لا شك أن فرض نظام حزب الله على جريدة و تلفزيون المستقبل هو اعتداء في نهاية المطاف على صوت الخصم و على حقه في التعبير عن رؤاه , أي أنه تصرف مدان انطلاقا من موقف حرية الصحافة التي تتوقف عندها المنظمات الحقوقية و انطلاقا من الحرية الإنسانية أولا كقيمة بعيدة كل البعد عن أن تكون أساس الحياة ناهيك عن أن تكون أساس موقف كل الأطراف الفاعلة في السياسة من الإنسان أي إنسان , ناهيك عن مواقف القادة السياسيين و المؤسسات الدينية المرتبطة بمشروع الحريري السياسي الاقتصادي , لكن من السخيف جدا أن تختصر الحرية في شرقنا إلى مجرد الدفاع عن حق ملياردير كالحريري بإسماع صوته للناس..لا يوجد وقت تحول فيه الإبداع الثقافي إلى وظيفة ملحقة بمؤسسات الدولة الشمولية أو رأس المال السياسي الاجتماعي كما هو اليوم , إن الفن ينكص أكثر فأكثر إلى الحالة التي مر بها في القرون الوسطى عندما كان قصر الحاكم هو المكان الأساسي للإنتاج الفني و الأدبي..إن الفن اليوم يصبح أسير قانون الربح و يصبح المبدعون مطالبين بالتركيز على الأرباح لإرضاء الصناعة التي تتحكم بهم , هذا يصح على المسلسل التلفزيوني و الفيلم السينمائي و الأغنية و الرواية و حتى الشعر , ناهيك عن الدور الرجعي للبترودولار في السعي إلى جذب المبدعين إلى مهرجانات فوقية تخدم في نهاية الأمر تمجيد السلطة , إن الصفة النخبوية للفن و الإبداع و ابتعاده المستمر عن الشعب عن القاعدة و عن هموم الطبقات و الفئات المهمشة هي اليوم أشد من أي وقت مضى بعد تراجع واضح في الأفكار التي قالت بربط الفن بالشارع , و معظمها شمولي يستحق هذا الصفع من قبل التاريخ و الشارع نفسه..لكن هذا يعني أنه ليس الحريري و لا أنظمة الخليج هي التي تشكو من العزلة المتزايدة في هذا العالم , لأنهم ببساطة يملكون المال اللازم لعملية تكحيل العروس القبيحة و ليس لأنهم يحملون مشروعا ما أبعد من خلطة عشائرية طائفية شخصانية تابعة لرأس المال الأجنبي و مخلوطة و محدثة على نمط اللامعقول , إن الجماهير اليوم تعيش حالة تكالب عامة و تخسر حتى ذلك الجهد المتواضع الذي كانت النخبة تخصصه لهمومها مقابل موقف وصائي كامل على صوتها السياسي و موقفها الاجتماعي و حتى التنظيمي..إن هذا التراجع يترافق مع أسوأ حالة وصلتها الجماهير معيشيا و اقتصاديا على يد الأنظمة و النخب التي تلتزم بوصفات ملئ الجيوب التي يوزعها البنك الدولي و اقتصاديوه..إن الواقع ليس مجرد سلطة سياسية و هيمنة اقتصادية و اجتماعية , إنه أيضا هيمنة ثقافية و هيمنة أشكال سائدة للعلاقات الإنسانية و للقيم الإنسانية , أخلاقية و جمالية , لذلك فإن البديل ليس عبارة عن مشروع سياسي اقتصادي بحت , إنه ينبثق عن و يؤدي إلى , في نفس الوقت , إحلال قيم جمالية و أخلاقية و أشكال جديدة عن العلاقات بين البشر تتناسب مع هدف الحرية الذي يحمله البديل و تتناقض جذريا و بدون أي مساومة مع قيم و ممارسات و علاقات و رؤى السائد..إن تحدي السائد بكل ما يمارسه و يمثله ضد الإنسان ليس مجرد مواجهة سياسية اجتماعية , إنه مواجهة قيمية إنسانية جمالية أخلاقية بين قيم و جماليات النخب السائدة في مواجهة قيم و جماليات الناس كمجموع و كمجموعات و كأفراد , و بين قيم و جماليات الاستبداد و القهر و الاستلاب و الاغتراب و الثبات و بين قيم و جماليات الحرية و التضامن و التغيير, إن مقاومة الوضع السائد و الرد عليه نفسها مأزومة نتيجة التوزيع الجائر في القدرة على التعبير بين الطبقات بل و حتى القدرة على مقاربة الواقع المستقلة و خلق المشاريع التي تشكل مصالح هذه الطبقات المتناقضة رافعتها الأساسية , و يبحث هذا البديل بالضرورة عن أشكال جديدة للعلاقات بين الجماهير و أشكال جديدة لعلاقات السلطة و الثروة و عن وظائف جديدة للفن و الثقافة تتناقض مع الأشكال السائدة التي تخدم الاستبداد و استلاب الجماهير..هناك أطراف جاهزة للدفاع و الثورة بغضب ضد ما جرى لجريدة و تلفزيون المستقبل , يمكن أن نطمئن إلى قيامها بهذه المهمة , لكن المطلوب من الباحثين عن عالم أفضل , عن الحرية في ثنايا هذا الاستبداد و هذا الاستلاب الذي يسود الأرض اليوم هو أن يلتفتوا إلى المهمشين و المغيبين , لا بصفة فوقية نخبوية بل بوصفهم جزء من هذه الجماهير , و ليس بوصفهم طليعة متميزة أو متمايزة بل بوصفهم وليد الحياة القائمة على المساواة و الحرية بين الناس , أن يعملوا على كسر احتكار رأس المال و البترودولار للفن و للإبداع , أن يحولوا قضية الإبداع إلى حالة يومية مرتبطة بالجماهير , إلى حالة يومية من توصيف و رسم صراعات الإنسان ضد قوى القهر و القمع و الاضطهاد في أشكال إبداعية ثورية جماهيرية و مرتبطة بالحياة اليومية للناس... مازن كم الماز المصدربريد الفجرنيوز