مواطنون يعمدون الى بناء أجزاء من منازلهم داخل مشروع السكة الرابطة بين سوسة والمهدية    ترامب يحذر زيلينسكي من شن هجمات على موسكو    الحوثيون يعلنون تنفيذ عملية عسكرية مزدوجة ومتزامنة ب 3 طائرات مسيرة على هدفين في إسرائيل    حجز 120 طنا من البطاطا بهذه الجهة بسبب الاخلال بالتراتيب..    قيمة المحجوز 115 مليارا .. تفاصيل ضربات الديوانة للمهرّبين    قريبا على خشبة المسرح .. عاطف بن حسين «الديكتاتور»    في الندوة الصحفية لمهرجان سوسة الدولي .. مراد باشا «يكسر الحصار» عن المزوّد    مواقع ومعالم: هضبة بيرصا بقرطاج: موقع للحضارة والأسطورة الخالدة    تاريخ الخيانات السياسية (16) .. تآمر ابن سُريج مع خاقان    الوقاية خير من العلاج .. احذروا... أمراض الصيف    تظاهرة "كتاب على أبواب المدينة" من 16 إلى 25 جويلية 2025    سليانة: إنطلاق فعاليات مهرجان مصيف الكتاب في دورته 32    تاجروين: وفاة شاب غرقا في وادي سراط    المنستير: انطلاق دراسات مشروع إحياء المدينة العتيقة بعد إمضاء الصفقة مع مكتب الدراسات المكلّف    عاجل/ حريق بمفترق اليهودية وبلدية فوشانة تكشف السبب    القيصر يطمئن جمهوره: لا تصدقوا الشائعات، أنا بخير    القصرين : الدورة 32 من المهرجان الصيفي بتالة تحت شعار "تالة تتنفس فنًا"    عُقل من مسؤولين سابقين: النادي الافريقي يرُد في بلاغ رسمي.. #خبر_عاجل    البريد التونسي يُطلق محفظة e-Dinar الرقمية مجانًا لكل المواطنين    أهالي هذه المنطقة الساحلية يحتجّون بسبب التلوّث.. #خبر_عاجل    ثلاثي يمثل التايكواندو التونسي في الالعاب الجامعية العالمية بألمانيا    عاجل/ مصرع ستيني بعد سقوطه من بناية    الترجي الجرجيسي- زيدان العبيدي يعزز الصفوف    إنتقالات: نجم "شبيبة منوبة" يعزز صفوف الملعب التونسي    تونس تختتم الدورة الأولى من برنامج "طب القلب لأفريقيا"    النادي الصفاقسي: برنامج المواجهات الودية المقبلة    من يلاقي الترجي في السوبر؟ مواجهة حاسمة بين المنستيري والبقلاوة!    لافروف: نريد أن نفهم ماذا وراء كلام ترامب عن مهلة ال 50 يوما    صادرات زيت الزيتون ترتفع...والقيمة المالية تنخفض    تعزيز علاقات الصداقة والشراكة محور لقاء وزيرة المرأة بسفير اسبانيا بتونس    رد بالك! خطوات بسيطة تحميك من سرقة حسابك    عاجل/ نسبة امتلاء السدود الى حدود الأمس    هل سيستمر البنك المركزي الأوروبي في خفض أسعار الفائدة؟    المهاجم فراس شواط ينضم الى النادي الافريقي    تنبيه: انقطاع في توزيع مياه الشرب بهذه المعتمدية..#خبر_عاجل    عاجل/ الاحتلال يشن غارات على لبنان وهذه حصيلة الشهداء    وزارة التجارة تصدر قريبا الأمر المتعلق بتسيير الهيئة العامة للدفاع التجاري    بودربالة يؤكد الحاجة الملحة للتباحث حول اشكاليات القطاع الفلاحي بهدف رسم سياسات اكثر نجاعة    مبيعات تونس من زيت الزيتون تزيد كمّا وتتراجع قيمة    نقابة الصحفيين تدعم ترشيح فرانشيسكا ألبانيزي لنيل جائزة نوبل للسلام..    رعاية الأحفاد تحمي كبار السن من الخرف: السرّ اللي ما تعرفوش    كيفاش تنجم تنقص من العرق الزايد في الصيف؟ نصائح سهلة وفعّالة    "سيد الحياة والموت".. محاكمة طبيب ألماني قتل مرضاه بشكل مروع تحت ستار الرعاية الطبية    أريانة: إعادة فتح مكتب بريد رياض الأندلس خلال الأيام القليلة القادمة    سيدي حسين: أحكام بالسجن في حق شقيقين تزعما شبكة لترويج الكوكايين    فظيع/ وفاة شاب إثر تعرضه لصعقة كهربائية..    السردين: الحوت الصغير اللي فيه فايدة كبيرة...شنوة منفعتو وقدّاش يلزمك تاكل منّو في الجمعة    وزارة الشؤون الاجتماعية: إلغاء إضراب أعوان الشركة التونسية للكهرباء والغاز    نهار الثلاثاء: شوية سحب، شوية مطر، وهذه درجات الحرارة    إلغاء إضراب أعوان ''الستاغ''    برنامج الدّورة 66 لمهرجان سوسة الدّولي    سوريا: حظر تجول في السويداء والجيش يعلن ملاحقة "خارجين عن القانون"    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أزمة ديون الجمعيات الرياضية محور جلسة عمل بوزارة الشباب والرياضة    تاريخ الخيانات السياسية (15)نهاية ملوك إفريقية    لحظة مذهلة في مكة: تعامد الشمس على الكعبة وتحديد دقيق للقبلة    تاريخ الخيانات السياسية (14): القصر لساكنه..    التوانسة الليلة على موعد مع ''قمر الغزال'': ماتفوّتش الفرصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر الكلمات : الشيخ خالد مهنا
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 11 - 2010


يحكى أن رجلا مغرورا أخذه غروره إلى عالم الاستبداد
والتسلط حتى لم يعد يرى في الكون غير نفسه وعبثا باءت كل نصائح ثنيه ...وعلى حين غرة فقد كل شيء فاخذ يناجي نفسه:......
(أينَ أصبحتُ أنا اليوم؟!
أينَ كلُّ المدَّاحين والمطبّلين.. والملمِّعين.. وأنا لا آمن الآن على نفسي من نفسي..
فقدت الهواء الرطب المعطَّر الذي كنتُ أتنشّقه...
فقدت كل حاجاتي الصغيرة قبل الكبيرة..
مضيت سالكاً طريق وحدتي، كمن أصابه وباء لا براء منه.
لما سقطتُّ.. سقطتُّ وحيداً.. ومع سقوطي سقطتْ كلُّ الأقنعة المزيفة..
كنتُ أُدرك ما تُخفيه.. وأخفي..
رنينُ الذهب اللمَّاع ساحرٌ أخَّاذ.. به تطوى الحقيقة..
عشرون عاماً وحَوْلي الطبول تدقُّ.. والمزامير تعزف.. والهاماتُ تنحني..
لا يدخل "بلاطي" إلا من يغسل قدميه بماء الذل والطاعة والهوان..
عشتُ هكذا؛ أتلذَّذ بماء الوجوه يلسع الوجنات، ينهمر تحت أحذيتي التي لا أكاد أعرض واحداً منها.. حتى يذوب من بعدُ في ظلام طويل، ربما لا يخرج منه مرّةً ثانيةً..
هذا التلذّذ كان رفيق روحي.. أعشقه كما يعشق الفراش النورَ، أو كما يعشق النّسرُ الفضاء.. أو كما يهيم القطا بعشه..
تكشَّفتْ أماميَ الحقائقُ متأخرةً..
ذلك "المجدُ" الذي بنيته من عذابات النَّاس ما أفادني بشيء..
نعم.. بنيت مجدي على جماجم الآخرين.. صنعتُ أبراجاً من الوهم، صِغْتُ من الظلم أساور وتيجاناً، أُزيِّن بها "جَمَالي".. ولم أعِ الحقيقة إلا بعد مضي الزمن..
2
ذات مساء..
جاءت إليَّ أمِّي زاجرة:
"ألم أعهد إليك يا بنيّ ألاّ تمثّل الشيطان في الأرض.. ألم أحملك وليداً.. وأربّك صغيراً.. فلمَ كل هذا الظلم يا ولدي؟!!"..
فما زادني ذلك إلا نفوراً..
أمرتُ أتباعي بإخراجها من "بلاطي"..
أبعدتها عني..
بنيت لها مكاناً فاخراً يليق بأمّ من هم "مثلي".. رفضت المكوث في هذا المكان.. وأتباعي كانوا يمنعونها من الخروج دون إذني..
سمعتُها مراتٍ تدعو لي..
"الله يهديك يا بنيّ.."..
كنت أسخر من دعواتها..
حتى زوجتي المسكينة عاشت رعباً متواصلاً.. لم تكن جريئةمثل أمي، تعلم أننَّي مع كلِّ ما أنا فيه لا يمكن أن أؤذي أمي.. أما هي فشيء آخر.. لذا كانت تلوذ بالصّمت بينما أطعنها في قلبها.. في كرامتها..
آتي إليها والخمرة تفوح مني.. وعطر الغواني تخبر عني..
تبكي في سرّها..
حتى البكاء كان ممنوعاً في "حضوري"..
لم أشعر بكل الخطايا التي تموج في داخلي موج البحار..
هل كنت مسحوراً.. أم عميت بصيرتي؟!..
ولدي الصغير "شجاع".. حاول مرة أنْ يقول لي بلطف ما لا يجرؤ أحدٌ على قوله..
نفيتُهُ.. حرمته من كلِّ شيء.. كنتُ أريد أنْ أفعل ما هو أعظم من ذلك، لكن بقايا مشاعر الإنسان في داخلي.. منعتني، وكدت ألا أستجيب لها لولا نصح بعض المقرَّبين مني.. فوجدتْ النصيحة في نفسي هوى لها..
ما حسبتُ أنني سأصل يوماً إلى هنا..
أعمتني أشياء كثيرة عن الرؤية، عن التمييز والتفكير والتقرير..
كنتُ محور نفسي.. ولا دليل لي..
البعض من حولي يرددون كلماتي أكثر مما يرددون كلام ربهم.. وفي السرّ.. ربما، كانوا يلعنونني..
دعوت الأدباء والشُّعراء والفنانين..
أمرتهم.. نعم أمرتهم.. عظّموا شأني كما لم يعظَّمْ أحد قبلي..
لاحظتُ في أعين البعض منهم سخريةً.. فظلّوا ضيوفاً عندي ولم يعودوا إلى ديارهم..
لم يجرؤ أحد عن مجرد السؤال عنهم.. حتى أمهاتهم..
تفننت في السقوط..
أبدعت بشيِّ من يجرؤ على معارضتي.. كان لحم الشِّواء يمتعني..
"فما نفع الإنسان بناظريه.. إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟"..
فتحتُ على الحياة نافذةً من صنعي أنا لوحدي.. من أراد الوصول إلى ما يريد عليه أن ينظر إلى الحياة من خلال هذه النافذة ولا شيء سواها..
لم تكن التفاصيل تثير اهتمامي.. العناوين العامة تسكنُ تفاصيلي "أنا".. لا تفاصيل سواي.. وليذهب الآخرون إلى الجحيم..
كل المرايا لا تعكس غيرَ صورتي..
غنَّى المطربون "لي"..
أنشد الشعراء أجمل قصائدهم كرمى لعيوني.. لا لعيون ليلى ولا سلمى..
كتب الطلاب عني أبحاثهم..
اشتغلت المطابع والمسارح والمعاهد..
لا شيء قبلي.. ولا شيء بعدي..
اعتاد الناس عليَّ كما "أنا".. مثلي.. فقد اعتدت عليهم كما "هم"..
سعادتي في تعاستهم..
البعض من حولي ظلّوا يصفقون.. هذه حاجة لا تنقصني.
أغدقت أموالي على هؤلاء "البعض"، والويل.. الويل لمن شذّ، فعاقبته "ناري".
عشتُ سنوات طويلة أسير ظلمي.. أسير هواي..
فقدت "رموش" عينيَّ وما تخليّت عن "كبريائي".
قادني ظلمي إلى كهوفٍ ومزالق..
انكب الناس عليّ من كل جانب.. أيقنت نهايتي.. أيقنت آخر فصولي.. لكنّي لا أنحني.. كيف أتركُ كلَّ هذا المجد الذي صنعته، وأدعه ل "يتلذذ" به الآخرون؟!
هواجسي كانت تفتك بسنوات ظلمي، لن أرحل قبل أن أقضي على كل شيء.. لن أترك مكاني بسهولة..
فيا جبال اهتزي.. ويا سماء ارعدي.. ويا أرض اخسفي.. ويا بحار تفجّري.. ويا غمام اهطلي.. ويا صواعق اقصفي..
جننتُ.. نعم.. جننتُ.. ومازلت أسمع التصفيق حادّاً.. لكنَّ المصفقين قلّوا.. وبدأوا يتباعدون ويتشتتون كما تتباعد السحب وتتشتت في يوم ربيعي صافٍ..
بقيتُ وحدي..
تذكرتُ أمِّي في "سجنها"..
تذكرتُ ولدي في "منفاه"..
تذكرتُ.. وتذكرتُ.. وتذكرتُ.. وأي "شيء" أتذكر؟؟؟
فما فائدة التذكّر.. وكلّ مَنْ معي ذهبوا.. وبقيت وحدي أجرُّ خذلاني ووحدتي.. ويأسي.. وعاري.. وانكساري؟؟؟..
بعض المرتعدين مثلي ارتبطوا بمصيري.. أمسكوا بي.. كادوا يقتلونني..
وعدتهم بأموالٍ وبنين.. ومجدٍ لا يلين.. ما صدقوا، لكنهم تبعوني..
وفي الطريق كلٌّ هرب من جانب.. لم يمنحوني فرصة جديدة.. أرادوا الفرار بأرواحهم.. فلا أملك لهم ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً..
3
فإلى أين المصير والى اين المسير ؟!
إلامَ بكَ النّوى تبقى تهيبُ *** تجشّمُكَ الصعابَ وتستجيبُ

إلى أينَ المسيرُ فقد تلظّى *** فؤادٌ من تَملمُلِهِ غضوبُ

إلى أينَ المسيرُ أَرِحْ ركابا *** لقد طالَ السُّرى وشكا اللغوبُ

ألا تُلقي عصا الترحالِ يوما *** فقد شَقِيَتْ بمنآكَ القلوبُ

أَمِنْ بيداء مُجدبةٍ لقفرٍ *** فلا ظلٌّ ولا مرعىً خصيبُ

بهذا العالمِ المنحطِّ ترجو *** وتنشدُ حالما عيشا يطيبُ

تقلّبُ طرفك الطمّاح فيه *** فتبدو من مجاهلهِ ثقوبُ

فيقذفُكَ الزمانُ بها مغيظا *** وتلقفُكَ المهامِهُ والسهوبُ

فتشربُ ظامئا بردَ السرابِ *** ويُطفي كبدَكَ الحرّى لهيبُ

يظلُّ شبابُكَ الظامي ينزُّ *** سنينا يشتكي منها الشحوبُ

وتنكأُ قلبك الدامي جراحٌ *** ويشربُ روحَكَ القفرُ الجديبُ

وما لكَ من هوى الأحبابِ إلاّ *** لهيبُ الشوقِ والذكرى نصيبُ

إلى أينَ المسيرُ فحيثُ تهفو *** يصدُّك عن ثراه الطهر ذيبُ

ولا ألقٌ ينيرُ لك الدّياجي *** فقد حجبَ السنا ليلٌ رهيبُ

فما لكَ غيرُ هاتيكَ الفيافي *** فقد ضاقتْ بسالكها الدروبُ

تحوطُكَ من كآبتها بسورٍ *** وتحرسُكَ المخاوفُ والكروبُ


ويطفي وقدةَ الآمال يأسٌ *** له في قلبك الآسي دبيبُ

لياليها طوالٌ موحشاتٌ *** يضيقُ بأُفقها الكونُ الرحيبُ

ونفحتها اذا هبّتْ سَمومٌ *** يجفُّ بلفحها الغصنُ الرطيبُ

تهشُّ بوجهك الباكي رياءا *** وإنْ تبسمْ فبسمتُها قطوبُ

ولن تلقى بها خلّا وفيّا *** تظنُّ الخيرَ فيه ولا يروبُ

تفيّأْ في ظلالِ البيدِ واندُبْ *** فؤادا من تحرّقِهِ يذوبُ

قضى فينا الزمانُ بشرِّحكمٍ *** يلذُّ الوغدُ إنْ حُرِمَ النجيبُ

فحلوُ الروضِ للجهالِ مرعىً *** وقحطُ القفرِ يرعاهُ اللبيبُ

كأنَّ الدهرَ حربٌ للمعالي *** فلا يشقى به إلاّ الأديبُ

فيا وطني المفدّى ذاب شوقا *** وحنَّ إلى شواطئك الغريبُ

يُناجيكَ الفؤادُ وقد تشظّى *** ورقَّتْ من تهرّئهِ الندوبُ

فقد لجَّ البعادُ وغاضَ صبري *** متى يلقى أحبَّتَهُ الحبيبُ؟

فكلُّ مسافرٍ سيؤوبُ يوما *** وروحي من تخوّفها تلوبُ

ولي أملٌ أُعلّلُ فيه نفسي *** بأنَّ غدا لناظرهِ قريبُ

ويكفيني افتخارا ما أُلاقي *** وأنّي من محبّتِهِ أذوبُ

فيا وطنَ الجمالِ بلا مضاهٍ *** ويا نبع الثراء ولا نضوبُ

أرى الطغيانَ فوقكَ مسبطرّا *** وأنفُ الشعب مجتدعٌ خضيبُ

وتنهشُكَ الذئابُ بلا كلالٍ *** وأنت مصفّدٌ دامٍ سليبُ

ألا لعنَ الإلهُ جناةَ قومٍ *** بما اجترحوا وما جنتِ الحروبُ

إذا الأشرار بالحكمِ استبدّتْ *** وهابتْ من جنايتها الشعوبُ

وطالَ سكوتُها جُبنا وحرصا *** ويغريها به أملٌ قريبُ

تلمُّ بها المصائبُ كلَّ حينٍ *** وتصرخُ تستغيثُ ولا مجيبُ

وصُبّتْ فوقها الالامُ وبلا *** وعمَّ الخطبُ...فالجاني الشعوبُ

فلولا الليلُ ما دجتِ السماءُ *** ولولا الصمتُ ما طمتِ الخطوبُ
***
4
عرف متأخرا
نعم اين المفر والى اين المسير الشرُّ من أمامي.. والخوف من ورائي.. وما زرعتُ ينبتُ من تحت قدميَّ الحافيتين.
صرتُ أركض كالمجنون هارباً من كل شيء.. هربت حتى من ظلِّي.. لا أريدك أيها الظل "العفن"... لا أريدك.. أنت تعرف كلَّ خفايايَ وأسراري.. انطلقْ.. ابتعد عني.. لا تلبسني.. ارتد هذا النهر أو ذاك الوادي..
وأنتِ أيتها الشمس.. أطفئي نورك.. اخلعي نارك.. اسكني خوفي وجرمي..
صرتُ أتقلب بين الجبال.. أمتطي جواد الفزع والجوع والتشرد.. من كهف إلى آخر..
أصادف "الوحوش".. وحوش البراري.. تشفق عليّ فتتركني..
أكلت أوراق الشجر، حشائشَ الأرض.. حضنتُ برودة البادية.. شربت الماء الموحل.. ارتديت خشونة التراب.. توسدت صلابة الصخر..
5
وفجأة.. وجدتُ نفسي في قبضة رعاة الأرض.. وحيداً بلا تصفيق ولا تطبيل...
حملوني.. أطعموني.. أسقوني حليب نياقهم..
ألبسوني جلد نعاجهم..
شعرتُ بالدفء.. وبعض الأمل والأمان..
بعضهم عرفني.. لم يفشوا سري.. كانوا ينظرون إلى بعضهم، يعرفون أنّهم يعرفون.. لكنّهم لا يتكلمون..
ربما كانت قلوبهم أرقّ من نسائم الربيع.. أومن أوراق الزهور..
عرفت متأخراً.. لكن ماذا استفدت؟!
سمحوا لي أن أكتب على جلد نعجة وصيّتي.. آخر كلماتي..
كانت جراحي متعفِّنة.. أطرافي متيبِّسة.. الدود يعشعش في كهوف مفاصلي.. يطل برأسه ثم يختفي..
لم يتكلموا..
أحضروا لي جلد نعجة.. وعوداً مقلماً..
غرست رأس العود في جروحي.. ما شعرت..
بللتُ طرفَ العود بدمي.. لأكتب وصيتي.. لأكتب "اعترافي..".
ترفقوا بي.. مع أنّي قد أكونُ سببَ وجودهم في الجبال والوديان..
حنّت عليَّ قلوبهم.. وما "حنيّت".
مسحوا جراحي الكثيرة.. وما "شفيتُ"..
حاولوا تبريد عروقي المحترقة.. وتحريك جوارحي المتبلدة.. وما أفلحوا..
كانوا أكثر مني قوّة.. وكنت أكثر منهم ضعفاً..
كتبت آخر كلماتي.. لكن لمن أكتبها؟؟؟.. لا أحد يريدها.. لا أحد يريد أن يسمع عني شيئاً.. حتى أمِّي.. ربما.. وبمَ أوصي.. لا شيءَ عندي لأوصي به..
حتى الكفن لا أملكه..
لا أقدر على مواصلة الكتابة..
أشعر بثقل العود بين أصابعي.. هذه الأصابع التي فعلت.. وفعلت.. الآن لا تقوى على طرد ذبابة.. آااه.. آاااه..
في الصباح.. اجتمع الرعاة قرب صخور بيضاء.. دعوا الله بسكون، تأمّلوا هذا القبر النائي.. الذي يحتضن صاحب "الجراح" الكثيرة بعدما لفُّوهُ بجلدِ نعجةٍ.. عليها وصيّته.. دفنوها معه.. دون أن يقرأوها.. لم يحتفظوا بها كي لا يقرأها أحد.. نظروا إلى بعضهم.. قرروا إخفاء هذه الذكرى.. أرادوا طمس معالم القبر.. اتفقوا ألا يتكلموا.. ربما "خوفاً" من "بطش" صاحب القبر.. مع أنّه ميت، أو احتراماً للموت نفسه، ساروا بصمت نحو أنعامهم..
ساروا معاً.. يعرفون الطريق الذي يتوجهون إليه، الهدف الذي يسعون إليه، منذ سنوات طويلة.. عادوا إلى بيوتهم التي هجروها.. إلى زوجاتهم.. إلى أهلهم.. إلى أولادهم.. وأخفوا ذكرى ذلك القبر حتى لا يتحدث عنه أحد..
ذهبَ كلٌّ منهم بأنعامه ترعى من جديد بالقرب من بيوتهم، تحفّهم الذكرى.. ويغشاهم الأمل..
أمَّا ذلك القبر.. فقد سحقته صخور الجبال، وهبت عليه أعاصير البادية، وغطّته الرمال.. وأبادته الأحلام.. ولم يعد شاهده يدل عليه..
أمَّا تلك الوصية.. أو "الاعتراف".. فلم تعد تنفع الآن، وجدت الديدان فيها وجبة لذيذة.. فنخرتها حتى طُمست.. ولم يبق من حروفها حرف..
ومرَّت فوق القبر نعاج..
ومرَّت فوق القبر خراف.. مع خالص احترامي للخراف والنعاج لانها تتفوق عنا ببعض الصفات وقد ابدع الشاعر ايما ابداع حين قال :
نزعم أننا بشر
لكننا خراف
ليس تماماً.. إنما
في ظاهر الأوصاف
نُقاد مثلها؟ نعم
نُذعن مثلها؟ نعم
نُذبح مثلها؟ نعم
تلك طبيعة الغنم
لكنْ.. يظل بيننا وبينها اختلاف
نحن بلا أردِية
وهي طوال عمرها ترفل بالأصواف
نحن بلا أحذية
وهي بكل موسم تستبدل الأظلاف
وهي لقاء ذلها.. تثغو ولا تخاف
ونحن حتى صمتنا من صوته يخاف
وهي قُبيل ذبحها
تفوز بالأعلاف
ونحن حتى جوعنا
يحيا على الكفاف
**
هل نستحق، يا ترى، تسمية الخراف؟
وصية خروف إلى ابنه
ولدي إليك وصيتي عهد الجدودْ
الخوف مذهبنا نخاف بلا حدود
نرتاح للإذلال في كنف القيود
ونعاف أن نحيا كما تحيا الأسود
كن دائماً بين الخراف مع الجميعْ
طأطيء وسر في درب ذلتك الوضيع
أطع الذئاب يعيش منا من يطيع
إياك يا ولدي مفارقة القطيع
لا ترفع الأصوات في وجه الطغاة
لا تحك يا ولدي و لو كموا الشفاه
لا تحك حتى لو مشوا فوق الجباه
لا تحك يا ولدي فذا قدر الشياه
لا تستمع ولدي لقول الطائشينْ
القائلين بأنهم أسد العرين
الثائرين على قيود الظالمين
دعهم بني و لا تكن في الهالكين
نحن الخراف فلا تشتتك الظنونْ
نحيا وهم حياتنا ملءُ البطون
دع عزة الأحرار دع ذاك الجنون
إن الخراف نعيمها ذل و هون

****
ولدي إذا ما داس إخوتك الذئابْ
فاهرب بنفسك و انجُ من ظفر وناب
وإذا سمعت الشتم منهم والسباب
فاصبر فإن الصبر أجر و ثواب
إن أنت أتقنت الهروب من النزالْ
تحيا خروفاً سالماً في كل حال
تحيا سليماً من سؤال و اعتقال
من غضبة السلطان من قيل و قال
كن بالحكيم ولا تكن بالأحمقِ
نافق بني مع الورى و تملق
وإذا جُرِّرت إلى احتفال صفق
وإذا رأيت الناس تنهق فانهق
انظر تر الخرفان تحيا في هناءْ
لا ذل يؤذيها ولا عيش الإماء
تمشي ويعلو كلما مشت الغثاء
تمشي ويحدوها إلى الذبح الحداء
ما العز ما هذا الكلام الأجوفُ
من قال أن الذل أمر مقرف
إن الخروف يعيش لا يتأفف
ما دام يُسقى في الحياة و يُعلف
ومرّت فوق القبر جمال..
ما عاد لظلمه مكان..
ولا لظلامه مصفّقون ولا مطبّلون.. ولا من "يحزنون".. )
6.
انها مسالة وقت.....
أن نور الحق من داخلنا يقول: لن يفلت أي ظالم من العقاب ولكن سطوة القوة والجاه التي تسيطر على المتجبرين تعطل تفكيرهم،وتصبنع مناخاً من الغفلة والعجب (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لا عبين)وكأي من القرى والمدن عتت فجاءها أمر الله بياتاً أو هم قائلون..نائمون أم مستيقظون .. والتاريخ يقول أن هناك بحاراً ومحيطات وأنهار أصبحت صحارى،وصحاري تحولت إلى وديان خضر وجنان فيحاء،وإن هناك جبارين بادوا وإمبراطوريات فنيت...
انظروا تحت إقدامكم ...ستجدوا تراب وتراث عصور انقضت، وحضارات تحت التراب فرعونية وسكسونية وآشورية وفينيقية وإغريقية ورومانية...انظروا ...ستجدوا بقايا تيجان وقصور ودروع مكسورة، وبقايا مكحلة كانت تكتحل بها أميرة تمشي في موكب فخم...وأكاد اسمع أصوات المواكب ، ونفير الجيوش تحت الأنقاض ، والعريس وضيوفه ، والقاتل والمقتول ، والظالم والمظلوم في حفرة واحدة قد استووا ترابا واجداثا....
لا شيء يدعو المستضعفين أن يخافوا، فالمخوف سينام بعد هنيهة إلى جوار من خوفه وارهبه ...والرعديد سوف يسبق الشجاع إلى حتفه ، وسوف تتفكك البنايات وتنهار البنايات والعمائر الجميلة والناطحات كأنها ديكور من ورق الكوتشينة، وسوف تزول الزخارف والنمارق كأنها نقش على الماء...ولن تبقى إلا شواهد القبور ثم تغور الشواهد في التراب او الرمال .....ثم لا يبقى اسم ولا رسم...

إن الشر مهما استعلى وطغى وبغى فلا بد له من نهاية مريرة . والطغاة قد تخدعهم قوتهم وسطوتهم المادية ، فينسون قوة الله وجبروته ، فيهلكهم الله عز وجل . فالبغي إذا تمرد وتكبر فإنه يهلك نفسه بنفسه فيهيئ الله المستضعفين المعتدى عليهم أن يسحقوا هذا الباطل الأشر كما حكى الله عن بني إسرائيل : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) ومن سنة الله مع الطغاة أنه يمهلهم في غيهم وطغيانهم (وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج:48) فيستدرج الله الطغاة ليزدادوا إثماً (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44 45) فالله سبحانه وتعالى يمهل لهؤلاء الطغاة ويمدهم بأسباب القوة ، والقدرة على الحرب كيداً ومكراً بهم لا حباً لهم ونصراً ، ثم يأخذهم على حين غرة وثبت في الحديث :"إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ". إنها مسألة وقت " ولكنكم تستعجلون"
7
إنا بالمنايا لا نبالي

ظللت أحُلُّ أحجيةَ الخفايا
عَيَت عن حلها سود الليالي
وإحساسٌ يراودني، وهمسٌ
يناجيني , وطيف في خيالي
ألا دعني أعبر عن شعوري
وأحكي للورى ما قد جرى لي
********
بلغت السعي، لغمٌ عن يميني
وصاروح تَفَجًّر عن شمالي
وكانت لعبتي جمع الشظايا
على البارود إثري و أرتحالي
ألفتُ الضرب حتى خِلتُ أن
القذائف من جزئيات الليالي
طغاةَ الأرض مهلا لست أدري
لما حربي أجيبوا عن سؤالي
بأي ذريعة تُجتاحُ أرضي؟
وبالنيران أحرقتم دياري؟
وما هي تهمتي ليباح قتلي؟
ولم أعرف يميني عن شمالي
وأي شريعة قدستموها؟
بنا ملئت سجون الأعتقالِ
أفي الدستور قانونٌ مساغٌ
بتدمير المساكن و الأهالي
أكانت صدفة حرب علينا
أمكر الليل , أم حظي وفالي
أخلقي أم حدوثي كان جرمي؟
وإني لم أشارككم قتالي
********
حللت اللغز، إني سوف أُلقي
النقاط على الحروف ولن أبالي
فعلتم فعل فرعون بحقي
أترعبني بصوت المدفعية؟!
انا البَرَّاقٌ في صمت الليالي
أتزجرني بأصناف المنايا
فأني بالمنية لا أبالي
فلو كانت لها أذن وسمع
و إدراكُ لقلت لها تعالي
إذا ما شئت أن تسكت هتافي
دع الصاروخ يعبر من خلالي
6_11_2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.