عندما تقرأ سيرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، مولده ونشأته ومبعثه، تلحظ الاختلاف في التواريخ التي اعتمدت كلّها على حادثة الفيل أو عام الفيل، وقد جاء هذا الاختلاف بفعل تقديرات العلماء الذين منهم من ذهب إلى أنّ عام الفيل كان سنة 571 ميلادي ومنهم من قال بأنّه يوافق سنة 569، ما جعل كتبة السيرة العدول يتعمّدون الإشارة إلى الرّواية المشهورة دون تأكيد منهم على مدى الدقّة والصحّة فيها، إذ أنّ ذلك لا يغيّر من السير التاريخي شيئا... وحريّ بنا نحن المسلمين أبناء المسلمين أن نلمّ بسيرة الحبيب المصطفى (أو بملخّصها) نسبا ومولدا ونشأة ومبعثا ومجاهدة وهجرة ومدافعة للباطل وفتحا وتأسيسا للدولة ومعاملة لغير المسلمين، ليس من أجل التباري بها في منابر الحفظ والجوائز المالية أو العينية ولكن من أجل الاتّباع والتأسّي والمحبّة... وكلّ هذه المواد جاهزة بفعل أهل الخير والصلاح من العلماء الذين أحبّوا الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وآله وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فعرّفوه لنا بكتاباتهم النّافعة حتّى رأيناه وسمعناه وصاحبناه فأحببناه كما لو كنّا جميعا عمر الفاروق بن الخطّاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو يخاطبه "الآن يا عمر" (*)...
علينا أن نصحبه صلّى الله عليه وسلّم رضيعا وطفلا يتيما وشابّا مستقيما وفتى أمينا حكيما وزوجا كريما ووالدا رحيما ونبيّا صدّيقا وعبدا شكورا منيبا وقائدا مقداما مَهيبا وصاحبا متواضعا ودودا... ولا ضير في أن نتذكّر أيّام مولده ونحتفل بها إذا كان في ذلك خير، ولا بأس أن نتوقّف عند مختلف فصول سيرته صلّى الله عليه وسلّم لأخذ الدروس والعبر، بل ونتوقّف عند ساعة موته لنتعزّى بها في كلّ ما يصيبنا من مصائب الموت أو الفقد. وأحسن من ذلك كلّه أن نجعله صلّى الله عليه وسلّم حاضرا في كلّ لحظة من لحظات حياتنا، فنذكره ونشكره إذا استيقظنا وإذا توضّأنا وإذا نظرنا في المرآة وإذا صلّينا وإذا خرجنا من البيت وإذا دخلنا السوق وإذا ولجنا المسجد وإذا رأينا هلالا أو نزلنا بلدة أو ركبنا دابّة فردّدنا دعاء مأثورا علّمنا إياه صلّى الله عليه وسلّم وأن نتّبعه فنترك ما نهانا عنه ونأتي ما استطعنا ممّا أمرنا به دون إفراط أو تفريط... ولا نبخل عليه بالصلاة والسلام، بل نقتدي بالله وملائكته ونطيع الله سبحانه وتعالى في دعوته: "إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما" (**)، موقنين بأنّ الله يضاعف الحسنات كما أخبر بذلك صلّى الله عليه وسلّم بقوله: "من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرا ومن صلّى عليّ عشرا صلى الله عليه مائة..."!...
ذكّرت نفسي وإيّاكم بهذه المعاني، وأنا أقرأ بصحيفة تونس نيوز فقرة صغيرة عنوانها: "بسمه تعالى!؟، تهاني وتبريكات بمناسبة الذكرى العطرة للبعثة النبوية الشريفة" كتبها "منتسب" إلى جمعيّة أهل البيت الثقافيّة في تونس، لا يحسن الصلاة والسلام على سيّد أهل البيت، يدّعي فيها حلول ذكرى البعثة النّبوية... وهو كلام - إلى جانب أنّه خال من الدقّة (***)- محدَثٌ ومُفرِّق. إذ لم يسبق إلى علمي – وقد تجاوزت الخمسين سنة – أنّ المسلمين في تونس أو غيرها في بلاد الإسلام يحتفلون بمناسبة ذكرى البعثة... وحسبنا الله ونعم الوكيل... (*): عن زهرة بن معبد أنّه سمع جدّه عبدالله بن هشام يقول: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلاّ من نفسي، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم له: "لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنّه الآن لأنت أحبُّ إليّ من نفسي. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "الآن يا عمر"... رواه البخاري (6632) (**): عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت "إنّ الله وملائكته يصلون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما" قمت إليه فقلت السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟! قال: "قل: اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد". (***): نقل ابن كثير رواية عن أبي جعفر محمّد الباقر، أنّه صلّى الله عليه وسلّم قد جاءه الملك أوّل ما جاءه في غار حراء، يوم 17 من شهر رمضان، الموافق 6 أغسطس سنة 610 م، وذلك لمّا بلغ السنة الحادية والأربعين من عمره. (راجع السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي)