كثير من الأنظمة العربيّة تقول إنّها تسلك نظاما تعدّديّا وقد عمدت بعض النّظم بالفعل إلى تغيير قوانينها أو إلى سنّ قوانين جديدة تسمح لبعض التّنظيمات والأحزاب التي كانت فيما مضى ممنوعة بالنّشاط والتّرشّح للسّلطة لكنّ تلك الخطوات تظلّ حبرا على ورق لأنّ الهدف منها هو إيجاد نوع من الشّرعيّة للحكّام العرب وخاصّة منهم أولئك الذين ظلّوا في السّلطة لفترات تبلغ الثّلاثين عاما أو ما يزيد عليها جاثين على الصّدور كاللّحد. ولسائل أن يسأل: هل يحتاج الحكّام العرب لإضفاء شرعيّة داخليّة على حكمهم خاصّة وأنّ مواطنيهم مجهّلون ومهمّشون ولا اهتمام لهم بالسّياسة؟ والجواب يكون بنعم لأنّ هؤلاء الحكّام يرغبون في تحقيق شعبيّة أوّلا لكي يستمرّوا في سدّة الحكم وثانيا لإسكات الأصوات الغربيّة النّاقدة لطرق حكمهم ولأنّ ذلك يتماشى مع ادّعاءاتهم بأنّهم ينهجون نهج الدّيمقراطيّة في حكمهم. إنّ هذا الأمر (اتّخاذ تلك الإجراءات) يكاد يكون همّهم الأوّل والوحيد أمام استفاقة النّخب المثقّفة حتّى في بلدان الخليج. وبالفعل شهد العقد الماضي تشريعات تسمح لأحزاب المعارضة بخوض الانتخابات المحلّية والبلديّة والبرلمانيّة ولكنّ الأحزاب المنافسة تُمنَع على أرض الواقع من ترشيح ممثّلين عنها إلى البرلمات وإلى التّنظيمات المحلّية ولا تسمح لها السّلطات الحاكمة بشغل وطائف تشريعيّة أو تنفيذيّة ويتعرّض أتباعها لمتابعة ومضايقات رجال الشّرط وهذا ما يجري في تونس والجزائر والمغرب ومصر والأردن واليمن والكويت ولبنان وفلسطين... الحكّام وأحزابهم الحاكمة يتمتّعون بالدّعاية وتستند سلطتهم إلى الخوف المتجذّر في قلوب المواطنين ولا يسمحون لأحزاب المعارضة باستعمال أيّة وسيلة من وسائل الإعلام للدّعاية لبرامجها وأهدافها. وينادي مثقّفو وعلماء الشّرق الأوسط بضرورة الانتخابات بهدف الإبقاء على تلك الدّول فثمّة خطر قادم من أمريكا التي وضع منظّروها نظريّات تحدّد سمات النّظم الفاشلة التي لا تتمتّع بشعبيّة ويدعو النّظام الأمريكيّ باستمرار تلك النّظم المتعفّنة إلى تطبيق ديمقراطيّة صوريّة لأنّ في سقوط تلك الأنظمة سقوط لنفوذ أمريكا في تلك البلدان خاصّة وأنّها غنيّة بالموارد النّفطيّة والغازيّة. إنّ حكّام أمريكا الحاليين لا يؤمنون بأنّ العرب يستحقّون الدّيمقراطيّة ولا يعتبرونهم أهلا للحرّية وهذا نابع من معتقداتهم الدّينيّة فالعرب وعبر تاريخهم الطّويل ظلّوا دوما رعايا وحكّامهم يستندون إلى ما يسمّى "المبايعة". لكنّ صحوة المثقّفين العرب وارتفاع أصواتهم المطالبة بالتّغيير دليل على التّحدّي الذي واجهته وتواجهه تلك الحكومات وإن اعتبر الكثير من المثقّفين أنّ سياسات حكّامهم تشكّل خطوات إيجابيّة وأنّها مطابقة للمعايير الحديثة في تسيير البلدان ويغضّون الطّرف عن القيود التي تكبّل الأحزاب المنافسة. المعايير الحديثة في نيل السّلطة وإدارة الدّول تتلخّص إجمالا في الفصل بين السّلطات الثّلاث، السّلطة التّنفيذيّة والتّشريعيّة والقضائيّة، وتقاسم الحكم عن طريق إجراء الإنتخابات وضمان الحرّية لكلّ مواطن بقطع النّظر عن دينه وعرقه وجنسه ولونه وأفكاره وحماية حقوقه المختلفة وأوّلها حقّ العيش في بلاده. لكنّ الحكّام لا يقبلون بأن ينازعهم أحد على السّلطة ويستندون في تمسّكهم بها إلى منظومات قانونيّة تمنحهم صلاحيّات استثنائيّة مثل السّيطرة على وسائل الإعلام واستعمالها كأبواق دعاية لأنفسهم وصفاتهم وبطولاتهم الخياليّة. وتلك الصّلاحيّات الاستثنائيّة تكبّل المواطنين إجمالا وأحزاب المعارضة ولا تمنحهم ولو قدرا ضئيلا من إمكانيّة الوصول إلى وسائل الإعلام. وأثناء الحملات الإنتخابيّة يتعرّض مناضلوا تلك الأحزاب إلى الإعتداء والتّهديد والمضايقات وإلى القتل والتّشريد وأموالهم وممتلكاتهم تُصادَر وأطفالهم يطردون من المدارس... وفي بعض البلدان التي تزعم أنّها متفتّحة كمصر ولبنان لا نسمع عن أنشطة المعارضة إلاّ خلال الحملات الإنتخابيّة وفيما عدا ذلك فإنّ أحزاب المعارضة تحتاج إلى إذن من الحكومة بتنظيم لقاءات أو اجتماعات أو تظاهرات ثقافيّة وفي غالب الأحيان توصف أعمالها بأنّها غير قانونيّة أو بأنّها تدخّل في شؤون الدّولة أو بأنّها إكراه للمتعاطفين على اتّباع تلك الأحزاب. وهذه الممارسات تستند إلى القوانين كما أسلفت وتدخل في إطار التّظليل والدّعاية المغرضة التي تنتهجها الحكومات العربيّة جميعا. ولا تسلم الإنتخابات من التّزوير خلال عمليّات فرز الأصوات. وبالتّالي فإنّ التّعدّدية التي يتبجّحون بها لا أساس لها من الصّحّة. وفي بلداننا من الواضح والبائن للعيان أن السّلطة كانت على الدّوام ولازالت في يد فئة قليلة تتشكّل أساسا من عائلات الحاكم وأقربائه الذين يمسكون بزمام كلّ الأمور. وفي كلّ بلد ثمّة قانون يحاكم كلّ شخص إذا ما انتقد الحاكم وهو قانون يسمح بمعاقبة المتّهم بالسّجن من أجل "ثلب الرّئيس" أو "التّعرّض بالقدح للحاكم"، وأشكال هذا القانون وصيغه التّعبيريّة تختلف من بلد إلى آخر. أنا نطالب المثقّفين العرب والإعلاميّين والكتّاب بفضح الممارسات القمعيّة للحكّام المتسلّطين المتخلّفين وذلك لممارسة مزيد من الضّغط عليهم كي يذعنوا لإرادة شعوبهم المتمثّلة في التّوق إلى إرساء الدّيمقراطيّة والعيش في كنف الحرّية والأمن وذلك بدلا عن مباركة أعمال الحكّام وإطراء حكمهم وهو موقف تتوخّاه غالبيّة المثقّفين. لقد ذهبت بعض رموز المعارضة وكثرة من العلماء إلى حدّ إبرام اتّفاقات مع السّلط الحاكمة والبقيّة تقف موقف المتفرّج. إنّ سياسة الإنفتاح التي يتبجّحون بها ليست سوى دعاية دنيئة تنتهجها تلك النّظم بهدف البقاء على قيد الحياة ولقطع الطّريق على المعارضين الشّرفاء ولأنّ استياءً وتململا يصدران من حين لآخر في البلدان الغربيّة إزاء الممارسات القمعيّة. على المثقّفين العرب أن يعملوا على تحقيق تحوّل حقيقيّ نحو الدّيمقراطيّة. إنّ المواطن العربيّ يولد مُحبطا ويعيش متشائما ويموت من دون أن يرى نهاية الحاكم الذي يحكم في بلده. يا علماء العرب: عليكم أن تعملوا ليس على تقويض الحكومات التي تقوم على الحكم الاستبداديّ وإنّما على إجبارها على توخّي الدّيمقراطيّة وبذلك تكونون جديرين بتسميّة علماء. إنّ الدّيمقراطيّة تحقّق التّسامح في بلداننا وتمنح الفرد الحرّية مع المسؤوليّة طبعا وتجعل المواطنين الشّرفاء يديرون ثرواتهم ويتقاسمون الموارد. يا علماء أمّتنا، إنّ عملكم يتمثّل في توعيّة أبنائنا وتمكينهم من اكتساب المهارات وإصلاح النّظم التّعليميّة. إنّ أطفال اليوم سيحكمون بلداننا في المستقبل كما حكم أطفال الأمس في الماضي. إنّ سلطة الدّولة يجب أن تُكرّس لتحقيق "مجتمع مدنيّ" لا مجال فيه للصّراعات العرقيّة والطّائفيّة والمشاحنات القبليّة. إنّ عمليّات الإنتخابات الصّوريّة عمليّات تضليليّة لا بدّ من فضحها وهذا دوركم. وأمّا مصطلح "للمجتمع المدنيّ" وإن كان يشوبه غموض فيعني إجمالا المجتمع الذي تُراعَى فيه التّعدّدية وتُضمن فيه حقوق المواطنين جميعا على اختلاف أعراقهم ودياناتهم ومللهم وانتماءاتهم وألوانهم... وفيه يتنافس السّاسة على السّلطة تنافسا نزيها ويتشبّثون بدستور البلاد وبقوانينها ويطبّقونها على غنيّهم وفقيرهم على حدّ سواء. ومجتمع كهذا يجب أن تكون الدّيمقراطيّة فيه محرّكا للسّياسات الحكوميّة والحزبيّة على حدّ سواء. ولو فكّرنا قليلا في هذا لأدركنا أنّ مختلف الأطراف في المجتمع المدنيّ أسواء كانت حزبيّة أم سياسيّة أم عونيّة كمنظّمات الإغاثة مثلا تعمل بنزاهة لأنّ همّها تقدّمُ الوطن والمحافظة على ثرواته وليس في حساباتها أغراض إنتهازيّة أو عرقيّة أو طائفيّة أو نخبويّة، وهذا ما نجده في البلدان الغربيّة فالمواطن وإن كان عربيّا أو مسلما يُعامَل على قدم المساواة مع الفرنسيّ أو البريطانيّ أو النّمساويّ أو الألمانيّ لأنّ مفكّري هذه البلدان أدركوا قيمة الفرد وحرّيته وإنسانيّته... أمّا نحن فلا زال علماؤنا ينظّرون للطّائفيّة. إنّ البلدان الغربيّة ذاتها فيها حركات تحرّر ففي فرنسا مثلا ثجد الباسك والبروتون الذين يطالبون بالإنفصال وفي إسبانيا هناك الباسك والغاليسيّن وغيرهم لكنّ المواطن الباسكيّ مثلا وإن كان يشعر بنخوة انتمائيّة تشكّل عرقه أو هويّته فإنّه يعتبر نفسه فرنسيّا ولا يحتقر شخصا آخر من أصل بروتونيّ أو كورسيّ لأنّ الدّيمقراطيّة متجذرة في ثقافته ولأنّ فرنسا تعامل كلّ مواطنيها على قدم المساواة فتسمع مثلا بتدريس لغة الباسك المسمّاة أيوسكارا. لكنّ السّؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو الآنيّ: هل ثمّة بلد واحد في العالم ليس فيه انفصاليّون؟ وإذا أجبتم بنعم فلا تحتقروا مواطنا مخالفا لكم أبدا. إنّ الانتخابات التي تُجرى في البلدان العربيّة مطعون فيها لأنّ المواطن تمنعه القوانين والسّلطات الإستثنائيّة للرّئيس أو الملك أو الشّيخ من حقّ تقرير المصير ومن التّمثيل السّياسيّ. وتفيد الأخبار بأنّ الحكومات العربيّة تراقب حتّى المنتديات وتسلّط الرّقابة على المثقّفين والعلماء وتحاصر المعارضين وتحجب مواقع الإنترنات المنادية بالحرّية ولا توفّر حتّى منتديات سياسيّة لشرائح المجتمع للتّعبير عن آرائهم. وأنا أومن بأنّ المناقشة الجماعيّة تكرّس الإحترام المتبادل وترسي احترام الرّأي المخالف. وفي هذا الإطار أنا أنوّه بمنبر "دنيا الوطن" لأنّه يوفّر لنا فرصة للمناقشة الجماعيّة والتّفكير المشترك في المستقبل. بيد أنّ الحكومات العربيّة حتّى التي تُجرَى فيها الإنتخابات تكرّس محدوديّة السّلطة التّشريعيّة وتراقب الصّحافة وتعتدي على المعارضين البرلمانيّين، وهذا يوفّر فرصة للمتهجّمين على بلداننا وشعوبنا. وفي هذا الصّدد أحيلكم على كتب المستشرق برنارد لويس وعلى كتاب "ثراء وفقر الأمم" الذي لا أذكر كاتبه. لكنّ كتاب "ثراء وفقر الأمم" وإن كان يتهجّم على بلدان الخليج يؤكّد على أنّ الثّروة إذا لم تكن مصحوبة بفكر تكون فقرا ووبالا على أصحابها. نقص الدّيمقراطيّة يدعم نقد الخصوم وتطاولهم علينا ولكنّه في نفس الوقت يوفّر مناخا ملائما للحكّام كي يحكموا كما يطيب لهم ويجعلهم يدعمون سلطتهم المطلقة. إنّ العائلات الحاكمة تسيطر على موارد بلداننا وشعوبنا وتحفظها في البنوك الخارجيّة وتشتري بها القصور في أروبّا ولذلك فإنّ الدّراسات المقارنة في التّنمية الدّوليّة تفيد بأنّ الفقر المتفشّي في بلداننا ناتج عن سوء استعمال الحكّام لثرواتنا. تصوّروا أنّ الإحتفالات بعيد ميلاد رئيس أو ملك أو بعيد ميلاد ابنه أو ابنته يكلّف خزينة الدّولة ملايين الدّولارات. إنّ الانتخابات معدومة الفاعليّة لأنّ القوانين تضمن فوز أعضاء الحزب الحاكم بصفة أوتوماتيكيّة. المواطن العربيّ عبارة عن روبوط تديره أيادي الحكّام كالزّبوط، وهو الخذروف. إنّ المواطنين الذين يدلون بأصواتهم في أيّة انتخابات يبلغ عددهم 99.9 بالمائة ويصوّت منهم 89.9 بالمائة لحزب الرّئيس الحاكم. أليس في هذا دليل على الدّيمقراطيّة الزّائفة؟ ولا تعجبوا إن قلت لكم إنّ بلدانا مثل الكوبت لا يتمّ فيها انتخابا هيآت تشريعيّة إطلاقا. التّعدّدية، في مفهوم الحكّام العرب، إذا مصطلح شائع ولكنّه خاو وفارغ من كلّ معنى لأنّ الأحزاب المعارضة إن وجدت إنّما هي مهمّشة وتعاني من ضعف شديد. وقد أشار هانتنتون إلى أنّ البلد الذي تكون فيه أحزاب المعارضة عليلة أو مريضة أو سقيمة يكون بلدا ضعيفا في سياسته. أقدّم لكم مثلا السّينغال والصّومال فهما بلدان ضعيفان. انعدام أحزاب المعارضة يجعل البلد ضعيفا وهذا صحيح فالحكّام العرب، في ظلّ انعدام المعارضات الوطنيّة، ليس ثمّة أضعف منهم أسواء في المحافل الدوليّة أم في تكريس قراراتهم ذات البعد الجهويّ أم في الحفاظ على استقلاليّتهم في تدبير شرون البلاد. إنّ العرب لا وزن لهم دوليّا نتيجة قمع حكّامهم وتسلّطهم الاستبدادي على شعوبهم. وفي البلدان التي لا توجد بها نخب معارضة علمانيّة نجد التّفكير الدّينيّ مسيطرا وضاربا أطنابه في تفكير عموم الشّعب. الدّيمقراطيّة تفترض مسبقا وجود أحزاب علمانيّة معارضة وفي هذا الصّدد يعدّ لبنان من أكثر البلدان العربيّة ديمقراطيّة ولقد كان لبنان سبّاقا في كلّ المضامير على مرّ القرون. أنا أكتب عن هذا الموضوع لأنّه يشكّل معضلة العرب ولأنّ تهديدا حقيقيّا يلوح في الأفق إد ما الذي قد يمنع أمريكا الذي تنهج حاليا سياسة همجيّة من الإنقضاض على سوريّة مثلا في طلّ انعدام الدّيمقراطيّة في ذلك البلد العزيز علينا؟ ثمّ إنّ انعدام الدّيمقراطيّة يؤدّي إلى ترعرع وتصلّب الأحزاب الدّينيّة الرّاديكاليّة التي تعدّ منافسا قد يهدّد قيام الدّيمقراطيّة ذاتها في بلداننا. أنا لست ضدّ الأحزاب الإسلاميّة المعتدلة شريطة أن يجعلها اعتدالها تحترم غيرها من الأحزاب ولا تهاجمها. إنّ المجتمع تركيبة معقّدة من المكوّنات (جماعات، كتل بشريّة، نساء ورجال وأطفال ومؤسّسات...) لا يمكن أن تلائم بينها سوى الدّيمقراطيّة. فإذا أدركنا ذلك وعينا أنّ الآخر له حقّ في العيش مثلك تماما في بلده الذي هو بلدك أيضا. وعلاوة على ذلك إنّ تبنّي الأفكار الدّيمقراطيّة يساهم في تآكل النّظم الإستبداديّة. وللحديث بقيّة فانتظروا تكملة هذا الموضوع. المصدر: دنيا الوطن تاريخ النشر : 2008-07-25