قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ ليبيا: اشتباكات عنيفة في الزاوية.. وهذه حصيلة الضحايا    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    الحشاني يُشرف على اجتماع لجنة القيادة الاستراتيجية بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخطاء المنهجية لتقرير القيم والممارسات الدينية في المغرب *
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 04 - 2008

حصر تقرير "القيم والممارسات الدينية في المغرب" عيناته المستوجبة في 1156 مغربيا ينتمون إلى ست عشرة جهة إدارية، واستهدف التقرير ملامسة قضايا تدينية متنامية، أصبح دعاة المشروع الإسلامي يقدمونها شاهدا على التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع المغربي على طريق الانسجام مع الإسلام والتشبث به عقيدة وفكرا وقيما وسلوكا وممارسة.
وقد سمح منجزو التقرير لأنفسهم بالتوقف عند قضايا معينة لا ينتهي البحث فيها إلا إلى استخلاص نتائج نسبية غير قادرة على التعبير عن واقع التدين بالمغرب. كما أنهم سمحوا لأنفسهم بإسقاط رؤية فكرية أحادية البعد على النتائج الإحصائية التي توصلوا إليها، فجاءت الدراسة مصطبغة بصبغة ذاتية وإن هي حاولت التمظهر بمظهر العلمية والموضوعية والحياد.
ويبدو أن إنجاز تقارير بشرية تستند إلى إحصاءات تستخلص نسبا مئوية عن ظواهر اجتماعية محددة قد أصبح أسلوبا جديدا ومنهجا متبعا لترويج كثير من الأطروحات التي تواجه درجة قوية من الممانعة الثقافية والاجتماعية.
وأسلوب الاحتماء بوثوقية العلم والتمظهر به أسلوب موغل في القدم، عانى منه الفكر الإنساني قديما وتفطن له على الخصوص كثير من المفكرين المسلمين، فحللوا مكوناته، ونبهوا إلى مخاطره على مسار المعرفة ضمن ما كتبوه عن "الصناعات الخمس" من كتبهم المنطقية، وأطلقوا عليه "صناعة المغالطة"، وعبروا عن طبيعة ذلك الأسلوب بصيغة دالة ومركزة قالوا فيها: "فلان يتكلم بكلام العلماء، فهو إذن من العلماء".
وهو أسلوب طالما اعتمدته البحوث الاجتماعية الكولونيالية(الاستعمارية)، التي بذلت جهدا كبيرا في الدفاع عن المشروع الاستعماري وعن مشروعية تصرفاته إزاء الشعوب المستعمرة على نحو ما فعلته الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي أوعزت إلى الدائرين في فلكها من علماء الجيولوجيا والجغرافيا على المستوى الطبيعي، ومن علماء الأنثربولوجيا على المستوى البشري، بأن ينجزوا دراسات تبدو عليها ملامح جدية العلم لإثبات أن شمال إفريقيا ليس إلا امتدادا طبيعيا وبشريا لأوروبا، ولإثبات أن الجزائر على الخصوص ليست إلا ضفة جنوبية لفرنسا، مع استبعاد المقابل الطبيعي لهذا الطرح وهو أن تكون أوروبا نفسها امتدادًا لشمال إفريقيا.
وإلى الآن ما زالت الدوائر الاستعمارية الإسبانية تنتج خطابات من هذا القبيل، تتوسل بالبحوث العلمية الطبيعية التاريخية، وتتوسل بالأساطير إذا أعوزها المدخل العلمي، من أجل ترسيخ انتماء سبتة ومليلية إلى المحيط الإسباني، ومن أجل تركيز ذلك المعطى في لاوعي الناشئة الإسبانية.
وخلال فترة المد الشيوعي وعنفوانه دفعت المؤسسات الدعائية العلماء إلى الإكثار من إجراء عمليات تهجين النباتات ليكون الناتج عن التهجين صنفا ثالثا يشهد لنظرية الديالتيك في بعدها النظري الأيدولوجي ويبرهن على صحتها بشواهد مادية طبيعية.
إن فكرة إصدار تقارير علمية ترصد بعض الظواهر الاجتماعية لا يمكن أن يكون إلا عملا علميا مفيدا على طريق معرفة المجتمع، لتفادي السلبيات والارتقاء به نحو الأفضل، إلا أن إنجاز هذه البحوث لا تكون له آثاره الإيجابية ولا يحقق الغاية العلمية المتوخاة منه، إلا إذا توفرت له الشروط الموضوعية والأمانة العلمية والنزاهة الفكرية التي تجعل منه عملا ينأى عن الذاتية وعن الإسقاطات الشخصية وعن التوظيف البراغماتي للعلم.
ملاحظات عامة على التقرير
بما أن تقرير "القيم والممارسة الدينية في المغرب" هو تقرير مفتوح على كل أفراد المجتمع المغربي ومكوناته وجماعاته الوظيفية، وعلى جميع الباحثين والمهتمين، فإن هذا يطرح إلزامية إسهام هذه المكونات في تقويم التقرير وإبداء ملاحظات على الجوانب التي قد تكون موضوع نقاش فيه، فبالإمكان التوقف عند ملاحظات يتسع المقام لعرضها ومنها:
1 إن المطلوب منهجيا في كل عمليات سبر والاستطلاع أن تنوع العينات والنماذج المستجوبة وفق ما في المجتمع من اهتمامات دينية ومن تيارات فكرية ومن توجيهات اجتماعية وتحقق هذا الشرط يسمح بتوسيع زاوية الرؤية للمجتمع، ويجعل البحث مستوعبا لأكثر المكونات المشكلة لتنوع المجتمع، وهذا ما يحقق صدقية النتائج واقترابها من تمثيل الواقع الحقيقي للظواهر المدروسة.
والتزاما باحترام شرط التنوع وخدمة للحقيقة، فإنه يجب مراعاته وتوفره كذلك في العينات المشرفة على إعداد التقرير وتنفيذ خطواته؛ لأن عمليات تصميم التقرير وهندسته وتحديد الغايات المرجوة منه ليست عملية آلية محايدة أو منفصلة عن ذاتية المشرف، وإنما هي عملية تتم ضمن نطاق رؤية المشرف وقناعاته، وما يمكن أن يكون قد كونه سلفا عن الظاهرة المدروسة من آراء ومواقف، ومن ثم تكون الأسئلة المطروحة موحية بأجوبة غالبا ما تكون مؤيدة لمواقف المشرف على التقرير.
كما أن التركيز على بعض العينات هو في حد ذاته نوع من التوجيه ومن الإسهام في صياغة الأجوبة المقصودة، فطرح السؤال عن الستر والحجاب على عينات من المستحمين على شاطئ البحر يختلف جوابه عن طرح ذات السؤال على عينات من أشخاص آخرين وهم يخرجون من قاعة محاضرة دينية مثلا.
والسؤال عن حفظ القرآن حينما يوجه إلى أوساط ذات تكوين علمي في كليات الطب أو الهندسة أو الزراعة يؤدي إلى نتائج مغايرة لطرحه على عينات أخرى قريبة الصلة بالتعليم الديني.
ومؤشر التدين عند الأطباء لا يقاس بحفظ القرآن وإنما يقاس بمظاهر أخرى مميزة متصلة بأداء العمل الطبي كالبسملة عند المعالجة، وكاستحضار قدرة الله على الشفاء، أو كالقدرة على التواصل باللغة العربية وما يشبه ذلك من المظاهر الكثيرة الدالة على التدين عند فئة الأطباء والمهندسين والصيادلة والزراعيين ومن على شاكلتهم، ممن لم تترك لهم البرامج التعليمية والتربوية متسعا للاشتغال بحفظ القرآن الكريم.
لهذا الاعتبار، فإن تنوع توجهات المشرفين على إعداد التقرير، وانتمائهم إلى مدارس فكرية وثقافية متعددة، مما يمكن أن يدرأ عن البحث صفة أحادية الرؤية أو إقصاء الآخر أو التحكم في مسار العلم، وبإمكان ذلك التنوع أن يصل بالبحث إلى تشخيص حقيقي للقيم وللتدين في المغرب حتى لا يعيش الناس على وعي مغلوط.
2 لقد جاء في التقرير أن 54.2% من المستجوبين الذين يفترض التقرير أنهم يمثلون نماذج من التيارات الموجودة في المغرب، قد صرحوا بأنهم يعتبرون أنفسهم مسلمين بالدرجة الأولى، ثم يأتي اعتبار الهوية المغربية في الرتبة الثانية، واعتبار الهوية العربية في الرتبة الثالثة، وتأتي الهوية الأمازيغية في الرتبة الرابعة.
إن هذا المعطى يطرح إشكالات على مستوى المنهج وعلى مستوى المضمون كذلك.
فعلى مستوى المنهج، فإن السؤال عن تراتيبية الانتماءات لا يتأسس إلا على توهم التباين والتنافي بين التمسك بالإسلام والاعتزاز بالهوية المغربية وبالعروبة أو بالأمازيغية.
والواقع أن التنافي له شروط علمية معروفة ومدروسة في باب التناقض من كتب المنطق، ومن أبرز شروطه ما سمي بالوحدات الثمان، التي منها اتحاد الموضوع والمحمول والزمان والمكان والقوة والفعل والكلي والجزئي والشرط والإضافة.
ومن غير أن ألجئ القارئ إلى دراسة مبحث التناقض، فإني أقول إنه لا يجوز أن يقول لشخص مثلا: هل أنت مسلم أم أنت رجل؟ لأنه لا تقابل بين الإسلام والرجولة، كما لا يجوز أن يقال للآخر: أأنت مسلم أم مغربي؟ أو هل أنت مسلم أم عربي أم أمازيغي؟ لأن هذه عبارات متداخلة، يتناول كل منها حيثية خاصة.
فالإسلام هو علاقة تدينية ومنهج حياة يكون عليه الإنسان، أما الانتماء إلى العرب أو الأمازيغ فإنه انتماء إلى أحد فصيلين بشريين، والإسلام يستوعب الفصيلين ويستوعب غيرهما.
ولو صح أن يطرح هذا السؤال لصح التقسيم، فيقال إن الإنسان إما أن يكون مسلما أو يكون عربيا أو يكون أمازيغيا أو تكون له هوية مغربية.
والإسلام لا يتنافى مع الهوية الوطنية للإنسان المغربي؛ لأن الإسلام أسهم بقوة في صياغة الهوية الوطنية المغربية.
وبالمقابل فإن بعض معارف الإسلام وعلومه قد اصطبغت بصبغة جهات وأقاليم إسلامية تطورت فيها، والمعروف أن جزءا من الفقه قد انبنى على مراعاة الأعراف وما تواضع عليه الناس مما لا يتنافى مع جوهر الإسلام ومقاصده، وقد أجاب الشافعي حين سئل عن اختلاف فقهه الجديد في مصر عن فقهه القديم، بأن ذلك "اختلاف مكان وزمان لا اختلاف حجة وبرهان".
والمعروف عن الفقه المالكي أنه تشكل من مجموعة مدارس ذات عناوين محلية هي المدرسة البغدادية، والمدرسة المصرية، ثم المدرسة المغربية.
وقد اصطبغ كثير من أبواب الفقه بصبغة المحلية تبعا لما جرى به العمل، فكان هناك العمل الغرناطي، والفاسي والسوسي. وعرف عن الفقه في المغرب والأندلس أنه تفرد بالقول في أكثر من300 مسألة، ومثل ما قيل عن الفقه يقال عن علوم أخرى مثل علم النحو، الذي تنازعته في البدء مدرستان كبيرتان هما مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، ثم تلتهما المدرسة البغدادية، التي تشكلت على يد أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وانحاز النحو في الغرب الإسلامي في أول الأمر إلى نحو الكوفة تبعا لمحبة المغاربة لعلي بن أبي طالب، الذي ارتبط بالكوفة، لكن سرعان ما تحول الناس إلى المذهب البصري قبل أن يشكل المغاربة والأندلسيون مدرسة النحو المغربي.
إن طرح السؤال على المستجوب إن كان مسلما بالدرجة الأولى أو ذا هوية مغربية أو ذا انتماء عربي أو أمازيغي، هو بمثابة السؤال إن كان الشخص مسلما أو أنه يحب التقاليد والعادات المغربية واللباس المغربي، وهو بمثابة أن يقال لشخص: أتحب مكة أم أنك تحب مراكش أو سلا أو طنجة، أو يقال له أأنت مسلم أم أنت عربي أم أمازيغي؟
والحال أن الأخذ بكل هذه الاعتبارات لا يتنافى ولا يتدافع، وإنما يتداخل ويستوعب في الشخص الواحد، وعبر التاريخ المغربي والتاريخ الحديث خصوصا مزجت المقاومة بين الدفاع عن الوطن والدفاع عن الدين، وظل حب الإسلام وحب الوطن وحب الانتماء إلى الأهل والعشيرة أشياء متمازجة؛ لأن الإسلام قد ضخ من معانيه وقيمه في باقي المكونات، فقد عزز حب الوطن ودعا إلى البر بالأهل والعشيرة، والهوية الوطنية تحفظ ضمن قيمها كل قيم الإسلام، ولا تستثني منها شيئا.
ومن الإسلام استقت الهوية الوطنية معاني العبادة والتوحيد والبر بالأهل والأقربين، ومنه استقت معاني إيتاء الزكاة والصيام والحج وأحكام المواريث والشفعة وغيرها من المعاني التي طبعت الهوية الوطنية، ومارسها المغاربة العرب والأمازيغ على حد سواء، في نسق واحد متناغم.
هذا عن الخطأ المنهجي المتمثل في وضع سؤال المفاضلة بين الاعتزاز بالإسلام والاعتزاز بغيره من الهوية الوطنية أو العربية أو الأمازيغية.
إشكالية الانتماء الديني في المغرب
أما عن مناقشة المضمون الذي أفصح عنه الإحصاء، والذي يوحي بأن نحو نصف المغاربة يعتبرون أنفسهم مسلمين بالمقام الأول فإنه معطى خطير يصعب التسليم به؛ لأن قضية كهذه تمس الأمة في انتمائها الديني تحتاج إلى بحث جاد وإلى استنطاق كل المؤشرات، وإلى إعمال كل أصناف السبر الصحيحة.
إن واقع المغاربة يسجل أنهم مسلمون في غالبيتهم العظمى، ويشهد على هذا أن خصومات حادة شفوية وكتابية تقع دائما بمجرد أن يكفر شخص غيره ويخرجه عن دائرة الإسلام، حتى لو كان من يوجه إليه التكفير رقيق الدين، قليل الاعتناء بشعائر الإسلام، ويؤكد هذا المعنى أننا لا نجد مغربيا مهما يكون مستواه من الدين إلا وهو يختن أبناءه، ويحرص على أن يدفن أقرباءه بعد أداء الجنازة عليهم، وهذه علامات بارزة لا نحتاج معها إلى أخذ عينات؛ لأن استنطاق العينات يتهاوى أمام هذه المظاهر الدالة بقوة على انتماء المجتمع المغربي للإسلام.
إن معرفة عمق تدين الإنسان المغربي قضية على جانب كبير من الأهمية والخطورة، التي يمكن أن تنعكس على استمرار الانسجام في المجتمع، وهي بذلك لا يمكن أن تعلق على إحصاء شارد لم تتوفر له بالتأكيد شرط الموضوعية والنزاهة، ولا يدري أحد كيف تم، ولا كيف اقتنصت نتائجه، وهذا ما يلزم الباحث بتعميق البحث وباستنطاق شواهد أخرى، ومنها: أن نلاحظ كيف تهيمن أجواء شهر رمضان على الشعب المغربي وتتكيف كل أنشطته وفق نظام يوم الصيام.
ومنها أيضا أن نتابع حركة بناء المساجد والإقبال عليها خصوصا أيام الجمعة وفي رمضان.
ومنها أن نلاحظ مظهر قبول ارتداء الحجاب إلى الدرجة التي بلغت نسبته 84%.
ومنها أن نتابع موجة انتشار الإنشاد الديني ورواج أشرطة القرآن الكريم والدروس الدينية والمحاضرات.
وعلى الإجمال، فإن اللغة والأسماء والأعياد والآداب العامة والاقتصاد المرتبط بالمناسبات الدينية كرمضان وعيد الأضحى والمولد النبوي وعاشوراء وغيرها تظل مؤشرات أقدر على إبراز عمق تدين المجتمع المغربي الذي لن يكون استثناء من المجتمعات الإسلامية التي تعرف حضورا قويا ومتناميا للإسلام.
3 لقد أورد التقرير أن22.9% من المستجوبين يعترفون بأن معرفتهم بالدين الإسلامي ليست بالشكل المطلوب، واستنتج التقرير من ذلك أن المجتمع يتجه إلى الحداثة. إن هذا الاستنتاج يثير الاستغراب؛ لأنه يرى مجرد الجهل بالإسلام هو مؤشر توجه المغرب نحو الحداثة. والواقع أن الجهل لا يستلزم ذلك ضرورة؛ إذ كثيرا ما يكون الجاهلون بالإسلام جاهلين به وبغيره، وكثيرا ما يجهلون ما يجب عليهم معرفته من ثقافة عصرهم. وما ورد في الإحصاء يجب أن يقابل بغيره من المؤشرات الكثيرة القادرة على التعبير عن حقيقة اتصال المغاربة بالمعرفة الإسلامية، فيمكن الاقتصار على المؤشرات التالية:
إن موقع المجلس العلمي الأعلى على شبكة الإنترنت قد استقبل سنة 2006 أكثر من300.000 زائر، وإن موقع وزارة الأوقاف استقبل أكثر من 500.000 زائر.
لقد حققت بعض المواقع على شبكة الانترنت نسبة زيارات عالية كان المغاربة في الصدارة من المتابعين لها، وقد سجل مركزALEXA أن موقع "إسلام أون لاين.نت"رتب الأول من بين وسائط التواصل الديني خلال سنة 2006 وبلغ عدد الصفحات التي فتحت 1950.000.000 صفحة، وكان المغاربة في الصدارة من الزوار بنسبة تتردد بين 30 و36%.
وقد سوق المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء مجموعة من الكتب بلغت نسبة الكتاب الديني والتراثي منها 40%.
وخلال أيام السنة كلها تستقبل المجالس العلمية بجميع أنحاء المغرب أسئلة المواطنين، ويتابع كثير من المغاربة آلاف المحاضرات التي تنظمها المجالس العلمية.
ويتابع خطب الجمعة أسبوعيا أكثر 6.000.000 شخص يتعرفون خلالها على حقائق الإسلام.
هذه أبرز الأشياء التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة إقبال المغاربة على المعرفة الإسلامية، وهي تبرز اهتمامهم الكبير بمتابعة ما يكتب وما يلقى من الدروس والمحاضرات.
الاختلال المنهجي في التقرير
4 من الحقائق التي ساقها التقرير أن1.4 في المائة هم الذين يحفظون القرآن الكريم، وهو ما يعني أن عدد من يحفظ القرآن من المغاربة لا يتجاوز420000 شخصا.
فقد أدى الاضطراب المنهجي الذي وقع فيه الإحصاء إلى عدم قدرة الاستجواب على الوصول إلى الحقيقة، يتمثل هذا الاختلال المنهجي في أن وجود حفظة القرآن الكريم ليس موزعا بالكيفية التي تجعل العينات المستجوبة حاضرة في كل الجهات التي أخذت منها العينات؛ لأن هؤلاء الحفظة وإن وجدوا في كل الدوائر المغربية، فإن وجودهم مركز في أماكن معينة من دوائر معينة، ويمكن اتخاذ بوادي سوس نموذجا لهذا.
أما عن المعطى الإحصائي فإنه يبتعد كل البعد عما تفيده مؤشرات أخرى أكثر دقة واستيعابا ومنها -على سبيل المثال- أن في المغرب 10600 كتاب رسمي تؤطر سنويا 310.000 طالب تعليم الأولي العتيق، وإلى جانبهم 25.000 طالب ينتمون إلى خمسمائة مدرسة أخرى في التعليم العتيق، وإلى جانب هؤلاء وأولئك آلاف الطلبة الذين تحضنهم مدارس في جميع أنحاء المغرب يرعاها سكان القرى والمداشر، أو تشرف عليها جمعيات لتحفيظ القرآن الكريم في الوسط الحضري، وفي المغرب مدارس علمية أخرى هي غير مدارس التعليم العتيق، وهي تحتضن آلاف المنتسبين إليها.
وإلى جانب هذه الأعداد من الطلبة أعداد كبيرة من الأئمة والخطباء والوعاظ حفظة القرآن الممارسين لمهام دينية أو المشتغلين في قطاعات أخرى رسمية أو حرة، وهؤلاء هم الذين يؤمون الناس في صلوات التراويح ويحيون ليلة القدر، وبهذا التتبع يتبين خطأ إحصاء التقرير وبعده عن الحقيقة.
ومما يتصل بعلاقة المغاربة بالقرآن الكريم أن التقرير ذكر أن 5.6% يحفظون عدة سور وأن 82.1% يكتفون بحفظ بعض السور، وهذا التعبير في غاية الاضطراب؛ إذ إنه لا يبين ما هي السور التي يحفظها 5.6 % من الناس، وما هي السور التي يحفظونها 82.1%.
والظاهر أن واضعي الأسئلة قد ارتبكوا في تحديد السور التي طرحوا بشأنها السؤال، ومن ثم جاء الجواب مرتبكا غير مفيد.
إن تعامل المغاربة مع سور القرآن تدل عليه مؤشرات أدق وأصدق، وعلى رأسها حاجتهم إلى تلاوة بعض سور القرآن في الصلوات، كما أن الكثرة من المغاربة يحتاج إلى قراءة بعض قصار السور وعلى رأسها: الفاتحة وسورة الإخلاص والمعوذتان، والكثرة من المغاربة تقرأ آية الكرسي، والكثير منهم يحفظ السور التي تتلى في مناسبات خاصة كالمآتم، ومنها سورة ياسين وتبارك.
ومما يرتبط بصلة المغاربة بالمصحف أن التقرير ذكر أن غالبية المستجوبين صرحوا بأنهم يتوفرون على المصحف. والتعبير بغالبية المستجوبين تعبير بعيد عن لغة الإحصاء التي تقتضي إيراد الأعداد بفواصلها، كما فعل التقرير حينما كانت الإحصاءات تنتهي إلى نسب هزيلة، ولعل المستجوبين أجابوا بنسب عالية قد تقارب 100%، ولذلك سكت التقرير عنها حتى لا تشوش على الصورة التي أراد التقرير الخلوص إليها وتسويقها ومن ثمة لجأ إلى لغة الغموض.
إن المتتبع للشأن الديني عن كثب وبعد استقراء الكثير من المؤشرات لابد أن يكون له رأي مخالف عن علاقة المغاربة بالقرآن، وهي علاقة ما فتئت تنمو وتتوثق وتعلن عن نفسها من خلال ازدياد القراء والمجودين، خصوصا الشباب الذين يشاركون على مستوى المدن المغربية خلال شهر رمضان في مباريات حفظ القرآن وتجويده، وتعرض بعض القنوات المغربية إحصائيات تلك المباريات.
ومما ينبئ عن تلك العلاقة المتنامية مع القرآن بروز ظاهرة جديدة تتمثل في انخراط المرأة بقوة في مجال حفظ القرآن الكريم، وقد أصبحت مباريات ولوج سلك الواعظات والمرشدات تبرز أعدادا كبيرة منهن.
وينبئ عن تلك العلاقة اهتمام الشباب المغاربة حديثا بعلم التجويد واحترام مخارج الحروف.
5 ومما جاء في التقرير أن26% من المستجوبين يعرفون طقوس الإسلام وشعائره، والسؤال الذي يتعين طرحه يتعلق بما يعنيه التقرير من كلمة الطقوس، التي تعتبر كلمة أجنبية عن المعجم الإسلامي، وهي تعود إلى الأصل اليوناني لكلمة "TAXIS"وهي تعني في اللغة الكنسية نظام الخدمة وتركيبها وشكل الكنيسة وأدواتها ورُتَب الكهنة وألبستهم والرموز التي يتمسكون بها. كما أنها قد تعني خصوصيات الطوائف المسيحية في التدين، وكل هذه المظاهر لا علاقة لها بالإسلام، فبقي أن ما في الإسلام من أفعال تعبدية إنما تسمى شعائر بموجب قول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} الحج:30.
وبصرف النظر عن هذا الاغتراب عن المعجم الإسلامي، فالمتأمل لا يستطيع أن يدرك دلالة جهل هذه النسبة بشعائر الإسلام، هل يقصد به الجهل بوجوب الصلاة وبكيفية أدائها أم يقصد به الجهل بطريقة أداء الصيام أو المقصود به الجهل بكيفية أداء الحج الذي يصبح ثقافة معروفة بعد الممارسة والتطبيق، أم أن المقصود بها هو شيء آخر لم يفصح عنه التقرير؟
والمتأمل لا يستطيع أن يوفق بين جهل هذه النسبة بشعائر الإسلام وبين ما ورد في التقرير أن73.7% يصلون بشكل منتظم وأن 0.8% آخرين يصلون بشكل متقطع، فكيف يؤدي هؤلاء الصلاة وهم لا يعرفون طريقة الوضوء ولا كيفية أداء الصلاة وهم يصومون خلال شهر رمضان؟! وكثير منهم يضيف صيام النوافل خصوصا يوم عاشوراء والتاسع من ذي الحجة وستة أيام من شوال وهم مع ذلك لا يعرفون شعائر الإسلام؟
ومما جاء في التقرير أن 22.9% من الشباب لا يعرفون الإسلام بالشكل المطلوب، ولم يوضح التقرير ما المراد بالشكل المطلوب؟ وهذا إذا تم فإنما هو تصريح؛ لأنهم لا يعرفون الإسلام كما يتمنون أن تكون معرفتهم به.
وفي هذا الجواب ولا شك مؤاخذة للنظام التربوي الذي لم يمكن المغاربة من هذه المعرفة وفيه إقرار بأن في المغرب أناسا آخرين يعرفون الإسلام بكيفية جديدة، وهم مرجع هذه المقارنة.
ومهما يكن الأمر فإن الإشكال لا يكمن في وجود فئة لا تعرف الإسلام كما يجب أن تكون المعرفة، وإنما يكمن في وجود فئات لا تعرف الإسلام ومع ذلك فهي تدعي أنها أعرف به من علمائه وأنها أقدر على الاجتهاد فيه والإتيان بما لم تستطعه الأوائل.
حقائق لم يذكرها التقرير
وبعد، فهذه قراءة نقدية لبعض ما جاء في تقرير التدين والقيم بالمغرب، وهي ليست من قبيل العصف الذهني أو كلام تحمل عليه العاطفة، وإنما هي خلاصة قراءة أنتجتها رؤية فاحصة لقضايا التدين من موقع الحضور داخل المجال الديني وسمتها المنهجية أنها واجهت كل الحقائق، التي جاء بها التقرير، بحقائق أخرى تستند إلى مؤشرات هي أكثر تنوعا وأوثق ارتباطا بمواقع الممارسة بالمغرب.
كما أن هذه الدراسة سعت إلى مساءلة القراءات والاستنتاجات التي خلص إليها التقرير، وكشفت عن عدم إفضائها إفضاء منطقيا لما نسج عليها من الاستنتاجات، وبينت درجات اصطباغها بالذاتية وسعيها إلى التوظيف الأيدولوجي للأرقام.
وقد قصد النقد الموجه إلى التقرير إلى الكشف عن الحقيقة كما هي، وإلى محاولة منع تأسيس وعي مغلوط عن جانب خطير من الحياة المغربية؛ لأن الجهل بالذات هو أفدح وأشنع من الجهل بالآخر.
فإذا عيب على القوى العظمى أنها تعاملت مع العالم الإسلامي من موقع الجهل الفظيع الذي أوقعها فيه كثير من مراكز البحوث والدراسات، فكانت الوقائع مفاجئة، وكانت النتائج كارثية ومذهلة، فإن جعل الإنسان المغربي بذاته وبمجتمعه وبعمق التدين فيه لابد أن يكون أقبح وأسوء؛ لأن ذلك الوعي الموهوم يفضي إلى إنتاج أنماط معينة من التعامل مع مجتمع افتراضي لا وجود له إلا في لغة الأرقام وفي الاستنتاجات التي نسجها التقرير حولها.
ومن شأن الاستهانة بالمعطى الديني وبالعقل الجمعي للمغاربة أن يتولد عنه إهمال الحقل الديني وتفريغه لكل ما يمكن أن ينشأ فيه من صور التدين الخاطئة. وحينذاك يعرف المجتمع كثيرا من الممارسات العنيفة، التي تعوق حركة المجتمع وسعيه نحو النهوض في محافظة صارمة إلى أصالته وخصوصيته الثقافية المرتبطة بالإسلام كل الارتباط.
--------------------------------------------------------------------------------
عضو المجلس العلمي الأعلى بالمغرب
*نقلا عن مجلة "المجلس" ضمن عددها المزدوج الحالي (الثاني والثالث) لشهر مارس 2008، و"المجلس" هي لسان المجلس العلمي الأعلى، أكبر مؤسسة علمية بالمغرب. تقرير أنجزته مجلة "مقدمات" بتمويل من المؤسسة الألمانية فريديريك هيبريت "، وصدر باللغة الفرنسية عن مؤسسة " آل سعود للدراسات والعلوم الإنسانية" بالدار البيضاء في بداية هذا العام، وقد ساهم في إعداده ثلاثة باحثين توزعوا محاوره الثلاثة، حيث أعد محمد الطوزي محور المرأة والتدين، ومحمد عيادي على محور الشباب والتدين، وحسن رشيق على محور المعتقدات والقيم، فيما أشرف على الدراسة محمد الصغير جنجار.

2008 إسلام أون لاين.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.