة التفاعل والحراك لمفكري الأمة الإسلامية وفقهائها وعلمائها فظهر الخوارج والشيعة والمرجئة والزيدية والأشعرية والمعتزلة والسنوسية. والكتاب في حقيقته يؤرخ لهذه التيارات لنشأتها وأهمّ أفكارها وأهمّ أعلامها ودورها في تاريخ الفكر الإسلامي. ففي البداية تحدث عن الخوارج وبيّن أنهم انشقوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إبان صراعه مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأنصاره سنة 37ه وبدأت نقطة التحول في ماهية وطبيعة الصراع فلم يقف الخوارج بالخلاف عند الحدود السياسية، بل أضفوا على الصراع طابعًا من الدين، وذلك عندما زعموا أنهم هم المؤمنون وأن مَن عداهم قد مرق من الدين مروق السهم من قوسه، وتكلم عن نشأة الخوارج الأولى والتسمية فكثيرًا ما يسمى الخوارج أنفسهم المؤمنون أو جماعة المؤمنين أو الجماعة المؤمنة أما الأسماء الأخرى فقد أطلقها عليهم خصومهم الفكريون والسياسيون فالخصوم هم الذين سموهم الخوارج لخروجهم- في رأي الخصوم- على أئمة الحق والعدل ولثورتهم المستمرة، فلما شاع الاسم قبلوه، وقالوا: إن خروجهم إنما هو على أئمة الجور والفسق والضعف... ثم تحدث عن مبادئهم في الحكم والثورة والإمامة وفي مرتكبي الكبائر وفي العدل والتوحيد والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويرى المؤلف أن الخوارج بفروعهم الخارجية قد غدوا جزءًا من تراث الفكر الإسلامي ولم يبق منهم الآن سوى الإباضية في عمان ومسقط وفي بعض أنحاء تونس والجزائر وزنجبار وهؤلاء ينكرون علاقتهم بفكر الخوارج الغلاة، بل ربما أنكر بعضهم أية صلة لمذهبهم بمذهب الخوارج على الإطلاق... ثم يتكلم المؤلف عن المرجئة ويبين أن مصطلح الإرجاء الذي نسبت إليه هذه الفئة إنّما يعني في الفكر الإسلامي الفصل بين الإيمان باعتباره تصديقًا قلبيًا ويقينًا داخليًا غير منظور وبين العمل باعتباره نشاطًا وممارسة ظاهرية قد تترجم أو ولا تترجم عمّا بالقلب من إيمان وقد عرف المرجئة على عهد الدولة الأموية.. ثم تحدث عن المعتزلة ونشأتهم وأصولهم الخمسة التي هي العدل والتوحيد والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويري المؤلف أن المعتزلة اتخذوا من الفلسفة والفكر والرقي في المعرفة بديلاً عن الأحساب والأنساب فتحقق في فرقتهم تعايش العرب الموالي دون تفاخر أو عصبية أو تنافر.. أما الزيدية فبيّن أنها تنسب إلى إمامها الشهيد: زيد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب، ويرى أن الأمر الذي اشتهر وأصبح عرفًا في الدراسات الإسلامية هو أن الزيدية بالمعنى المتعارف عليه في علم الكلام الإسلامي، لكن النشأة والتاريخ بل والواقع المتجسد في البنية الفكرية للزيدية لا يقول: إنها مستقلة الاستقلال الكامل ولا متميزة التميز التام عن تيار الاعتزال؛ فهم معتزلة في الأصول وتيار ثوري يعقد لواء الإمامة والقيادة للمجاهدين من أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم... أما السلفية فرأى المؤلف أنها من المصطلحات التي يكتنفها الغموض وعدم التحديد في عدد من الدوائر الفكرية فهناك من يرون في السلفية والسلفيين التيار المحافظ والجامد بل الرجعي في حياتنا الفكرية وفي جانب الفكر الديني منها على وجه الخصوص وهناك من يرون في السلفية والسلفيين التيار الأكثر تحررًا من فكر الخرافة والبدع، ومن ثم الأكثر تحررًا واستنارة في مجال الفكر الديني بالذات ويناقش المؤلف هذين القولين.. ويتحدث عن المعالم الأولية والرئيسة للسلفية متمثلة في الإمام أحمد بن حنبل الذي وضع وصاغ مقولاتها في مواجهة ما رآه بدعًا ومحدثات جعلت الإسلام غريبًا فتكلم عن الإيمان كقول وعمل يزيد وينقص، وتكلم عن صفات الله، وعالم الغيب ورؤية الله والقضاء والقدر والكبائر وخلافات الصحابة وغيرها.. حيث دعا ابن حنبل إلى إسلام المجتمع العربي البسيط إسلام النصوص والمأثورات، ثم تكلم عن أعلام الحركة السلفية بدءًا من عبد الله بن المبارك وابن تيمية وابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الحميد بن باديس، وغيرهم.. ويرى أن السلفية كحركة بدأت في العصر العباسي كتيار فكري محافظ تحصن أعلامه بظواهر النصوص والمأثورات عندما علا سلطان العقل. ثم يتحدث المؤلف عن الأشعرية المنسوبة إلى أبي الحسن الأشعري والشيعة الإثنا عشرية والوهابية التي بها بدأت الجولة الحديثة في الصراع الإسلامي الغربي. ثم تحدث عن السنوسية التي يعدّها واحدة من حركات اليقظة العربية الإسلامية التي واجهت بها الأمة التحديات التي فرضها عليها الأعداء وكذلك المهدية، ثم تحدث عن تيار الجامعة الإسلامية وأسماه بالسلفية العقلانية المستنيرة. والكتاب في مجمله جهد علمي يستحق التنويه والإشادة، وهو لا يرجح تيارًا فكريًا على آخر، وإنما يستعرض كافة التيارات الفكرية الإسلامية فهو نافذة للوعي بالتاريخ وسبل لاستشراف المستقبل الإسلامي المنشود..